- كل أعمال الحج تدور على تكريس التوحيد
- الاستجابة لأمر الله بالحج توحيد له
- التلبية، ومعانيها
- معنى التكبير، ودلالاته
- شمول الدعاء ما بين الركن اليماني، والحجر
- اشتمال سورة الكافرون، والإخلاص على التوحيد
- اشتمال الأذكار الوارد ذكرها عند السعي بين الصفا، والمروة على التوحيد
- الدعاء يوم عرفة
- ذكر الله عند المشعر الحرام
- ذكر الله أيام التشريق
- وقفة تأمل مع بعض أعمال الحج
- عبودية السعي بين الصفا، والمروة
- عبودية تعظيم الشعائر
- عبودية الاتباع، والانقياد، والتسليم الكامل لله وحده
- نحن أمة عامرة عزيزة لها جذور عميقة في التاريخ
- تذكر يوم المحشر
- استشعار عظمة الله، وقدرته
- الحج رمز لوحدة الأمة
- من مقاصد الشريعة إظهار قوة المؤمنين، ووحدتهم
- رمي الجمار مراغمة للشيطان، وتجديد للعهد بعداوته
- اجتماع العبادات المالية، والبدنية في الحج
- الحلق، والتقصير لون من ألوان العبودية
- عبودية المراقبة في الحج
- عبودية الشكر في الحج
- في الحج براءة من الشرك، ومن أهله، ومخالفة للمشركين
- في الحج مخالفة لهدي الكفار في أعمالهم
- في الحج قصد إغاظة المشركين
- وفيه تحقيق للولاء بين المؤمنين
- مراغمة الشيطان في الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد.
أيها الإخوة: حديثنا عن التوحيد في الحج، عن توحيد الله - تبارك، وتعالى - نحن نعلم جميعًا أن الله - تبارك، وتعالى - عندما شرع الشرائع للناس، فإنما شرعها لحكمة عظيمة يعلمها؛ إذ إن الله من أسمائه الحكيم، ومن أوصافه الحكمة، فالحكمة صفة ثابتة راسخة لله لا يشرع شيئًا إلا لحكمة، ولا يقضي قضاء إلا لحكمة، ولا يأمر أمرًا إلا لحكمة، ولا يفعل فعلاً إلا لحكمة.
فالله حكيم في أقواله، وأفعاله، وهو حكيم في أقداره إذا تيقن العبد هذا المعنى فإن قلبه يطمئن إلى أحكام ربه - تبارك، وتعالى -.
ومن ثَمّ فإن ذلك يورثه رضى بالأحكام الشرعية، وطمأنينة في قلبه، فلا يتشكك، ولا يتساءل تساؤل المتحيرين حينما يقولون: لماذا شرع الله كذا؟ ولماذا نطوف بالبيت سبعاً؟ ولماذا نقف في عرفة؟ ولماذا نجول في هذه المناسك بهذه الطريقة التي أمرنا الله بها؟.
أقول: من تأمل في أقوال الحج، وفي أفعاله مما شرعه الله لنا فيه من الأقوال، والأفعال فإنه يجد التوحيد هو الركيزة الأولى التي تدور عليها جميع أعمال الحج.
كل أعمال الحج تدور على تكريس التوحيد، وتقريره، وتثبيته في نفوس الأفراد، وفي نفوس العالمين، كيف لا، وهو الأصل الكبير الذي من أجله بعث الله الرسل - عليهم الصلاة، والسلام - فكلهم جاءوا يدعون إلى التوحيد، كل نبي جاء يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وإذا كان العبد يدور في هذه المناسك، ويقوم بأعمال الحج، ويردد تلك الكلمات التي يرددها عند إحرامه، أو في أي مقام من مقامات المناسك، دون أن يستشعر هذا المعنى فإن أفعاله، وأقواله تبقى غير مؤثرة في نفسه، سيكون أثرها منعدمًا، أو يكون أثرها ضعيفاً، ومن ثَمّ فإن سلوك الحاج، وقلبه قد لا يتغير كثيراً في أثناء المناسك، أو بعد المناسك، فيعود فلان هو فلان، لم يخبت قلبه، ولم تزكُ نفسه، ولم تتغير؛ لأنه يردد أشياء لا يفهمها، ولا يستشعرها، ويفعل أشياء لربما لم يدرك حقيقتها، وما ترمو إليه، ومن ثَمّ فإنها لا تؤثر فيه.
نستطيع أن نقول، ونحن مطمئنون كل الاطمئنان: إن التوحيد هو الأصل الأساس الذي تدور عليه جميع أقوال الحاج، وجميع أفعاله، مما أمره الله به أن يقوله، أو أن يفعله.
ولسنا نبالغ حينما نقرر هذه الحقيقة، إن جميع أقوال الحج توحيد، وإن جميع أفعال الحج توحيد، بل إن القرآن من أوله إلى آخره كله توحيد، ولهذا قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا[1].
وقال أيضًا جماعة من أهل العلم كابن القيم، وغيره، كما في شرح العقيدة الطحاوية قالوا أقوالًا تشبه هذا.
الحج مدرسة لتثبيت التوحيد، مدرسة لتقرير هذا الأصل الكبير في نفوسنا، وفي أعماقنا، وفي مجتمعنا، وهو مدرسة لتقرير التوحيد بين الأمة جميعًا.
غالب سور القرآن، بل جميع سور القرآن شرح لأنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء، والصفات، والقرآن من أوله إلى آخره يشرحها، ويبينها بطرق متعددة.
ذلك أن القرآن إما خبر عن الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى توحيد الله، وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر، ونهي، وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد، ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، والسلاسل، والأغلال، فهذا جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد، وحقوق أهله، والثناء عليهم، وفي شأن ذم الإشراك، وعقوبة أهله، وجزائهم.
- البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/6).
هذه الجموع التي تتحرك في هذه الأيام لتنطلق إلى بيت الله الحرام، ما الذي يحدوها إلى ترك الأهل، والأموال، والأوطان، وترك الزوجات، والأولاد؟.
الذي يحدوها هو الاستجابة لأمر الله - تبارك، وتعالى - الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24].
فالاستجابة لله التي أمرنا الله - تبارك، وتعالى - بها تشمل الاستجابة إلى الإيمان، وإلى دين الله - تبارك، وتعالى - فهو أمرٌ للناس بالدخول في الإسلام، كما أن هذه الاستجابة التي أمرنا الله بها هي أمر للدخول في جميع شرائع الدين التي شرعها الله لنا.
وإن إبراهيم حينما أمره الله - تبارك، وتعالى - أن يؤذن في الناس بالحج، قال له: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] أي: يأتونك على الأقدام، إجابة لدعوتك، ويأتونك أيضًا على كل ضامر، وهو البعير، أو الفرس، أو الدابة المُضمَّرة التي أضناها طول السفر، فأصابها شيء من الضعف، والهزال؛ نظرًا لتتابع المسير، والتعب الذي عانته في قطع هذه الفيافي، والقفار، حتى وصلت الى تلك الديار؛ استجابة لأمر الله - تبارك، وتعالى -.
فأقول: هذه الاستجابة لا شك أنها توحيد، كيف لا تكون توحيدًا، وقد ترك العبد ما وراءه، وما دونه، إرضاء لربه - تبارك، وتعالى؟!.
فهذا انقياد في قلب العبد، وانقياد في جوارحه، وسائر بدنه، حيث أنه قدِم طلبًا لمرضاة الله .
وتأمل أمر الله حينما قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] والأمر بإتمام العبادة أمرٌ بابتدائها، كما هي القاعدة المعروفة من قواعد التفسير وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فهذا أمر بالإخلاص، فإن إتمام الحج، والعمرة يكون لله وحده لا شريك له، لا طلبًا لمحمدة الخلق، أو أن يلقبوه بأنه حاج، أو أن يتحدث الناس عن مآثره، وفضائله، وكم حجة حجها، فيُعد ذلك في آثاره بعد ذلك، ويُذكر في ترجمته، ليس هذا المراد، إنما يكون الحج لله وحده لا شريك له، فهذه الجموع تلبي نداء الله وتملأ الفضاء تكبيرًا، وتلبية، تعج بذلك طلبًا لمرضاة ربها.
إنها لا ترفع صوتًا تنادي به لمصلحة زعيم من الزعماء، أو لطائفة من الطوائف، أو لحزب من الأحزاب، أو لشعار من الشعارات، إنها تردد شيئاً واحدًا، وهو التوحيد الخالص لله - تبارك، وتعالى - تجتمع أجناس البشر من أعماق القارات الخمس تحقيقًا لهذا النداء، تلبية لهذا الأمر الرباني الذي أمرهم الله به .
تأمل ما في الحج من الأقوال، والأذكار من أوله إلى آخره تجد أن التوحيد هو الأساس الذي تدور عليه من أولها إلى آخرها .
ذِكر الله هو المقصود الأعظم لهذه العبادات التي شرعت لنا، ويتجلى ذلك في الحج غاية التجلي لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج: 28] فذِكر الله هذا علة من علل شرع الحج للناس.
وفي حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: عن النبي ﷺ أنه قال: إنما جُعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا، والمروة لإقامة ذكر الله[1].
فذكر الله هو المقصود الأول، وهو المقصود الأعظم الذي يتجلى في عبادتنا لاسيما في التوحيد، فترتبط القلوب بذكر الله وتعمر به في سائر أيام المناسك.
- أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل (2/179)، رقم: (1888)، والترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء كيف ترمى الجمار (3/237)، رقم: (902).
