الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
هَتَف العلمُ بالعمل
تاريخ النشر: ٢٣ / شوّال / ١٤٢٩
التحميل: 3990
مرات الإستماع: 13467

فضل العلم ومنزلته

هذا مجلس للمذاكرة، وحينما نوجه هذا الكلام فإنما أتوجه به إلى نفسي أولاً، وأذكر به إخواني لعل الله أن ينفعنا، وأن يرفعنا، ولولا ذلك لم أتحدث عن هذا الموضوع بكلمة واحدة، فأنا أول المقصرين، ولا ينبغي لأحدٍ أن يتوهم بحال من الأحوال أن ما يذكره الإنسان في هذا المقام أنه قد حققه، وتحلى به، ولولا أننا نعتقد، وجوب هذه المناصحة، والمذاكرة ديانة لما كان والله هذا الحديث.

والكل يعلم ما جاء في فضل العلم، ومنزلته، وفي منزلة العلماء، وما لهم من الدرجات العالية عند الله - تبارك، وتعالى - وكل ذلك إنما هو محمول على العلم الذي يتحلى صاحبه بمقتضاه، وقد قال الله - تبارك، وتعالى - في سورة النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور: 35].

فهذا نور الله في قلب المؤمن، ذاك الهدى على ما قاله طائفة من السلف - رضي الله تعالى عنهم، وأرضاهم - إذا استنار القلب استنار الوجه، وأشرق، وصح العمل، واستقامت الحال، وحصل لنا التميز في أحوالنا، وأعمالنا، وفي أمورنا كلها، وترفعنا عن الرزايا، والدنايا، فهذا هو العلم الذي لا يُهدى لعاصٍ، هذا الذي قال الله في أهله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] هؤلاء الذين أشهدهم، وأولئك الذين جاء الثناء عليهم إنما هم أولئك الذين يعملون بعلمهم، وأما الذين لا يعملون فقد ضرب الله لهم أسوأ الأمثال، كما سيأتي.

وهكذا في قوله : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] والمراد بذلك من يعمل بعلمه، وهم الذين يرفعهم الله درجات كما قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]. 

وهكذا في قوله ﷺ في الحديث: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين[1] فهذا الذي أراد به خيراً، وفقهه هو الذي يعمل بمقتضى هذا العلم.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين برقم (71) ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم (1037).
ما قيمة العلم بلا عمل؟

وأما الذي يحفظ، ويتعلم، ويتفقه، ولكنه لا يعمل بهذا العلم فليس ذلك ممن أريد به الخير، فقد يكون علمه سبباً في الجناية عليه، ووبالاً عليه كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[1]  وقرر هذا المعنى طائفة من أهل العلم كالشاطبي[2] فاعتبر العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصوداً لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وقرر أن كل ما ورد في فضل العلم إنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به. 

وممن تكلم على هذا المعنى أيضاً من أهل العلم ابن جماعة - رحمه الله - فذكر أن ذلك يختص بالعلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله تعالى، والزلفى إليه، لا مَن طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية من جاه، أو مال، أو مكاثرة في الأتباع، والطلاب[3] وقل إن شئت: مَن طلبه للشهادة.

فالعلم كما يقول ابن الجوزي - رحمه الله - : ليس بمجرد صورته هو النافع، بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به، فكلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته، فحين إذن يكشف العلم له سره[4].

وممن تكلم على هذا المعنى الخطيب البغدادي - رحمه الله - وصوَّر العلم بصورة الشجرة، واعتبر العلم ثمرة، قال: "وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كَلًّا على العالم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كَلًّا، وأورث ذلا، وصار في رقبة صاحبه غُلا"[5] هذا كلام الخطيب، وله كلام جيد في هذا المعنى، فهو يقرر أنه كما لا تنفع الأموال عند خُزّانها إلا بإنفاقها كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، ولهذا نعى ابن الجوزي - رحمه الله - على أولئك الذين لا يعملون بعلومهم، فهو يرى أن المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً مع قوة حجة عليه[6].

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي ﷺ أنه قال: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول[7] شبه الآذان بالأقماع، وهي ذلك الوعاء المعروف الذي يكون واسطة في صب المائع في الأوعية ويل لأقماع القول.