ومن هذا الذكر الذي نردده، ونقوله إذا أردنا الحج، هو ما نقوله لأول وهلة حينما نريد أن نعقد الإحرام، إنه شعار التوحيد "لبيك حجة، لا رياء فيها، ولا سمعة" أو نقول: "لبيك عمرة لا رياء فيها، ولا سمعة".
نقول ذلك مذكرين لأنفسنا بالإخلاص لربنا، ومليكنا والنبي ﷺ كما في صحيح مسلم من حديث جابر حينما وصف إهلال الرسول ﷺ قال: فأهلّ بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك لا شريك لك[1].
ويقول أنس في وصفه لإهلال رسول الله ﷺ: اللهم حجة لا رياء فيها، ولا سمعة[2].
وفي هذا تذكير للنفس بالتوحيد عند أول خطوة نخطوها حينما نريد الحج، والعمرة.
ثم انظر إلى التلبية التي يرددها الحاج بعد إهلاله بالتوحيد، أفضل الحج: العجّ، والثَّج[3] والعج هو رفع الصوت بالتلبية، حينما يقول الحاج، ويبح صوته، ويردد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك لا شريك لك.
فهذه التلبية كلها توحيد، من أولها إلى آخرها، كلها توحيد، كلها أساس الدين، وأصله، وفيها نبذٌ للإشراك بجميع صوره، وأشكاله.
فالواجب علينا جميعا أن نستشعر هذه المعاني، وما دلت عليه هذه التلبية، وأن نعرف مضمونها، وحقيقتها، ومعناها، وأن تكون هذه التلبية حافزًا لنا على لزوم الإخلاص في جميع أعمالنا، وأقوالنا في الحج، وأن تكون حافرًا لنا على أن نستشعر مراقبة الله - تبارك، وتعالى - وأنه معنا، وأنه يرانا، وبالتالي فإن الإنسان يكف جوارحه عما لا يرضي الله - تبارك، وتعالى - ويحمل نفسه على الامتثال، والانقياد لكل أمر أمره الله - تبارك، وتعالى - به.
هذه التلبية إذا استشعر الإنسان معناها ذلت نفسه، وصار قلبه مخبتاً، منكسرًا لربه، ومليكه .
هذه التلبية ترسيخ، وتأكيد لعقيدة التوحيد في نفوس أصحابه.
وقد ذكر العلماء للتلبية معانيَ متعددة، فبأي هذه المعاني فسرناها نجد أن التوحيد هو المدار الذي يدور عليه هذا المعنى الذي فسروها به.
من فسرها بالإجابة فإنك إذا قلت: لبيك اللهم لبيك، إنما تقول إجابة لك بعد إجابة، وإنما تجيب داعيًا دعاك، ولا يمكن أن يجاب من لا يتكلم، ولا يأمر، ولا ينهى، وهذا لا شك من معاني التوحيد.
وإذا قلنا: إن المعنى يدور على الانقياد، فإذا قلت: لبيك اللهم لبيك، أي: انقيادًا لك بعد انقياد، مأخوذ من لبّبتُ الرجل إذا قبضت على تلابيبه، والمعنى: انقدت لك يا رب، وسعتْ نفسي لك، خاضعة، ذليلة، كما يُفعل بمن لُبِّب بردائه، وقُبض على تلابيبه.
وإذا فسرنا التلبية بالإقامة فإننا نقول: إنها مأخوذة من لبّ بالمكان، إذا أقام به، ولزمه، فكأنك تقول: أنا مقيم على طاعتك يا رب، ملازم لها، فتتضمن التزام دوام العبودية لله - تبارك، وتعالى -.
وإذا قلنا: إن المعنى هو المحبة، فكأنك تقول: حبًّا لك بعد حب، من قولهم: امرأة لَبّة إذا كانت محبة لولدها، ولا تقول لأحد لبيك إلا إذا كنت محبًّا له.
وإذا فسرناها بالإخلاص، فكأنما أُخذت من لُبِّ الشيء، وهو خالصه، ومنه لُبُّ الرجل، وهو عقله، وقلبه.
وإذا فسرت بالاقتراب فكأنها مأخوذة من الإلباب الذي هو بمعنى الاقتراب، أي: أقترب إليك اقترابًا بعد اقتراب يا رب.
هذه التلبية - بجميع هذه المعاني، وبأيها فسرناها - هي شعار ملة التوحيد، شعار ملة إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام -.
هي شعار التوحيد الذي هو روح الحج، ومقصوده الأعظم، بل روح جميع العبادات كما أسلفنا، وهذه التلبية من تأملها فإنه يجد أنها تشتمل على حمد الله .
إذا قلت: لبيك اللهم لبيك: إجابةً لك بعد إجابة، إخلاصًا لك بعد إخلاص، انقيادًا لك بعد انقياد، أو غير ذلك من المعاني.
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فأنت تنفي جميع الشركاء عن الله - تبارك، وتعالى - وهذا هو الشق الأول من كلمة التوحيد لا إله إلا الله.
فأقول: يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والحمد هنا معرف بـ"ال" الدالة على الاستغراق، والشمول، والعموم، كأنك تقول: إن جميع المحامد لك يا رب، ولا يمكن أن تُستغرق جميع المحامد إلا لمن كان موصوفًا بجميع أوصاف الكمال، من أولها إلى آخرها، ولا يمكن أن يتصف بصفات الكمال جميعًا إلا من كان هو الرب الإله المعبود، الذي خلق الخلق، وأسدى إليهم جميع النعم الظاهرة، والباطنة، لا يمكن أن تُنسب جميع المحامد إلا لمن استكمل جميع أوصاف الكمالات.
ثم إذا قلت: إن الحمد، والنعمة، فهذا إقرار منك بإنعام الله وإفضاله عليك مما يحدوك إلى شكره على هذه النعم ظاهراً، وباطنًا، أن تشكره بقلبك، وأن تشكره بلسانك، وأن تشكره بجميع جوارحك، بتعبيدها لربها، وخالقها - سبحانه، وتعالى -.
وحينما تقول: إن الحمد، والنعمة، النعمة أيضًا دخلت عليها "ال" المعرِّفة، فهذا أيضًا يفيد معنى الاستغراق، والعموم، والشمول، فكل النعم إنما أسداها ربنا - تبارك، وتعالى - المطر من الله، هذه المراكب التي نركبها هي من الله، هذه النعم التي تتقلب بها من المساكن، وجميع المآكل، والمشارب، والملابس، وما إلى ذلك، كلها من الله - تبارك، وتعالى - فينبغي أن تُسخَّر في طاعته، والزلفى إليه فهو مولي النعم.
هذه التلبية فيها اعتراف بأن الملك جميعًا لله الواحد القهار "إن الحمد، والنعمة لك، والملك" أي: أن الملك لك، وحدك لا شريك لك، وهذا يتجلى في اليوم الآخر في يوم القيامة، حيث لا يدعي أحد الملك مع الله وهو أعظم يوم، أعظم من جميع أيام الدنيا، ولهذا قال الله في سورة الفاتحة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] مع أن الله مالك ليوم الدين، ومالك لأيام الدنيا، وهو الملك، لكنه خص يوم الدين لعظمته؛ ولأنه لا يدعي أحد الملك في ذلك اليوم لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16].
فإذا كان الله هو المالك ليوم الدين فهو لما دونه أملك - سبحانه، وتعالى - وإذا كان هو الملك ليوم الدين فهو لما دون يوم الدين لا شك أنه ملك، وأيّ ملك.
هذه بعض المعاني التي دلت عليها هذه التلبية، وفي الجملة أنت حينما ترددها كأنك تقول: يا رب أجيبك إجابة بعد إجابة، فأنا خاضع لك، منقاد لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات، طاعة لك، واستسلامًا، دون إكراه، ولا تردد، فيرهف شعور الانسان إذا فهم هذا المعنى، ويشعر بالتجرد لله وأنه ترك ما وراءه تلبية لأمر ربه فأورثه ذلك من المعاني في قلبه، وفاض ذلك على جوارحه من السكينة، والخشوع، والإخبات، والذل لربه - تبارك، وتعالى - فاض عليه من المعاني في ذلك ما لا يُقادَر قدره، فتمتلئ قلوب الحجاج الذين يفقهون هذه المعاني عبودية، وتسليمًا لله .
ما أجدرنا أن نتذكر أن هدير التلبية، وهدير الحجاج بـ"لبيك اللهم لبيك" الذي يضج به الفضاء، وتنطلق به حناجر الناس، أنه عنوان لتوجه المؤمنين الصادقين إلى عالم الغيب، والشهادة، هو إعلان مدوٍّ، واعتراف بأن الله هو ربهم، وإلههم، ومليكهم، لا إله غيره، ولا معبود سواه.
إن هذا المعنى إذا استقر في نفس الإنسان، ولازمه، ودام عليه، فإن ذلك يحمله على ركوب الأخطار، وعلى بذل النفس، والنفيس، طلبًا لما عند الله .
فيهون أمامه حطام الدنيا بأجمعها، لا تستهويه شهواتها، وملذاتها، فتقعده عن محبوبات الرب إنه حداء يحدو السالكين إلى الله إلى مزيد من القربة، والزلفى لله الواحد القهار.
أيها الإخوة، لما كانت هذه المعاني مستقرة في نفوس المؤمنين، استطاعوا أن يفتحوا المشارق، والمغارب في أوقات يسيرة، ولما ثقلت نفوس الناس، واشتدت، وطأة الدنيا عليها، وأثقلتهم شهواتهم، وعلائقهم بالأولاد، والزوجات، والأموال، والحطام صاروا في مؤخرة الركب.
صار الواحد منهم يستكثر البذل القليل في سبيل نصرة الدين، وإعزاز كلمة الله - تبارك، وتعالى -.
ثم تأملوا ألفاظ هذه التلبية، لبيك اللهم لبيك، الله دعاهم، فقالوا له: إجابة لك بعد إجابة، أجابوه، ومن دعا غيره من الكرام فإنه يكون في ضيافته، ويكرمه.
فينبغي على العبد أن يستحضر أنه في ضيافة الله فيتأدب بالآداب اللائقة، ويحفظ لسانه، ونظره، وجوارحه عن كل ما لا يليق بهذه الضيافة.
هل يستحضر الحجاج مثل هذه المعاني فيتأدبوا؟ الواقع أننا ننسى كثيرًا، ونغفل كثيرًا، ولربما لا نفهم كثيراً من هذه المعاني، ومن ثَمّ ينطلق لسان الحاج بالسباب، والشتائم، والمهاترات، والأمور التي لا تليق، وتمتد عينه إلى النظر إلى ما حرم الله وتمتد جوارحه إلى ما لا يحل، بل لربما واقع بعض ما لا يليق تحت بيت الله الحرام، وهو يطوف بأشرف مكان، وهو في أطهر بقعة، وهو يطوف بالكعبة، هل هذا يستحضر هذه المعاني؟ هل هذا يوقن بأن الله يراه، ويطلع عليه؟.
حينما نقول: لبيك اللهم لبيك، ينبغي أن نتذكر ذلك جميعًا، وأن لا تكون مجرد كلمات نرددها بألسنتنا، دون أن تكون واقعًا يعمر قلوبنا، ويظهر على جوارحنا.
كان أهل الجاهلية يلبسون الحق بالباطل، ويخلطون التوحيد بالإشراك، يقولون: لبيك اللهم لبيك، إلا شريكًا لك، تملكه، وما ملك.
أما أهل الإيمان فإن الله علمهم أن يقولوا: "لببيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" هذا إعلان ممن دخل في هذا النسك إعلان بالتوحيد، وإقرار، واعتراف بأن الملك لله، وأن النعمة جميعًا هي من الله، وأن الله هو المالك للملك، وهو المتصرف بجميع هذا الخلق، وإذا استحضر العبد هذا المعنى فإنه لا يخاف أحداً إلا الله ولا يرجو غير الله، ويستيقن جيدًا أن التوكل ينبغي أن يكون على الله، وأن طلب المدد بالنصر، والعون، والتوفيق يكون مطلوبًا من الله وليس من أحد من المخلوقين، الشفاء عند الله، والغنى عند الله، والولد إنما الله يرزق به، وليس عند أحد من المخلوقين قليل، ولا كثير من هذه الأمور.
ثم انظر إلى ما جاء من بعض العبارات في التلبية مما ورد عن بعض السلف - رحمهم الله -: لبيك، وسعديك أي: إسعادًا لك بعد إسعاد يا رب، ومسارعة في طاعتك، وطلب رضاك بعد مسارعة والخير بيديك كل خير هو منك، وبتوفيقك، وفضلك، ليس بنا نعمة إلا وهي من الله .
مهما يكن من خير فمرده إلى الله، وفي تعريف الخير بـ"ال" في "والخير بيديك" أي: جميع الخير في يدي الله - تبارك، وتعالى - والرغباء إليك، والعمل[4].
وفي بعض الروايات: والرُّغبى إليك، والعمل[5] والمعنى: الضراعة، والمسألة إنما هي إليك يا الله، فأنت المقصود في الحوائج، وأنت الحقيق بالإجابة، وأنت المقصود بما نعمل من طاعات، فتقبل منا أعمالنا، وارحم ضراعتنا، وأجب سؤالنا، واغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
هذه هي التلبية، وهذه هي معانيها، فحري بالمؤمن أن يستشعرها، ثم نحن نردد هذه التلبية بين المناسك، نرددها حتى نصل إلى الكعبة، ونرددها أيضًا كما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ وأصحابه أنهم لبوا، وهم خارجون إلى عرفات[6].
وكذلك حينما خرج النبي ﷺ وأفاض من عرفات إلى مزدلفة كان يلبي في طريقه، واستمر في التلبية حتى رمي جمرة العقبة.
ثم تأمل ما يقوله المسلم حينما يصل إلى المسجد الحرام، حينما يضع رجله ليدخل هذا المسجد فإنه يقول ما يقال عند الدخول إلى سائر المساجد: بسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك[7] وهذا لا شك أنه توحيد، فهو يدخل يقول: بسم الله، أو يقول: أعوذ بالله العظيم، والاستعاذة لون من ألوان التوحيد.
يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم[8].
هذا كله من التوحيد، الاستعاذة توحيد، والدعاء توحيد.
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الحج على الرحل (2/965)، رقم: (2890).
- أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في فضل التلبية، والنحر (3/180)، رقم: (827)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب ما يوجب الحج (2/967)، رقم: (2896).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب التلبية، وصفتها، ووقتها (2/841)، رقم: (1184).
- السنن المأثورة للشافعي (ص: 376)، رقم: (512)، وشرح السنة للبغوي (7/49).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب التلبية، والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة (2/933)، رقم: (1284).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب المساجد، والجماعات، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/253)، رقم: (771).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد (1/127)، رقم: (466).
ثم إذا وصل إلى الكعبة، وأراد أن يستلم الحجر الأسود ليبدأ بالطواف فإنه يكبر، ويكبر عند كل شوط حينما يحاذي الحجر الأسود، يقول: الله أكبر، أو يقول: بسم الله، والله أكبر.
كما يردد هذا التكبير على الصفا، ويردده على المروة، ويكبر عند رمي الجمار، ويكبر في أيام التشريق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ما معنى هذا التكبير؟ وما دلالته؟ التكبير هو رأس الذكر، الله أكبر: هو أكبر من كل شيء، أكبر من جميع ما في هذه الدنيا، مما يدعونا إليها، ويشدنا إلى تطلبها.
الله أكبر من أملاكنا، وأموالنا، وأهلنا، وهو أكبر من كل شيء نستعظمه في هذا الوجود، الله أكبر من كل شيء، ومن ثَمّ فإن كل شيء هو دون الله .
وإذا استقر هذا المعنى في النفس فإنه إذا سمع المؤذن يقول: "الله أكبر" وهو يلاعب ولده، أو يشتغل ببعض مهنته، أو بما يستهويه من أمواله، أو غير ذلك، فإنه يترك ما بيده؛ لأن الله أكبر مما هو مشتغل به، مما يحبه قلبه.
التكبير هو أول ما أُمر به النبي ﷺ فيما نزل عليه في الرسالة: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 1 - 3].
فإذا كبر الداعية، واستحضر معنى هذا التكبير فإنه لا يخاف من أحد في تبليغ دعوته الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39].
الله أكبر: كلمة عظيمة، تحيي موات النفوس الهامدة، لصوتها أثر مجلجل كبير، يعرفه الكفار عند اللقاء، يعرفونه معرفة جيدة، هي سيف في الحروب لا يُثلم.
وقد حدثنا النبي ﷺ عن مدينة تفتح في آخر الزمان، أنها تفتح في هذه الكلمة: فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا[1]. رواه مسلم.
فهو أمر مشاهد معروف ترى آثاره إلى يومنا هذا عند لقاء العدو، حينما يهتف المجاهدون بقولهم: الله أكبر، فيتضعضع العدو، وتختل صفوفه، ويملأ قلوبهم الخوف، والوجل، والارتباك، والرعب، كيف لا، والنبي ﷺ يقول: نصرت بالرعب مسيرة شهر؟[2].
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن، وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (4/2238)، رقم: (2920).
- أخرجه البخاري، كتاب التيمم (1/74)، رقم: (335).
وحينما نردد ما بين الركن اليماني، والحجر الأسود: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
فهذا كله توحيد، هو دعاء نتوجه به إلى الله - تبارك، وتعالى - أن يؤتينا حسنة شاملة في الدنيا، فكل المسارّ، والطيبات في هذه الحياة الدنيا داخلة في قولك: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً كل ما تطلبه النفوس من الطيبات فإنه داخل في ذلك، وإذا قلت: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً يدخل في ذلك جميع نعيم الآخرة.
ثم إذا فرغ العبد من الطواف يتوجه إلى مقام إبراهيم ﷺ فيصلي ركعتين، يقرأ في الأولى بسورة الكافرون، ويقرأ في الثانية بسورة الإخلاص، وهاتان السورتان كما هو معلوم تشتملان على التوحيد، بل مدار السورتين على التوحيد، أن تتبرأ في الأولى من المشركين، ومن دين المشركين، ومن عبادتهم، فتقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2] لا أعبد في الحال ما تعبدون وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ في الحال مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 3] أنتم تعبدون آلهة أخرى وَلَا أَنَا عَابِدٌ [الكافرون: 4] في المستقبل، لن أتحول إلى عبادتكم وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 4، 5] لن تتحولوا في المستقبل لتعبدوا إلهي.
فهو قطع للطريق عليهم في طلب مداهنة رسول الله ﷺ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9].
وإذا قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] فهذه هي صفة الرحمن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ واحد لا شريك له، في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 2] الذي تصمد إليه جميع الخلائق في حوائجها، ورغائبها، فهو فرد يفتقر إليه كل مخلوق، لا قوام للخلق بحال من الأحوال إلا بإقامة الله لهم، ولهذا كان هو الحي القيوم - سبحانه، وتعالى - القائم بنفسه، المقيم غيره، ولولا إقامة الله للخلق، لم يكن لهم بقاء في هذه الحياة، فهاتان السورتان مدارهما على التوحيد، والإخلاص.