فهذه الأقماع لا يستقر بها المائع، فهي وسيلة لها فوهة واسعة من أعلى، وهي مفتوحة من الأسفل فيصب المائع بواسطتها فيصل إلى الأوعية التي تحويه، فهو لا يستقر بهذه الأقماع ويل لأقماع القول فشبه الآذان التي تسمع، ولكنها لا تعي، ولا تعمل، ولا تستوعب، ولا تتأثر، ولا تنتفع شبهها بهذه الأقماع يمر بها هذا الكلام، ويصك مسامعها دون أن يبقى له أثر فيها ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا، وهم يعلمون هذا الحديث رواه الإمام أحمد، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله.

  1.  الفوائد لابن القيم (ص: 101).
  2.  الموافقات (1/ 83).
  3.  تذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم (ص: 45).
  4.  صيد الخاطر (ص: 172).
  5.  اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 14).
  6.  صيد الخاطر (ص: 159).
  7.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (6541) والبخاري في الأدب المفرد، برقم (380) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (897) وفي السلسلة الصحيحة، برقم (482).
علامات شقاوة طالب العلم

بل عد ابن القيم - رحمه الله -[1] من علامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره، وتيهه، وكلما زيد في علمه زيد في فخره، واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه، والله يقول:  أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44].

وأخبرنا عن شعيب ﷺ أنه قال مخاطباً قومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] ولا يمكن لأحد أن تنجح مساعيه في الإصلاح إلا إذا كان متحققاً بالصلاح، فإن ما يزاوله الإنسان من أقوال، وأفعال إذا كانت تخرج من لسان لم يتصل بالقلب، ولم يكن لذلك من الفعال ما يصدق الأقوال فإن هذا الإنسان لا يمكن أن يجري على يديه الإصلاح، وأن ينتفع به، وإنما هي عبارات تقال، وكلمات تسمع على المنابر، أو في المحاضرات، أو في غير ذلك، ثم ما يلبث الناس أن يخرجوا بنفس الحال التي دخلوا بها، ولذلك انظروا كم نسمع، وكم نحضر من الخطب، وكم يوجد في البلد من جامع، كل هؤلاء الناس ينساقون طواعية في يوم الجمعة، وقد تهيئوا لذلك، ويسمعون هذه الخطب لكن ما مدى تأثير هذه الخطب في واقعهم، وحالهم؟ وكم نسبة أولئك الذين يرجعون من المسجد بحال جديد، وعمل جديد، ووجه جديد، وقلب جديد؟ قلّ ذلك.

الله - تبارك، وتعالى - يقول:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2 - 3] ولما سئلت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن خلق النبي ﷺ ؟ قالت للسائل، وهو سعد بن هشام: "أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن"[2]

  1.  انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 136).
  2.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (24601) وقال محققوه: "حديث صحيح".
لماذا فتح الصحابة  الدنيا في مدة يسيرة؟

نحن نقول: لماذا فتح الصحابة الدنيا في مدة يسيرة؟ في سنة خمس، وعشرين للهجرة كانت جيوش المسلمين تشرق فيما يسمى بآسيا الوسطى في هذه الأيام، أو فيما يسمى بالجمهوريات الإسلامية، وهي غرباً تجول، وتصول في بلاد المغرب في مدة يسيرة، هؤلاء كانوا يحملون علماً، وعملاً، ولما جاءوا إلى أهل الشام هال الناسَ ما رأوا من أخلاقهم، وأعمالهم، ومع أنهم من النصارى إلا أنهم قالوا: "إن هؤلاء - يعنون أصحاب محمد ﷺ خير من الحواريين أصحاب عيسى - عليه الصلاة، والسلام - "[1].

في ازديادِ العلم إرغامُ العِدا وجمالُ العلم إصلاحُ العملْ[2].

 

  1.  شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (2/ 293).
  2.  مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (3/ 236) ومجموعة القصائد الزهديات (1/ 522).

 

عقوبة ترك العمل بالعلم

وفي حديث أسامة قال: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: يجاء برجل فيطرح في النار، فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف، ولا أفعله، وأنهى عن المنكر، وأفعله[1] وهو مخرج في الصحيحين، ولا مناص، فليس لأحد أن يقول: سأدع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أجل أن لا يقع لي هذا الوعيد، فإن ذلك يكون أسوأ حالاً في حقه؛ لأن هذا الإنسان يكون قد جمع بين أمرين، بين سوءتين، وخطيئتين، جمع بين ترك الإنكار مع ترك العمل بما أمره الله به، والامتثال، وقد قال الحسن البصري - رحمه الله - : "لقد أدركت أقواماً كانوا أأمر الناس بالمعروف، وأأخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر، وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف، وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر، وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء؟!"[2].   