ثم يتوجه العبد بعد ذلك إلى الصفا، ويقرأ قول الله وهو يصعد الصفا: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة: 15] فحينما يقرأ هذه الآية يذكر نفسه أنه حينما يسعى بين هذين الجبلين، إنما يسعى عبودية لربه، ومليكه لا يسعى تعظيمًا للصخور، ولا يسعى تعظيمًا لشيء من حطام هذه الدنيا، وإنما يسعى لأن الله أمره، وتعبده بهذا السعي، الصفا، والمروة من شعائر الله، فهو يفعل ذلك تحقيقًا لهذه العبودية.
ثم بعد ذلك يتوجه إلى القبلة حينما يصعد الصفا، ويكبر ربه - تبارك، وتعالى - ويوحده، ويقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير وهذا توحيد لا يحتاج منا إلى شرح، ويقول: لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب، وحده[1].
إعلان للتوحيد لا إله إلا الله، وحده أنجز، وعده بنصرة عباده المؤمنين، أنجز وعده، ونصر عبده ﷺ ويمكن أن يقال: إن "عبد" هنا مضاف إلى المعرفة - ضمير الهاء - ونصر عبده أي: ونصر عباده.
وهزم الأحزاب وحده الأحزاب هم جموع الكفر، الذين تجمعوا، وتحزبوا، على رسول الله ﷺ وأصحابه في المدينة النبوية، في وقعة الأحزاب المعروفة.
حينما نردد هذا الكلام فإنه يفيض على النفس شعوراً أكيداً بأن النصر من الله - تبارك، وتعالى - وأن المدد منه وحده، وأن القوة، والمعونة إنما تكون باللجوء إليه، وإحسان الصلة به، وأن تكون أمورنا مع الله على قاعدة النصرة: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
لن يكون النصر بالاستخذاء للعدو، ولن يكون النصر بإغراق الأمة بشهواتها، وملذاتها التي حرمها الله .
النصر لا يكون للأمة اللاهية المترفة، التي تقدم شهوات النفوس على محبوبات الله - تبارك، وتعالى - حينما يردد جميع الحجاج الذين جاءوا من جميع الآفاق هذا المعنى: نصر عبده، وهزم الاحزاب وحده هو وحده الذي هزم الأحزاب، ما هزمتهم الملائكة، ولا هزمتهم جموع المؤمنين، إنما الذي هزمهم هو الله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160].
هذه عقيدة تكون راسخة في نفس المؤمن، ومن ثمّ فإنه لا يلتفت إلى الشرق، ولا إلى الغرب، يطلب منهم النصرة، والعون، والمدد.
إذا عرف العبد أن النصر من الله وأنه هو الذي هزم الأحزاب فإنه لا يتكل إلا على الله.
الله حينما أنزل الملائكة، وأخبر عن إنزالهم قال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [الأنفال: 9، 10] نزول الملائكة هو بشرى فقط، وقد قرر الله هذا المعنى بأقوى صيغ الحصر: النفي، والاستثناء وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 10].
فنزول الملائكة هو للبشارة مع أن الملَك الواحد يستطيع أن يدمر جميع جموع العدو، وبارجاته، وحاملات الطائرات لربما بريشة من جناحه، ولكن الله يعلِّم المؤمنين أن انتظار النصر إنما يكون من الله، وليس من الملائكة، فالملائكة لا يملكون لكم نصرًا، إنما أنزلهم الله لطمأنينة القلوب، للبشرى لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126].
فالذي يملك العزة هو الذي يملك النصر، فيستشعر الحاج أن ربه الذي يعبده أنه عزيز قوي، منيع الجناب، يملك النفع، والضر، ويملك تحطيم العدو.
فينبغي أن نتوجه إليه وحده لا شريك له، وأن نحسن الصلة به وألا نحاربه بمساخطه، ثم نحن بعد ذلك نطلب النصر، والتمكين في الأرض.
الله يقول في تصوير هذا المعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب: 9 - 11].
فهذه المعاني نستحضرها، ونحن على الصفا، ونستحضرها، ونحن على المروة، كل ذلك من أجل تقرير هذه المعاني في نفوسنا، فتؤمن بقوة الله، وغلبته، وقهره، ويملك ذلك قلوبنا، ومن ثَمّ فإن هذه القلوب لا تضعف أمام العدو، ولا تستخذي له، ولا تخافه، ولا تقدم له شيئًا من التنازلات التي بها يذهب ريحها، وقوتها، وتكون عرضة لكل آسر، وكاسر.
حينما نقول مثل هذا الكلام نعلم أن الله هو الذي تكفل لنا بكل ما نحتاج إليه، تكفل لنا بالأرزاق، والأقوات، تكفل لنا بجميع ألوان المدد، والعون الذي نحتاج إليه، وبالتالي فإننا نعلن بملء أفواهنا للكافرين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة: 52].
نردد: لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51] ونعلم بعد ذلك أن ما عند الله خير، وأبقى، وأما الذين لم تستقر هذه الحقيقة في نفوسهم فأفئدتهم هواء، فارغة، ممتلئة بالخوف من المخلوقين، تملؤها الرهبة، يملؤها الذل، والخنوع لعبيد من أمثالهم.
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
ثم بعد ذلك إذا ذهب الحاج إلى عرفة، النبي ﷺ يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا، والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير[1].
هذا إعلان في هذا المجمع الكبير لهذا التوحيد بأصرح عبارة تدل عليه: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
نردد هذه من أجل أن يكون التوحيد هو شعارنا، وأن يتجذر في نفوسنا في هذه المجامع العظيمة، ومن ثَمّ فإن ما يخالج النفوس من بعض المشاعر التي تنافي هذا التوحيد تتبدد، وتتلاشى، ويكون التوحيد هو المعنى القائم، وهو الشعار الراسخ الذي يذهب الحجاج به، ويجيئون.
نجمع بين الظهر، والعصر جمع تقديم؛ من أجل أن نتفرغ للضراعة لله والله يحب من دعاه، والدعاء نوع من أنواع العبادة، بل هو من أجل أنواع العبادة، ومن أفضلها، والله يحب من دعاه، ويحب من تضرع إليه، وألح عليه بالدعاء.
- أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ (5/572)، رقم: (3585).
ثم نتوجه من عرفة إلى مزدلفة ملبين مكبرين، والله يقول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة: 198].
اذكروه على هدايتكم، اذكروه ذكرًا محققًا، كما أنه هداكم هداية محققة، أو وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ أي: اذكروه كما أنه هداكم إلى الإيمان، وعلمكم ذكره، وكيف تقولون في مثل هذه المقامات، وهو ما فعله رسول الله ﷺ بأبي هو، وأمي - عليه الصلاة، والسلام - حينما ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا ربه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل، واقفًا حتى أسفر جدًّا[1].
حتى إن النبي ﷺ صلى الفجر بغلس، من أجل أن يكون له متسع للذكر، واللهج بالدعاء حتى وقت الإسفار، فهذا كله من التوحيد.
وهو ما فعله أصحاب النبي ﷺ هكذا كانوا يفعلون، وكان ابن عمر يدفع أهله إلى مزدلفة ليلًا - أعنى الضعفة - فيقفون عند المشعر الحرام بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون، كما في صحيح البخاري[2].
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
- انظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب متى يدفع من جمع (2/166)، رقم: (1684).
ثم يتوجهون إلى منى ملبين، مكبرين، ويبقون فيها أيام التشريق.
وقد قال الله فيها: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203] فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والأيام المعلومات هي أيام العشر التي نستقبلها من هذه الليلة.
الله يقول: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200].
ذكر الله يتجلى في هذه الشعائر التي نفعلها في أيام منى، حينما نرمي الجمار، ونكبر عند رمي الجمار، نقول عند كل جمرة: الله أكبر، وكذلك عند ذبح الهدي، فإننا نسمي الله ونكبره، والله يقول: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 28] التي يذبحونها، وينحرونها هديًا في تلك المشاعر، أو يذبحها أهل الأمصار في أمصارهم، وهي الأضاحي، فإذا أراد الإنسان أن يضحي، أو أراد الحاج أن ينحر هديه، فإنه يكبر ربه - تبارك، وتعالى - فنحره توحيد، وعبادة؛ لأن الذبح عبادة من العبادات صرْفُها لغير الله من الإشراك، وحينما يقول: بسم الله، والله أكبر، فهذا توحيد.
والله يقول: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 34].
ويقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج: 36].
وعند أداء المناسك نكبر، ونهلل، ونردد في أيام التشريق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وأيام التشريق كما أخبر النبي ﷺ هي أيام أكل، وشرب، والله يوجهنا إلى هذا الذكر بقوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 198 - 202].
فهذه أذكار نرددها عند أدائنا لهذه المناسك، ونختم ذلك جميعًا بالاستغفار كما قال الله : وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 199].
هي عبادة من أجلّ العبادات، ومع ذلك نختمها بالاستغفار، لنجبر ما وقع فيها من الخلل، والنقص، كما أننا إذا انصرفنا من الصلاة المكتوبة فإننا نستغفر ثلاثًا، كما كان النبي ﷺ يفعل.
والله قال عن العابدين الذين يحيون الليل بالقيام: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18].
يختمون قيامهم الليل بالاستغفار، لا يسهرون الليل على مجون، وفساد، ومنكرات، وإنما يحيون ليلهم بالقيام، ثم هم يختمونه بعد ذلك بالاستغفار.
فحري بنا أن نكثر من استغفار الله وإذا استشعرت هذا المعنى فإن العبد لا يدلي على ربه بهذه الأعمال التي عملها من الحج، والعمرة، وسائر الأعمال الصالحة، وإنما يستشعر أن الفضل لله وحده وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60].