وفي حديث أبي برزة قال: قال رسول الله ﷺ : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه[3] عن علمه ماذا عمل به، يسأل عن هذا، كلنا سيسأل عن ذلك، فهل أعددنا لهذا السؤال جواباً؟

وعن زيد بن أرقم قال: كان من دعاء النبي ﷺ : اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع[4].

وأخرجه ابن ماجه عن جابر بلفظ: سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع[5].

والعلم الذي لا ينفع، ولا يرفع هو العلم الذي لا يورث عملاً، يستوي فيه حال الإنسان مع حال العوام، فلا ترى فيه زيادة عمل من صلاة، وصيام، وذكر، وقراءة، ومسارعة في الخيرات، هو كغيره ممن لم يتعلم، ولم ينصَب، وقد جعل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - العلماء على ثلاثة أصناف:

الأول: هو ذاك العالم الذي استنار بعلمه، واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسول ﷺ وهو من ورثة الأنبياء.

والثاني: هو العالم الذي استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه، وبين الأول ما بينهما. 

والثالث: هو العالم الذي لم يستنر بنوره، ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة إذا ظهر لهم، وارتقى المنابر.

وبسطة الأول رحمة لهم، وفي حديث جندب قال: قال رسول الله ﷺ : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه[6].

وفي حديث أبي برزة قال: قال رسول الله ﷺ : مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس، وتحرق نفسها[7] والله سمى يوم القيامة بيوم التغابن، ومن التغابن الذي يقع فيه ما ذكره الحسن البصري - رحمه الله - وهو ذاك الإنسان الذي علم علماً فانتفع به غيره، فعمل به، فدخل الجنة، ولم يعمل هو بمقتضى هذا العلم، فدخل النار فذاك يوم التغابن[8].

وفي حديث أنس مرفوعاً: مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون مالا يفعلون[9] رواه الإمام أحمد، وذكره الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في صحيح الترغيب، والترهيب.

يا أيها الرجلُ المعلِّمُ غيرَه هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
تصف الدواء لذي السِّقام وذي الضَّنى

كيما يصحَّ به وأنت سقيمُ

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبل إن وعظتَ ويُقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ[10]

 فالوعيد الذي في هذه الأحاديث حمل طائفة من أهل العلم على القول بأن ترك العمل بالعلم من كبائر الذنوب، وقد ذكر ابن حجر الهيتمي ذلك في كتابه "الكبائر" وعدّه من جملة الكبائر؛ لورود الوعيد عليه بخصوصه[11].

وهكذا ذكر ذلك الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فذكر طائفة، أو جملة من الكبائر، وقال: "منها أن يقول ما لا يفعل، قال تعالى:  كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]"[12] من الكبائر، والله يقول: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121]. 

يقول ابن مسعود : "والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأَه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله"[13].  

وجاء عن مجاهد - رحمه الله - : "يتبعونه حق اتباعه، وذلك بالعمل"[14].

وهكذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والحسن، وعطاء، وغيرهم، حملوا ذلك على العمل بمقتضى العلم، والقرآن، والتطبيق، والامتثال، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: "إن لفظ التلاوة يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [البقرة: 121] إذا أطلق في مثل هذه الآية فإنه يتناول العمل بالقرآن؛ لأن الذي يتلوه معنى ذلك أنه يتبعه"[15].

وقد جاء عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن"[16].

وجاء عن أبي عبد الرحمن السلمي - رحمه الله - : "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي ﷺ فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يُخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن، والعمل جميعًا"[17]

انظروا إلى الأمثال، أسوأ الأمثال في القرآن ضُربت لأولئك الذي لا يعملون بمقتضى هذا العلم، أمة بكاملها - اليهود - :  مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] وضُربت لفرد، وهو ذاك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فقال: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] فذكره في أبشع صوره، وأسوأ حالاته حينما يخرج لسانه فيحركه.

وفي حديث سمرة الحديث الطويل في الرؤيا التي رآها النبي ﷺ قال: أمّا الذي يُثلَغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة[18] وفي رواية: والذي رأيتَه يُشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به في النهار[19] لا مناص، لابد من العمل، وليس الحل، أو الطريق أن يترك العلم، فإن الله لا يمكن أن يعبد، وأن يتقرب إليه، وأن يعرف الطريق الذي يوصل إليه، ولا يمكن أن يعرف المعبود ولا الدار الآخرة إلا بالعلم.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، برقم (7098) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، برقم (2989).
  2.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 155).
  3.  أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب في القيامة، برقم (2417) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (946).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم (2722).
  5.  أخرجه ابن ماجه، أبواب الدعاء، باب ما تعوذ منه رسول الله ﷺ برقم (3843) وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3635).
  6.  أخرجه أبو داود في الزهد، برقم (377) والطبراني في المعجم الكبير، برقم (1681) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5831).
  7.  صححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5837) ولم أقف على من أخرجه.
  8.  انظر: تفسير القرطبي (18/ 137).
  9.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (12211) وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، لكن قد توبع كما سيأتي، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح" وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (129).
  10.  الأبيات لأبي بكر العرزمي، انظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 18) وأدب الدنيا والدين (ص: 34) والدر الفريد وبيت القصيد (11/ 263).
  11.  انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 155-157).
  12.  إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 309).
  13.  تفسير الطبري (2/ 489) وتفسير ابن كثير (1/ 403).
  14.  رُوي هذا القول عن ابن عباس وابن مسعود كما في تفسير الطبري (2/ 488) وأبي رزين (2/ 489) وروي عن مجاهد (2/ 490).
  15.  انظر: مجموع الفتاوى (7/ 167).
  16.  تفسير الطبري (1/ 74) (1/83).
  17.  المصدر السابق (1/ 74).
  18.  أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصلِّ بالليل، برقم (1143).
  19.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1386).
العلم الصحيح يحمل صاحبه على العمل

فالعلم الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على العمل، فأين المفر؟ لابد من العلم، وحضور مجالس العلم حياة للقلوب، لكن لابد من العمل، وفي حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ : والقرآن حجة لك، أو عليك[1] رواه مسلم.

فإن أولى الناس بهذا القرآن من عمل به، وإن لم يحفظه، وإن أشقى الناس بهذا القرآن من حفظه، ولم يعمل بما فيه، وحديث: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن...[2] هذا مقيد كما جاء في الروايات الأخرى الصحيحة: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، ويعمل به كمثل الأترُجّة[3] فأين الذي لا يعمل؟

وفي حديث النواس قال: سمعت النبي ﷺ يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به[4] أما القراءة بلا عمل، ولا تطبيق، ولا امتثال فهذا شأنه عظيم، وفي حديث أبي أمامة سمعت النبي ﷺ يقول: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه[5] ومن هم أصحابه؟

هم الذين يقرءونه آناء الليل، وأطراف النهار، ويعملون بما فيه، هم الذين يتلونه حق تلاوته، في حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ : القرآن شافع مشفَّع، وماحِلٌ مُصدَّق، من جعله أمامه قادة إلى الجنة، ومن جعله خلفه قادة إلى النار[6] وفي حديث علي أنه ذكر فتناً في آخر الزمان فقال له عمر متى ذلك يا علي؟ فقال: إذا تُفقه لغير الدين، وتُعلم العلم لغير العمل، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة[7] وهو زماننا هذا.

وعن ابن مسعود: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا"[8].

وأبو الدرداء  يقول: "إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رءوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبيك ربي، فيقول: ما عملت فيما علمت؟"[9].

وجاء عن حبيب القيسي أنه كان يقال: "ما أحسن الإيمان، ويزينه العلم، وما أحسن العلم، ويزينه العمل، وما أحسن العمل، ويزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم"[10].

وعن ابن مسعود : "ما استغنى أحد بالله إلا احتاج إليه الناس، وما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده"[11].

وجاء عن الحسن: "كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، ويده".

وسئل الثوري: "طلب العلم أحب إليك، أو العمل؟ فقال: إنما يراد العلم للعمل فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم"[12] هذا السؤال الذي نسمعه دائماً كيف نوفق؟

والإمام أحمد - رحمه الله - يقول: "ما كتبت حديثاً عن النبي ﷺ إلا وقد عملت به حتى مر بي الحديث أن النبي ﷺ احتجم، وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً، فاحتجمت، وأعطيت الحجام دينارًا"[13] إلى هذا الحد!.

ووكيع يقول: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به"[14].

ويقول الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا"[15].

وهذا المُلائي - أعني عمرو بن قيس - يقول: "إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به، ولو مرة تكن من أهله"[16].

 وذاك - أعني أبا عصمة - الذي بات عند الإمام أحمد ليلة - طالب علم - فوضع له ماءً، ثم جاءه في صلاة الفجر، والماء لم يتغير فقال: سبحان الله، رجل يطلب العلم، ولا يكون له ورد من الليل!.

كم مرة سمعنا هذا؟!.

يقول الخطيب - رحمه الله - : "ينبغي لطالب العلم، والحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار النبي ﷺ ما أمكنه، وتوظيف السنة على نفسه، فالله يقول:  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]"[17].