وَجِلة خائفة، مشفقة ألا يتقبل الله منهم هذه الأعمال، يخاف الإنسان أن يكون نصيبه من هذا الحج هو السفر، والتعب، والسهر، والجولان في المناسك، وإذا قال: لبيك اللهم لبيك، قيل له: لا لبيك، ولا سعديك.
وكان علي بن الحسين زين العابدين - رحمه الله - وهو من عبّاد التابعين - كان إذا أراد أن يلبي بالحج عند الميقات ارتعد، واضطرب، وعلته الصفرة، فسُئل عن ذلك، فقال: أخاف إذا قلت: لبيك اللهم لبيك، أن يقال: لا لبيك، ولا سعديك[1].
فهل يستشعر الإنسان هذا المعنى؟ فلا يفتخر أنه حج، ولا يفتخر أنه حج عشرات الحِجج، وإنما يستشعر أن الله هو الذي أكرمه، وأنعم عليه، وهداه، ويسر له، لو شاء الله لسلبه ذلك جميعًا.
ثم أيضًا انظر إلى الدعاء الذي يكون في هذه المقامات جميعًا، فإن الدعاء يشرع في الطواف، وفي السعي، وعلى الصفا، والمروة، كما أن الدعاء أيضًا يشرع في عرفة، وفي مزدلفة، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية.
وهذا الدعاء كله توحيد؛ لأن الدعاء لون من ألوان العبادات.
- سير أعلام النبلاء (4/392).
وإذا نظرنا إلى سائر الأعمال الأخرى التي نعملها في هذا الحج.
فتأمل حالك حينما تتجرد للإحرام، إنه يُشعر بالتجرد من كل شيء، بالتجرد من حظوظ النفس، ومن أهوائها، ومن زخارف الدنيا، بالتجرد من الأهل، بالتجرد من الوطن، بالتجرد من سائر ألوان المتاع، وإنما تقصد ربًّا، واحدًا، نلبي له، وحده لا شريك له.
ثم انظر إلى هذا اللباس الذي سيماه البياض، وهو أفضل الإحرام.
حينما يلبس هذا الإنسان البياض في نقائه، وصفائه فإنه ينعكس على قلب الإنسان، ومعلوم أن الظاهر يؤثر في الباطن، والباطن، والظاهر بينهما ملازمة لا تخفى، فلباس الإنسان يؤثر فيه، فإذا لبس البياض، فإن ذلك ينعكس على باطنه، فيستشعر نقاء القلب، ولزوم ذلك، ويستشعر بياض الإخلاص، وألا يكدره شيء من شوائب الرياء، والإشراك.
وفي هذا الإحرام طرح للزينة، وإظهار للمسكنة، والعبودية، والتواضع لله وفيه أيضًا تذكر للموت، والمفارقة لهذه الحياة الدنيا، حينما تفارق الأهل تذكر الرحيل النهائي، وحينما تلبس ملابس الإحرام، وتغتسل للإحرام - وهو أمر مستحب له - تذكر حينما تُغسَّل، وتُدرج في أكفانك في قطعتين من قماش سيماهما البياض.
ثم حينما يحرم الإنسان من الميقات هذا فيه تعبد لله حيث يحرم من حيث أمره الله أن يحرم، لا يتعدى ذلك، ولا يتجاوزه، ولا يحرم قبله.
إنه التزام للعبودية التي رسمها الله للمكلفين، ولو أننا التزمنا أوامر الله في كل حياتنا كما نلتزم ذلك في أعمالنا في الحج فإن حياتنا ستتغير، سنكون عابدين لله حقًّا.
وحينما يقصد الحاج بيت الله الحرام، لماذا يقصد هذا البيت ؟ لماذا يقصد تلك البقاع؟.
الله يخلق ما يشاء، ويختار، هذا اختيار كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - اختيار بعد الخلق[1].
والله يحكم لا معقب لحكمه، فهو - سبحانه، وتعالى - خلق جميع البقاع، ويختار من هذه البقاع بقاعًا شرفها، وجعلها مقارًّا للمناسك، فيتوجه الناس إلى هذا البيت، وكيف لا يتوجهون إليه، وهو أول بيت وضع للناس إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 96].
هو أعظم بيت، وأشرف بيت ملأه الله تكريمًا، وتقديسًا، وتطهيرًا، توعد من همّ به بإلحاد بظلم.
وأمر آخر يتعلق بالتوجه إلى هذا البيت: نحن حينما نستقبل هذه القبلة في يومنا، وليلتنا في أقل الأحوال خمس مرات، فإن القلوب تهفو إلى هذا البيت، فتتوجه إليه بالجوارح، وتتوجه إليه هذه الأجساد، من أجل أن تطوف به استجابة لأمر الله .
ومن هنا يرتبط الناس بقبلتهم، فتكون وجهتم واحدة، لا يلتفتون إلى غرب كافر، ولا يلتفتون إلى شرق كافر، إنما الوجهة وجهة واحدة، رسمها الله لهذه الأمة.
ثم إن الله حينما أمر إبراهيم ، وإسماعيل - عليهما السلام - ببناء هذا البيت، وبرفع قواعده، أرشد في ذلك إلى عمارته على التوحيد وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26]. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35].
ثم حينما نطوف في هذا البيت هو عبادة لله الطواف يكون بالبيت، ليس بالأضرحة، ليس بشيء من القبور، لا بالأولياء، ولا بالصالحين، ولا بشيء من هذه الأشجار، والأحجار، وما يقدسه الناس مما اخترعوه، وابتدعوه، فكل ذلك من قبيل الشرك بالله - تبارك، وتعالى - التوحيد أن يكون الطواف ببيت الله الحرام.
- زاد المعاد في هدي خير العباد (1/40).
ثم السعي، الصحابة كما صح في بعض الروايات تحرجوا من السعي بين الصفا، والمروة، وذلك أن الناس في جاهليتهم كانوا يسعون بين الصفا، والمروة، وكان على الصفا إساف، ونائلة، أصنام يعظمها أهل الإشراك، فتحرج أصحاب رسول الله ﷺ من السعي بين الصفا، والمروة، يظنون أن ذلك من بقايا الجاهلية، ومن شعار المشركين، فأنزل الله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة: 158][1].
إن التردد بين الصفا، والمروة لا شك أنه عبودية لله - تبارك، وتعالى - ولا يجوز لأحد أن يسعى بين قبرين، أو بين حجرين، أو بين شيئين يقدسهما، أيًّا كانت هذه الأشياء، إنما السعي بين الصفا، والمروة.
ثم هذا الإنسان حينما يسعى بين الصفا، والمروة ماذا يستشعر؟ يستشعر حال هاجر - رحمها الله - حينما كانت تسعى بين هذين الجبلين، وابنها يتلمظ من الجوع، والعطش، فأمدها الله بألطافه، وجاء الملَك، وضرب في الأرض، فنبع بئر زمزم.
فإذا تذكر الساعي هذا المعنى فإنه يثق بما عند الله، وأن تفريج الكربات، ورفع الآلام، والمضرات كله من الله - تبارك، وتعالى -.
ما وقع لهذه الأمة من الضعف، والوهن، والهزائم المتلاحقة، إنما الذي يكشفه هو الله، وحده لا شريك له، لا يكشفه أحد من المقبورين، ولا أحد من الأحياء، إنما يكشفه ربنا .
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ[البقرة: 158] (6/23)، رقم: (4495)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا، والمروة ركن لا يصح الحج إلا به (2/928)، رقم: (1277).
ثم حينما نطوف بهذه الأماكن، ونسعى بين الصفا، والمروة، ونتردد بين هذه المشاعر، الواقع أننا نعظم شعائر الله وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] وهي أعمال الحج في هذه الآية ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29].
والله يقول: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] فقد سمعنا قبل سنوات أحد المنتسبين للدعوة الإسلامية - للأسف الشديد، وهو يحمل انحرافات عجيبة - يقول في مثل هذه الأيام، في أيام الحج، يقول: إن الذهاب للتمسح بالحجر الأسود، والطواف بالكعبة، وبين الصفا، والمروة لون من ألوان الوثنية، إنما ينبغي أن يكون العمل، والسعي بإصلاح النيات، والمقاصد، وأن يكون السعي لعمارة الدنيا عمارة حقيقية بإقامة دولة الاسلام.
ولا أدري ما دولة الإسلام التي يريد أن يقيمها هذا المنحرف، وهو يصف أعظم شعائر الدين بأنه ضرب من ضروب الوثنية، فكان يقول لأهل بلده: ليس عليكم أن تذهبوا إلى الحج، ليس عليكم أن تنفقوا الأموال من أجل أن تطوفوا بين هذه البقاع، وتتمسحوا بحجر لا ينفع، ولا يضر؟.
أقول: إن الذهاب إلى تلك البقاع، والطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا، والمروة، ورمي الجمار، وما إلى ذلك، كل هذا من تعظيم حرمات الله ومن تعظيم شعائر الله، والقلب الذي يعظم شعائر الله قلب عامر بالإيمان، وإذا رأيت العبد يعظم الشعائر الدينية، ويحبها، فإن ذلك يدل على تجذر الإيمان بالقلب.
وإذا رأيته يحب أعياد المسلمين، ويعظمها، ويلبس لها اللباس الملائم، ويستعد لها، فإن ذلك يدل على تعمق الإيمان في قلبه.
وإذا رأيته لا يرفع لذلك رأسًا، ويسمي أعيادنا بأعياد النوم، فإن ذلك يدل على اضمحلال في إيمانه، وأنه لا يعظم الله، ولا شعائر الله التعظيم المطلوب.