 فالعبادة ضربان كما يقول أهل العلم: علم، وعمل، وحقهما أن يتلازما؛ لأن العلم كالأس، والعمل كالبناء، وكما لا يغني أس ما لم يكن بناء، ولا يثبت بناء ما لم يكن أس، كذلك لا يغني علم بغير عمل، ولا عمل بغير علم، ولهذا يقول بعض أهل العلم: "العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يُطلب علم، ولولا العلم لم يُطلب عمل، ولأنْ أدع الحق جاهلاً به أحب إليّ من أن أدعه زهداً فيه"[18] يعني بعد أن عرفته. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، برقم (223).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم (5427) وبرقم (7560) في كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم (797).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به أو فخر به، برقم (5059).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، برقم (805).
  5.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، برقم (804).
  6. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (8655)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (1855)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4443).
  7.  أخرجه معمر بن راشد في جامعه، برقم (20743).
  8.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 705)، برقم (1266)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 131) واقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 23).
  9.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 682)، برقم (1204)، واقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 42).
  10.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 506)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (9/ 155)، قال رجاء بن حيوة: كان يقال: "ما أحسن الإسلام ويزينه الإيمان، وما أحسن الإيمان ويزينه التقوى، وما أحسن التقوى ويزينها العلم، وما أحسن العلم ويزينه الحلم، وما أحسن الحلم ويزينه الرفق".
  11.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 707)، برقم (1275).
  12.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 12).
  13.  تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 588)، وسير أعلام النبلاء (11/ 296).
  14.  تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (2/ 588)، ومقدمة ابن الصلاح (ص: 355).
  15.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 700) برقم (1249).
  16.  صفة الصفوة (2/ 72).
  17.  الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع للخطيب البغدادي (1/ 142).
  18.  اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 15).
جهاد النفس على أربع مراتب

وجعل ابن القيم - رحمه الله - جهاد النفس أربع مراتب[1]:

الأولى: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الرسول ﷺ الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها، ومعادها إلا به، ومتى فاتها شقيت في الدارين، هذا يحتاج إلى مجاهدة؛ لأنه يحتاج إلى تواضع، وصبر، وجلوس، وتعب، وعناء، وقد يسمع ما يكره مما يخالف هواه.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فإن مجرد العلم بلا عمل لا ينفع، وهذا يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس تقعد به، وتشده إلى الكسل، وتطلب الراحة.

والثالثة: أن يجاهدها في الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى، والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله .

والرابعة: وهي أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين.

هذا هو العالم الرباني تعلم، ويعمل، ويدعو، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويصبر على ما يصيبه من الأذى، وقد قال بعض أهل العلم لرجل رآه يستكثر من العلم دون عمل: "يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمتى تقاتل؟![2] 

فعلامَ إن لم أشفِ نفساً حرةً يا صاحبي أجيد حمل سلاحي.
  1. - انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 9).
  2.  الكشكول (2/ 281).
العمل بالعلم سبب للرفعة

إننا إذا عملنا بما نتعلم فإن ذلك يحصل به الرفعة عند الله بل الرفعة في الدنيا، والآخرة، والله يقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] والذي يعمل بعلمه يحصل له الاستقامة، والثبات، ولا يشقى، ولا يضل في الدنيا، ولا في الآخرة.

العلم جنة، ومجالس العلم من رياض الجنة، ولكن ذلك لا يكون، ولا يتحقق إلا إذا كان الإنسان يعيش هذا العلم عمليًّا في سلوكه، وحياته، والله يقول:  فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123] كما أنه يحصل بالعلم النجاة في الآخرة، وإذا سئل: ماذا عملت فيما علمت؟ كان عنده الجواب

والعلم ليس بنافعٍ أربابَه ما لم يفد عملا وحسنَ تبصُّرِ
إذا العلمُ لم تعمل به كان حجةً عليك ولم تُعذر بما أنت حاملُ
فإن كنتَ قد أبصرتَ هذا فإنما يُصدِّق قولَ المرءِ ما هو فاعلُ[1].
  1.  الأبيات لسابق البربري، انظر: اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 54) وجامع بيان العلم وفضله (1 699).
من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم

كما أن الذي يعمل بعلمه يسلم من حال أولئك الذين وصفهم الله بأسوأ الأوصاف، وضرب لهم أسوأ الأمثال وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف: 175] وهكذا:  مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [الجمعة: 5] والله  يقول:  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف: 57] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود"[1].