في الحج تتجلى قضية الاتباع، والانقياد، والتسليم الكامل لله هناك أمور قد لا نعقلها، وليس من الضرورة أن نعقل كل شيء أمرنا الله به، وأن ندرك معناه.
قد يدركه بعضنا، ويخفى على بعضنا، وهناك أمور استأثر الله بعلمها، وتعبدنا بها، ونحن نسلم لله لأن قاعدة الإيمان لا تثبت إلا على قدم التسليم لله فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].
لم يخبرنا التاريخ، والروايات الصحيحة المحفوظة عن أصحاب النبي ﷺ أنهم كانوا يسألونه عن علة كذا، وعلة كذا، مما يفعلونه في هذه الشعائر.
ما كانوا يسألونه لماذا نطوف بالكعبة؟ لماذا نرمي الجمار، وبسبعة أحجار؟ ولماذا أيضًا نقف في عرفة؟ ولماذا نقف في المزدلفة؟ لماذا كان الوقوف في عرفة إلى غروب الشمس؟ ولماذا كان الوقوف في المزدلفة إلى أن يُسفر جدًّا؟ ما كانوا يسألونه هذه السؤالات.
وكذلك لم يخبرنا القرآن، والنبي ﷺ عن أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - أنهم كانوا يتمحّلون معهم في سؤالهم عن هذه الأمور .
الرسل أيها الإخوة جاءوا بمَحارات العقول، ولم يأتوا بمُحالات العقول، جاءوا بأمور صحيحة مبنية على حكمة، وعلم من الله علمناها، أو خفيت علينا، قد تتوقف العقول في إدراك بعضها، فهذه مَحارات للعقول، ولكنهم لم يأتوا بمحالات العقول.
سئل أعرابي بم عرفت أنه رسول الله ﷺ ؟ فقال: ما أمر بشيء إلا قال العقل: ليته أمر به، وما نهى عن شيء إلا قال العقل: ليته نهى عنه.
فالواجب على الإنسان أن يسلم لله في أحكامه، وفي أقداره، وفي شرعه، وأن يفوض جميع الأمور إلى الله، ويثق بأن ربه الذي شرع له الشرائع أنه عليم حكيم، شرعها بعلم راسخ، بعلم ثابت، سبحانه، وتعالى أحاط بكل شيء علمًا، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن.
لقد سمعت من بعضهم يحدث عن صاحب له حج ثم رجع، وهو أستاذ جامعي، يقول: ذهبنا، ووقفنا في عرفة، وبتنا في مزدلفة، ثم جلسنا ثلاثة أيام في منى، ثم ماذا بعد ذلك؟ هذا لم يفقه الحج، ولم يعرف حقيقة العبودية لله أين هذا ممن تذرف دموعهم في تلك المقامات، ويستشعرون فيها من المعاني ما لا يقادر قدره، فيظهر أثر هذا الحج عليهم؟.
عمر بن الخطاب حينما أراد أن يقبل الحجر، قال: "إني أعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك"[1].
فهذا كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إذعان، وتسليم من عمر في أمور الدين، وحسن اتباع فيما لم يكشف له من المعاني[2].
وهي قاعدة كبيرة عظيمة في اتباع النبي ﷺ فيما لم تبلغه عقولنا، أو فيما بلغته، ومبني العبودية كما يقول عنه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - هو على هذا الأصل الكبير الذي هو الانقياد، والتسليم لأوامر الله، ولشرائعه[3].
نحن نضطبع في الطواف، ونرمل في الأشواط الثلاثة الأولى منه، لماذا نضطبع، وقد اضطبع النبي ﷺ لعلة، ولمعنى آنذاك، ثم زالت هذه العلة؟ لماذا نرمل، وقد رمل النبي ﷺ وهو الإسراع في المشي - لعلة آنذاك ثم زالت؟.
نفعل ذلك تسليمًا، وانقياداً، وطواعية، وعبودية لله طلبًا لمرضاته، أن يدخلنا في رحمته، وأن يتقبل منا هذا الحج، لماذا نجري جريًا سريعًا؟ كان النبي ﷺ يسرع بين العلمين، كان يسرع ﷺ حتى يدور إزاره من شدة السعي - عليه الصلاة، والسلام - لماذا يفعل ذلك؟ العبودية لله تبارك، وتعالى -.
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (2/149)، رقم: (1597).
- فتح الباري لابن حجر (3/463).
- الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 17).
نحن حينما نقوم بهذه الفريضة نستشعر جملة من المعاني، نحن أمة عامرة، ارفعوا رؤوسكم، نحن أمة عزيزة، لها جذور عميقة في التاريخ، لنا رصيد كبير في هذا الطريق الذي نسير عليه، حيث سار عليه أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - فهم أسلافنا، لسنا أمة مبتورة، لا رصيد لها، ولا مستند من بعث الأنبياء، والرسالات التي جاءوا بها.
إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - هو الذي بنى هذا البيت، وهو أول بيت وضع للناس ليوحدوا الله حق توحيده، وإسماعيل - عليه الصلاة، والسلام - أعانه في هذا البناء، كان يبني معه البيت، ويردد معه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] وإسماعيل - عليه الصلاة، والسلام - هو جدنا.
نحن حينما نذهب إلى تلك الأماكن نتذكر إبراهيم ﷺ وهو يرفع البيت مع اسماعيل، ويرددان هذا الدعاء: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] يقومان بعمل كبير جليل، بأمر الله ومع ذلك يدعوان أن يتقبل الله منهما.
ثم بعد ذلك حينما يذكر إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - لابنه، ووحيده إسماعيل تلك الرؤيا: أنه يذبحه، فيقول له إسماعيل: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].
هذه هي العبودية الحقيقية، هؤلاء هم سلفنا - عليهم الصلاة، والسلام - فحينما نتردد في تلك المقامات، والمشاعر، والمنازل نتذكر هؤلاء الأطهار الأبرار، نتذكر نبينا ﷺ ونتذكر سائر الأنبياء.
لما مر النبي ﷺ بوادي الأزرق في طريقه - عليه الصلاة، والسلام - إلى مكة، كما في صحيح مسلم سأل أصحابه: أيُّ واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى ﷺ واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: أيُّ ثنية هذه؟ قالوا: هَرْشَى - أو لِفت - فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطام ناقته ليفٌ خُلْبة، مارًّا بهذا الوادي ملبيًا[1].
حينما يمر الإنسان بمنى، ويرى مسجد الخيف يتذكر أن النبي ﷺ أخبرنا أنه صلى فيه سبعون نبيًّا[2].
نحن امتداد لهؤلاء جميعًا، فلماذا نستخذي؟ ولماذا نذل؟ ولماذا نستحي من إعلان مبادئنا، ونداري بعض السؤالات بابتسامة تدل على خنوع، وخجل من إقامة الدين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين؟.
تذكر يا عبد الله، وأنت في تلك المشاعر، والبطاح تذكر أولئك الرجال الذين فتحوا الدنيا، أولئك الأبطال، أولئك المجاهدين، أولئك الذين عمر الله بهم هذه الحياة، ونحن نعيش على بقية مآثرهم في العز، والمجد، ونعيش على بقية من مآثرهم في هذه البلاد التي فتحوها.
بلدة عُظمى وفي آثارها | أنفع الذكرى لقوم يعقلون |
شبّ في بطحائها خيرُ الورى | وشَبَا في أفقها أسمحُ دين |
هذا كله يتردد في نفس الحاج، وهو يجول هنا، وهناك.
ثم إنه يستشعر ارتباطًا بينه، وبين ما حوله من مدر، وشجر، وحجر حينما يلبي هذا الحاج، فالنبي ﷺ أخبرنا بقوله الصادق: ما من مسلم يلبي إلا لبى مَن عن يمينه، أو عن شماله من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا، وهاهنا[3].
يعني: عما يمينه، وشماله، فهذه المخلوقات كلها مطيعة لله - تبارك، وتعالى - والكون كله منقاد، وعابد له، ومسبح.
إنما الذي يستعصي، ويتمرد على طاعة الله هو هذا المخلوق الضعيف من الجن، والإنس، النبي ﷺ يقول: أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام[4].
مدة طيران الطير ما بين شحمة أذنه، وعاتقه سبعمائة عام، ما حجم هذا الملك؟ وهو عابد منقاد لله - تبارك، وتعالى -.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السموات، وفرض الصلوات (1/152)، رقم: (166).
- أخرجه الحاكم في المستدرك (2/653)، رقم: (4169)، والطبراني في المعجم الكبير (11/452)، رقم: (12283).
- أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في فضل التلبية، والنحر (3/180)، رقم: (828).
- أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية (4/232)، رقم: (4727).
ثم في الحج أيها الإخوان نتذكر إذا رأينا تلك الجموع الغفيرة الهائلة، نتذكر يوم المحشر، وأي يوم هو، حينما تجتمع هذه الجموع من جميع هذه الأجناس، والألوان في صعيد واحد، في يوم عرفة، أو حينما تراهم في الكعبة، أو حينما تراهم عند جمرة العقبة، نتذكر اليوم الذي نعرض فيه على الله لا تخفى منا خافية.
ثم نتذكر عظمة الله، وقدرته، وخلقه، ونتذكر إبداعه في هذا الخلق العجيب، فحينما تنظر إلى هؤلاء الحجيج، وقد ازدحموا لا ترى إلا وجوههم عند جمرة العقبة، صبهم الله صبة واحدة، الأنف في محله، والعينان في محلهما، والفم في محله، ثم كل واحد منهم يتميز عن الآخر بهيئته، وصورته، فلا يشتبه منهم اثنان، ولا يلتبس منهم في البنان اثنان، هذا كله يدل على عظمة خالقنا، وقدرته .
فيستصغر العبد نفسه، ويستصغر الدنيا التي شغلته عن طاعة هذا الرب ويتواضع، هؤلاء كلهم عبيد لله صبة واحدة، انظر إليهم من أعلى، وأنت في سطح الحرم، وهم يطوفون، الوجوه نقط صغيرة، يحركون هذا الإحرام بين حين، وآخر، كأنهم الذر، فيهم لربما من يرى نفسه، فيهم المتكبر، وفيهم من يعتز بأرصدته الهائلة في البنوك، وفيهم من يعتز بما عنده من المصانع، والمتاجر، والمراكب، وفيهم من قد يفتن الكثير من الناس بحسنه، وجماله، وإذا نظرت إليهم من بعيد عرفت ضعفهم، وعرفت مسكنتهم، وعرفت عظمة الله .
ثم إن هذا الحج رمز لوحدة الأمة الواحدة، الاجتماع الذي لا يكون إلا على التوحيد الخالص, الاجتماع لا يكون على الباطل، لا يكون على التراب، ولا يكون على شعار جاهلي، إنما يكون الاجتماع على التوحيد، تجتمع الأمة جميعًا في مكان واحد، يلبسون لباسًا واحداً، ويرددون هتافًا واحدًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
هذا دليل، وبرهان على أن المرشح الوحيد لجمع هذه الأمة هو التوحيد، أن يُرد الجميع إلى الفطرة، إلى توحيد الله .
وكم ضيعت تلك الشعارات الزائفة الأمة! وكم قطعتها إلى أحزاب، وإلى أوصال متناثرة، يلعب على تناقضاتها العدو، فيأتي من أبعد نقطة في المغرب، ويضرب بالعمق، عبثًا بمقوماتها، ومقدراتها، كل ذلك على حساب هذه التناقضات، والاختلافات، والتشرذم، والشعارات المنحرفة التي استهوت كثيرًا من الناس.
عندما ينظر الإنسان إلى هذه الجموع التي جاءت من كل مكان، يتكلمون سائر الألسنة، يتحدثون سائر اللغات، وقد توحدوا في زيهم، وخطواتهم، وتنقلاتهم، يرتفع في نفسه الأمل أن الأمة يمكن أن تجتمع مرة أخرى، فتكون قوة ضاربة تزلزل أعداء الله ويضطرب من في المشرق، ومن في المغرب خوفًا منها نُصرت بالرعب مسيرة شهر[1].
- أخرجه البخاري، كتاب التيمم، (1/74)، (335).
ثم تأملوا في سائر هذه الأعمال التي نعملها، هذا الرمل الذي يكون في الطواف، وهذا الاضطباع، لماذا نفعله؟ لماذا فعله النبي ﷺ ؟ قدِمَ النبيُّ ﷺ فسمع أن المشركين يرددون أن قوما يقدمون، وقد أوهنتهم حمى يثرب، يرددون أن هؤلاء قد أضعفهم، وأنهكم المرض، فهم قوم يغلب عليهم الوهن، والعجاف، والضعف، والنحول، والهزال، فماذا فعل النبي ﷺ ؟.
أمر أصحابه أن يضطبعوا ليرى الكافرون مظهرًا من مظاهر قوتهم، في أعضادهم، وأن يرملوا في الأشواط الثلاثة في الطواف، وعلل ذلك بقوله: ﷺ: لا يرى القوم فيكم غَميزة[1].
لا يرى القوم فيكم ضعفًا، ووهنًا، فيشمتون بكم، ويفهم من هذا: أن الإسلام يقصد إظهار قوة المؤمنين، ووحدة المؤمنين، فمن الخطأ الفادح أن نعلن تناقضاتنا، واختلافاتنا، فيضحك منا العدو، ويضحك منا الشامت، والمتشفي، كما صارت حالنا في هذه الأيام، اختلافات، وتناقضات، وآراء، وبعضنا يقع في عرض الآخر، ولو أن أهل السنة دفنوا خلافاتهم، وتباحثوها فيما بينهم دون أن يظهروها ليشمت بها عدوهم، فإن هذا هو الحكمة، بل هو عين الصواب.
- أخرجه أحمد (4/498)، رقم: (2782).
حينما نرمي الجمار، نحن بذلك نجدد عداوتنا للشيطان، نحن لا نرمي الشيطان فهو ليس موجوداً في ذلك المكان.
وإنما نحن نفعل ذلك مراغمة له، وتجديدًا للعهد بعداوته، حينما نرجم بهذه الجمار - أو نرمي هذه الجمار - نحن نتأسى بإبراهيم ﷺ ونتبع ملته، كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون"[1].
وفي هذه الأعمال جميعًا تحقيق للعبودية الكاملة لله بأنواعها في الأقوال، والأفعال التي تكون بالجوارح، والأعمال القلبية، كل ذلك يتحقق بفعل هذه المناسك.
- أخرجه الحاكم في المستدرك (1/638)، رقم: (1713)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/506).
الحج فرصة عظيمة لتحقيق هذا المعنى، فيه جميع العبادات، فيه العبادات المالية، وفيه أنواع العبادات البدنية، فيه الصلاة، والطواف، وفيه التكبير، والتهليل، وفيه النحر، والذبح، وفيه السعي، وفيه الوقوف، وغير ذلك مما لا يجتمع في غيره.
وهذه كلها من ألوان العبوديات لله .
حينما نذبح النسك هذا تقرب إلى لله بعبادة هي من أجل العبادات، يجتمع فيها عبادة بدنية، وعبادة مالية، لهذا ينبغي للإنسان أن يبحث عن أسمنها، وأفضلها، وأطيبها لحمًا، وأغلاها ثمنًا، لا يرى ذلك من قبيل المغرم الذي يرهق كاهله، فكثير من المسلمين في مثل هذه الأيام يسألون عن النسك الذي ليس فيه الهدي، فهل استشعر هؤلاء هذا المعنى؟.
والله يقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج: 36، 37].
ومن هنا نعلم أيضًا أن الذبح عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله ومن ذبح لغير الله فقد كفر، أو أشرك، لا يجوز الذبح عند الأضرحة، ولا يجوز الذبح عند شيء يعظم، ولا يجوز الذبح عند استقبال العظماء، والرؤساء، والملوك، فإن هذا شيء لا يصلح إلا لله - تبارك، وتعالى -.
الحلق في تلك المقامات لون من ألوان العبودية، وإعلان الذل، والرق لله إن حلق الشعر بقصد الذل، والتعبد إنه إعلان للفاقة لمن حلقتَ له شعرك، ولهذا فإن عباد القبور لربما يحلقون رءوسهم عند الأضرحة، والعدو إذا ظفر بخصمه، وأراد أن يذله فإنه يحلق رأسه، نحن نحلق رءوسنا طواعية لله إعلانًا لفقرنا، وذلنا، وعبوديتنا، ومسكنتنا لربنا، وخالقنا .
فهل استحضرت هذا المعنى، وأنت تحلق رأسك؟.
ثم انظر إلى حال الناس في الحج حينما يتقيدون بالإحرام عند الميقات، ما الذي يقيدهم؟ حينما يبدؤون بالطواف من الحجر الأسود، ويطوفون سبعة أشواط بلا زيادة، ولا نقصان، حينما يبدأ السعي من الصفا، ويسعى سبعة أشواط مع ما يلحقه من العناء، والتعب، حينما يذهب إلى عرفة في اليوم التاسع، حينما يذهب إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، ما الذي يجعل الناس يرقبون الشمس حتى يغيب قرصها، ثم تنطلق جحافلهم مكبرة، مهللة، ملبية إلى مزدلفة؟ ما الذي يجعلهم يرقبون الإسفار، ثم ينصرفون ملبين إلى منى؟.
ما الذي يجعلهم يرمون الجمرات بسبع حصيات من غير زيادة، ولا نقص؟ ما الذي يجعلهم يسألون؟ إنه المراقبة لله ليس هناك أحد يحصي عليهم عدد الأحجار التي رموها، أو من أين بدءوا في هذا الطواف، أو في هذا السعي، أو متى انصرفوا من عرفات، لماذا يقفون من مغيب الشمس؟ لو أن الواحد منهم خرج، وذهب إلى مزدلفة لن يجد من يسأله: لماذا خرجت في هذا الوقت؟.
أقول: هم يراقبون الله في ذلك كله، ومن هنا أقول: إن الحج يربي في نفس المؤمن المراقبة، فاستحضر هذا المعنى، راقب ربك في كل حال من أحوالك، لا تكن ممن إذا خلا بمحارم الله انتهكها، الذي يراقب الله يخافه بين الناس، ويخافه إذا خلا، وهو أحد المعاني في تفسير قوله - تبارك، وتعالى - عن المؤمنين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] أي في حال الغيب، وكذلك يؤمنون بما غاب عن حسهم، فلم يروه بأعينهم، أو تدركه حواسهم، وفي هذا تربية للضمير، والله يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
ويربي نفوسهم لهذا المعنى، يقول: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة: 197] فالله هو الرقيب عليهم، ولو أن النفوس تربت على هذه المراقبة لم تمتد الجوارح إلى شيء من الحرام، ولم ينتهك العبد شيئًا مما حرم الله عليه، ولساد الناس الأمن، والطمأنينة، فأمنوا على أعراضهم، وأمنوا على أموالهم، وعاشوا حياة هنية.