كما أن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، وهذا شيء مشاهد فتفتح بصيرته، ويستنير قلبه، والله يقول: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وهذا الهدى يكون في العلم، والعمل: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68]  كما أن العلم إنما يحفظ بالعمل، فإذا طبقته، وامتثلته بقي راسخاً ثابتاً لا يُنسى، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - من جملة الأسباب التي يحصل بها ذهاب العلم، ونسيانه ترك العمل به[2].

فالعمل به يوجب تذكره، وتدبره، وإذا ترك العمل، والامتثال نسيه، ولهذا كان بعض السلف يقول: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"[3].

وقال بعض السلف - وهو عنوان هذا الدرس - : "هتف العلم بالعمل فإن أجابه حل، وإلا ارتحل"[4] والزهري - رحمه الله - يذكر في غوائل العلم جملة منها: "ومن ذلك أن يترك العمل به حتى يذهب"[5].

وكان الشعبي - رحمه الله - يقول: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم"[6].

وأبو قلابة - رحمه الله - كان يوصي تلميذه أيوب السختياني يقول: "إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدث به الناس"[7].

ويقول القاسم: قال لي عبد الله: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه للخطيئة كان يعملها"[8] وإذا عمل الإنسان بمقتضى العلم صار قدوة صالحة للآخرين، فالناس ينتفعون بعلمه، ويقبلون عنه الفتيا، ويبارك له في هذا العلم، وينتفع به الخلق، وقد قال عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده حين دفعه إليه: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت"[9].

  1.  المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 104).
  2.  انظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 169).
  3. - اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 90) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 709).
  4.  اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 36).
  5.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 442) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 364).
  6.  جامع بيان العلم وفضله (1/ 709) ونُقل عن وكيع بن الجراح أيضًا في جامع بيان العلم وفضله (2/ 1031).
  7.  اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي (ص: 34).
  8.  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 258)، برقم (1787).
  9.  انظر: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (1/ 425).
يجب أن يكون طالب العلم قدوة لغيره

فالمعلم في قاعة الدرس، الخطيب في منبر الجمعة، المحاضر، الأستاذ في الجامعة كل هؤلاء ينظرون إلى هذا الإنسان الذي يعلمهم، فإن رأوه يمتثل فإنهم ينتفعون بعلمه، ويقبلون عنه، ومن يرون أنه يتكلم  بأمور كأنه يُدفع إلى ذلك دفعاً فثقوا أن هذه الكلمات لا يمكن أن تجاوز آذانهم فتصل إلى القلوب في حال من الأحوال؛ لهذا نقول للمربين، وللمعلمين، وللخطباء، وللموجهين: لو أننا كنا نمتثل، ونعمل، ونطبق، والله لتغيرت أحوال المجتمع، كم عدد الذين يطلبون العلم؟ وكم عدد الذين يحضرون، ويتعلمون في خطبة الجمعة، وغيرها؟ فأين العمل؟ وأين الامتثال؟ أين التطبيق؟ لكن يستمع الإنسان أحيانًا إما لرغبة في نفسه، وإما لغرض، أو عرض من أعراض الدنيا، أو لأنه يعتقد أن حضوره لهذه الخطبة مثلاً أن ذلك من المطالب الشرعية، فهو يحضر فإذا بدأ الخطيب فإنه سرعان ما يغلب عليه النوم، ولربما خرج من الخطبة، وسئل عنها فلم يدرِ ما يجيب!    

إذا أنت لم ينفعك علمُك لم تجد لعلمك مخلوقاً من الناس يقبله
وإن زانك العلمُ الذي قد حملتَه وجدت له من يجتنيه ويحمله[1].

 وبعضهم يقول:

 يا واعظ الناس قد أصبحت متهمًا إذا عبت منهم أموراً أنت تأتيها

فما أكثر التقصير!، ينبغي أن نعلم جيداً أن من صحة النية في طلب العلم أن يكون ذلك يراد به العمل، والتقرب إلى الله وليكن ذلك منهجاً للإنسان، ولماذا يسعى الإنسان، ويجد، ويجتهد في تحصيل الوسيلة، ويترك الغاية؟ الصحابة لما سمعوا الله يقول:  لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] جاء زيد بن حارثة فنظر في أفضل ما يملك فكانت له فرس يقال لها: "سَبَل" فقال: "هي في سبيل الله"[2].

وجاء أبو طلحة فنظر في ماله فوجد بَيْرحاء هي أفضل أمواله، وكانت قريبة من المسجد فيها ماء طيب، يشرب منه النبي ﷺ فلما نزلت هذه الآية قال: "يا رسول الله، إن الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها، وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله"[3].   