هذا الحج ينمي في نفوسنا عبودية أخرى، وهي عبودية الشكر لله أنت حينما ينعم الله عليك ببلوغ هذه المناسك، وبإكمالها، فهذه نعمة عظيمة تستوجب منك شكرًا باللسان، والقلب، وبالجوارح، وحينما ترى هؤلاء الناس، وما فيهم من الجهل تشكر ربك على نعمة العلم، وحينما ترى ما فيهم من الضعف، والمرض، والإعواز، والفقر، تشكر ربك على ما أنعم عليك من الغنى، والعافية، وحينما ترى هؤلاء الناس في ضيق، وزحام، تشكر ربك على ما أولاك من نعمة المساكن في وطنك.
هناك أشياء يسيرة قد لا نعرف قدرها إلا عند فقدها، حينما تلبس هذا الإحرام تذكر ما أعطاك الله من ألوان الزينة في اللباس، وهكذا نجد أن الحج ينمي عبودية الشكر، وهي عبودية قلبية بدنية من أجل العبادات.
في أعمالنا هذه جميعًا تحقيق لشهادة أن محمدًا رسول الله ﷺ .
حينما يقول النبي ﷺ: خذوا عني مناسككم[1].
نفعل هذه المناسك على وفق ما شرع الله فهذا تحقيق لشهادة أن محمدًا رسول الله ﷺ.
والله لا يقبل من العمل إلا ما شرع فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] والعمل الصالح هو ما كان موافقًا لشرع الله .
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب الإيضاع في، وادي محسر (5/204)، رقم: (9524)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، وفضله (1/461)، رقم: (721)، وهو عند مسلم بلفظ: لتأخذوا مناسككم صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله ﷺ: لتأخذوا مناسككم (2/943)، رقم: (1297).
وفي الحج براءة من الشرك، ومن أهله، ومخالفة للمشركين، فالحج يمكن أن نقول: إنه الفريضة الوحيدة التي تتجلى فيها البراءة من المشركين.
وما أحوجنا في هذه الأيام لتحقيق هذه العبودية، البراءة من الشرك، ومن أهله، والتي هي من صميم لا إله إلا الله.
حينما تقول: لا إله إلا الله، فهذا نبذ لجميع ألوان الإشراك، وكفر بجميع الطواغيت، وهو نبذ لجميع أهل الإشراك، وهو إقرار للحق، وتثبيت للتوحيد، ومحبة، وتقريب لأهل الايمان، والتوحيد الخالص.
هذه حقيقة لا إله إلا الله، فالولاء، والبراء هو من لا إله إلا الله، فحري بنا أن نلقنها الأجيال، وأن نحافظ على هذا الأصل الكبير من أصول التوحيد، والإيمان، وأن نثبته في نفوسنا، وفي نفوس أبنائنا، وأن نربي المجتمع على تحقيق هذا المعنى.
في الحج تبرز المفاصلة عن أهل الإشراك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 28].
كان المشركون يحجون مع المسلمين، فنفاهم الله عن البيت، ومنعهم من دخول المسجد الحرام بأكمله، وفي البخاري من حديث أبي هريرة لما بعثهم النبي ﷺ في حجة أبي بكر، في السنة التاسعة، أمرهم أن ينادوا: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان[1].
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يستر من العورة (1/83)، رقم: (369).
وفي الحج مخالفة لهدي الكفار في أعمالهم، وهذا أمر مطلوب، وقد قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لاسيما في المناسك[1].
النبي ﷺ يقول: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم[2].
وقد غيرت قريش بأهوائها كثيراً من دين إبراهيم، ومن شعائر الحج، فخالفهم النبي ﷺ، خالفهم أولاً بالتزود، وكان بعض أهل الجاهلية إذا جاءوا إلى الحج لم يتزودوا، ويدّعون التوكل في ذلك على الله فأمر الله بالتزود وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
وخالفهم النبي ﷺ بأن شرع لأصحابه التمتع في الحج، وكان أهل الجاهلية يرون أن المتعة في الحج هي أفجر الفجور، وكانوا يقولون: إذا برَأ الدَّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر[3]. لا يرون العمرة في أشهر الحج.
"إذا برَأ الدَّبر" يعني ما على ظهر البعير من الرحل، والمتاع الذي يحمل عليه "وعفا الأثر" يعني: انمحت آثار الأقدام في سيرها إلى بيت الله الحرام، يقولون: فإنه بعد ذلك تصح العمرة، وهذا من مختلقاتهم في جاهليتهم.
ومن هذه المخالفات التي خالفهم فيها النبي ﷺ أنهم في التلبية كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً تملكه، وما ملك" فعلّمنا الشارع أن نقول: "لبيك لا شريك لك لبيك" ولا نشرك مع الله في هذه التلبية.
كما أن الشارع خالفهم حينما كانت قريش لا تقف في عرفة، كانوا يقفون عند حدود الحرم، فلما دفع النبي ﷺ ظنوا أنه يقف عند حدود الحرم، حيث زين الشيطان لقريش أن يقفوا عند حدوده، وقال لهم: إنكم إن خرجتم منه استهان بكم العرب، ولم يعظموا حرمكم.
فكانوا لا يقفون بعرفة، فدفع النبي ﷺ وخرج من حدود الحرم، ووقف في عرفة كما هو معروف عنه ﷺ وكما أمر الله بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة: 199] خلافًا لدعواهم: نحن قطين الحرم، نحن قواطن البيت، لا نجاوز الحرم، يشرعون من عند أنفسهم، فخالفهم النبي ﷺ.
وكذلك كانوا يخرجون من عرفات بعد الظهيرة، إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كالعمائم على رءوس الرجال، فخالفهم النبي ﷺ وبقي في عرفة حتى غاب قرص الشمس.
كما أن النبي ﷺ خالف المشركين في وقت الخروج من مزدلفة، فكان المشركون يرقبون طلوع الشمس، ويقولون: "أشْرِقْ ثَبير - وهو جبل - كيما نُغِير"[4].
فلا يخرجون إلى المنحر - إلى منى - حتى ترتفع الشمس بعد طلوعها، فتكون كالعمائم على رءوس الرجال، تكون على الجبال كالعمائم على رءوس الرجال.
فخرج النبي ﷺ من مزدلفة بعدما أسفر جدًّا، قبل طلوع الشمس.
كما أن الشارع علمنا مخالفة المشركين بذكر الله حيث كان المشركون إذا أفاضوا إلى منى كانوا يتفاخرون عند الجمار، يتفاخرون بمآثرهم، ويفتخرون بآبائهم، فعلمنا الله أن نذكره، وأن نكثر من ذكره فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200].
كما أبطل النبي ﷺ عوائد الجاهلية، ورسومها، كما في خطبته في حجة الوداع: كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع[5].
وهذا كما يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: "يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات، والعبادات، مثل دعواهم: يا لفلان، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم"[6].
فالنخوة بالأعراق، والأجناس، والتفاخر بالأحساب، والأنساب، والقبائل، هذا لا محل له إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] وقد وضع النبي ﷺ تحت قدمه عادات أهل الجاهلية، وجميع ما كانوا يختصون به من ألوان العادات في الملابس، وغيرها.
فحري بنا أن نتخلى عن جميع عادات أهل الجاهلية من المعاصرين من أعداء الله ونرضى بصبغة الله التي صبغنا بها.
- زاد المعاد في هدي خير العباد (2/198).
- أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في الوقوف بعرفات، والدعاء بها (3/221)، رقم: (883)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب الموقف بعرفة (2/1001)، رقم: (3011).
- زاد المعاد في هدي خير العباد (2/196).
- المصدر السابق (2/198).
- أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ (2/886)، رقم: (1218).
- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/342).
وفي الحج قصد إغاضة المشركين فإننا حينما نبرز أعضادنا في الطواف، ونرمل في الأشواط الثلاثة منه إنما نفعل ذلك لإغاظة أعداء الله كما فعل النبي ﷺ.
وفي الحج تحقيق للولاء بين المؤمنين يجتمعون في مكان واحد، يلبسون ثيابًا واحدة، يتحركون حركة متحدة، يتنقلون من مكان إلى مكان في وقت آخر في نسك واحد، لا تجد فرقاً بين الكبير، والصغير، بين الأمير، والوضيع، بين الغني، والفقير، كلهم يلبسون لبسًا واحد، ويتنقلون انتقالا واحدًا، يحنو القوي على الضعيف، والغني على الفقير، ويسعف بعضهم بعضًا فيما يحتاجون إليه، ويتسابق أهل الفضل، والبذل، ويتنافسون في العطاء، وفي الجود في تلك الأيام.
ومما يحصل أيضًا من تحقيق التوحيد، والعبودية لله في الحج مراغمة الشيطان، كما قال النبي ﷺ: ما رُئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لِمَا رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أُري يوم بدر[1].
فأقول: هذا إرغام للشيطان، نحن حينما نلبي دعوة الله هذا إرغام للشيطان، حينما نسجد لله الشيطان يولول، ويحزن حيث دُعي للسجود فلم يسجد، فلعنه الله ودُعي ابن آدم للسجود فسجد امتثالاً، حينما نرمي الجمار، فنحن نرغم الشيطان بهذا العمل.
وختامًا: الحج من أوله إلى آخره كله توحيد، ولعله تجلى لكم هذا المعنى من خلال هذا العرض.
وأسأل الله أن ينفعني، وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا، وإياكم هداة مهتدين، وأسأل الله أن يتقبل منا، ومنهم، ومنكم جميعًا، وأن يعيننا، وإياكم على طاعته.
وصلى الله، وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
- أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/422)، رقم: (245)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/498)، رقم: (3775)، عن طلحة بن عبد الله بن كريز مرسلا.