من منا يومَ مر على هذه الآية نظر في شيء من ماله - ليس من أحب الأموال إليه - وأخرجه منه؟ كم مرة قرأنا الآية؟ وكم مرة حركت في نفوسنا ساكناً؟

وفي الصحيحين أن عمر قال: "يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها[4].

وهكذا كانت له جارية من سبي جلولاء، وكانت من أحب الأشياء إليه فقال: هي حرة لوجه الله"[5] لما قرأ هذه الآية.

وابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - يقول: "حضرتني هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية لي رومية، فقلت: هي حرة لوجه الله"[6] نحن الواحد إذا أرد  أن يتصدق يقلب أحياناً المتاع، أو اللباس، هذا جيد، هذا لا، هذا نحتاجه، وهذا نريده، وقد لا يُخرج إلا التالف، لو نظر الإنسان، وحسب في مدة عام كم مرة تصدق بصدقة مما يحب؟ 

أقول: لا نذهب بعيداً، فتش، وانظر، وافحص، وقلب أمورك، واجلس مع نفسك هذه الليلة، وانظر في أحوالك، وأعمالك، وتقصيرك، وما أنت عليه من الحال، والعمل، ثم جدد حياتك، لا نذهب بعيداً، النبي ﷺ كما في حديث أبي هريرة يقول: والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة[7] رواه البخاري.

من منا في يوم واحد من حياته - وليس كل يوم - استغفر سبعين مرة؟ النبي ﷺ يستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة، وفي حديث الأغر المزني عن النبي ﷺ : يا أيها الناس توبوا إلى الله، واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة[8] رواه مسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه.

من منا في يوم في حياته تاب في اليوم مائة مرة؟ في يوم واحد مائة مرة؟ نسمع هذه الأحاديث دائماً لكن أين الامتثال؟ وأين التطبيق؟ وأين التغيير؟ وأين الاستجابة لله ؟

اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 24 - 25] المسألة ليست سهلة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فلا يملك قلبه، يطمس عليه فلا يستجيب أبداً حتى يموت، ولا تسأل عما ينزل بالناس من الفتن العامة، والخاصة بسبب تركهم ما أمرهم الله به: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ونحن الآن نتقلب من فتنة إلى فتنة.

إنكار المنكر: حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه[9] رواه مسلم، تقف عند الإشارة، وتسمع صوت المعازف هل كلمته؟ هل أنكرت عليه؟ تدخل في السوق، وترى هذه متبرجة، وهذا يلاحق النساء، وذاك تارك للصلاة، هل كلمتهم؟ هل وقفت؟ هل نصحت؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المنكر؟  

أعراض المسلمين الغيبة أليست من الكبائر؟ حقوق المسلمين، وما يجب علينا فيها، حديث أبي بكرة مرفوعاً: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا[10] الدماء، والأموال، والأعراض من يستطيع أن يقول: أنا لا أغتاب الناس؟ طلاب العلم هل منهم أحد يستطيع أن يقول: أنا لا أغتاب؟ أليست الغيبة فاكهة المجالس؟ ولو أن أحدًا منا قال لأصحابه في يوم من الأيام: لا تغتابوا الناس، سبِّحوا، أنا متأكد أن أكثرهم سيصمونه بشيء من الغفلة، والبساطة، والسذاجة، طلاب العلم ليس العوام، العوام يستحون، ويبتسم، ثم يقول: جزاك الله خيرًا، لكنْ من طلاب العلم مَن لا يسكت عن غيبة في مجلس - بأي سبب من الأسباب - تُفرى فيه اللحوم، والأعراض أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12] فلان كذا، وفلان فيه كذا - عالم، أو متعلم - لو جاءه إنسان في كل مجلس، وقال: اتق الله يا أخي لا تتكلم في الناس، سيستثقل الناس حضوره المجالس، وسترى أثر ذلك في وجوههم في نفس المجلس إلا من رحم الله وجرب هذا، وفي حديث أبي هريرة  مرفوعاً: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه[11].

أليس أكثر التهاجر، والتقاطع هو بين المنتسبين إلى علم، أو دين، أو دعوة؟ أليس هذا هو الواقع؟ أين العلم؟ أين العمل بهذا الحديث؟ أين أعراض المسلمين؟ أين أعراض الدعاة إلى الله ؟ أين أعراض العلماء؟ أين أعراض الصالحين؟ تُمزق.

الجيران: من منا لم يسمع بحديث: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[12] حديث أبي شريح الخزاعي مرفوعاً إلى النبي ﷺ : من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر فليحسن إلى جاره[13] من منا يتعاهد الجيران، ويقصدهم بالزيارة، والتفقد؟ يسافرون، ويرجعون، ويمرضون، ويصحون، ونحن آخر من يعلم، مشغول، مشغول بماذا؟ هذا هو الشغل، أين العمل بالعلم؟.

العقوق، والصلة:  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83] الوالد، أو الوالدة تقول له: لا تخرج الليلة اجلس عندنا، يقول: أنا مواعد الشباب، لا تسافر بالليل سافر بالنهار أحسن، أخاف عليك، أنا ما أعرف أمشي بالنهار أنا ما أعرف أمشي إلا بالليل مع السلامة، هذا عقوق، عاق، وإن كان طالب علم بزعمه، أين العمل؟   

بل أكثر من هذا هو يعلم أن والده، أو أن والدته لا تحب منه أن يصحب فلاناً، أو أن يذهب للمكان الفلاني، أو أن يسافر إلى المكان الفلاني هو يعرف، مقتضى البر أن يجلس سمعاً، وطاعة، أنا لا أذهب لأنكم لا تريدونني أن أذهب، أحد العلماء عندكم هنا - نسأل الله أن يبارك في عمره - أظنه الآن بلغ قريباً من الثمانين حاولنا كثيراً أن يأتي للشرقية كانت له والدة توفيت - رحمها الله - كان يقول: والدتي لا تسمح لي أن أسافر، يذهب ليلقي دورة، أو محاضرة ما ذهب ليتمشى، ويزور أصحابه، أو يذهب معهم في نزهة، لا، يذهب لمحاضرة، وعلم، عالم كبير في السن. 

صلة الأرحام، الأقارب قد يكونون في البلد عندك، وتمر السنة لربما لا تراهم، حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ يقول: الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله[14] رواه مسلم.

هات لي طالب علم حفيًّا بوالديه، حفيًّا بأرحامه، حفيًّا بجيرانه، إذا تعلم مسألة طبقها، وعمل بها، فهذا هو العلم الذي ينفع، ويرفع.

كلنا سمع الحديث: من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق[15] أكثر من هذا! من منا طبقه؟ نحن لا نحتاج أن نسأل الآن ليجيب كل واحد، هذه الأعمال بيننا، وبين الله لكن نحن في غاية التقصير.

حديث آخر: خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح يوم الجمعة، وأعتق رقبة[16] من جمعها؟.

من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه غفر له، وإن كان فر من الزحف[17] سمعنا من قاله بهذا النص.

الصلاة على النبي ﷺ ليلة الجمعة، وفي يوم الجمعة[18] دعك من بقية الأيام، كم مرة نصلي على النبي ﷺ في اليوم، والليلة؟

فالنبي ﷺ يقول: إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة[19] احسب يوم الجمعة كم مرة تصلى على النبي ﷺ ؟!.

النبي ﷺ يقول: من قرأ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] كل ليلة منعه الله بها عذاب القبر[20] من منا يواظب على قراءتها قبل النوم؟.

من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة[21].

الأخلاق: أحياناً يكون طالب العلم من أسوأ الناس خلقاً، نسمع في أسئلة بعض الأخوات الزوجات أشياء تشيب لها المفارق، حينها يتعجب الإنسان يوجد بشر يعيشون بهذه الطريقة، والتعامل السيئ مع أقرب الناس إليهم! تُفاجأ أنه خطيب مسجد، لا نعرف من هو لكن تقول: هذا خطيب مسجد، هذا شيخ، هذا خريج شريعة، إجرام ابتزاز ظلم قهر ضرب شتم تقبيح ظلم أشياء هائلة، والنبي ﷺ يقول: أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن[22] الخلق الحسن ليس ابتسامات نوزعها لأصدقائنا، الخلق الحسن يظهر أول ما يظهر في داخل البيت، كيف تتعامل مع أختك، وأخيك، وأمك، وأبيك؟ كيف تتعامل مع هؤلاء الذين يعرفون أحوالك، ويطلعون على ما لا يطلع عليه الآخرون، والكلفة قد سقطت؟ إذا خرج تزين باللباس، وتجمل أمام أصحابه بالكلام، والتلطف، وفي البيت شيء هائل من الفظاظة، والأخلاق، فلان لطيف المعشر، لطيف المعشر أمامك.  

بل إن بعضهم يلقب في بيته بألقاب قد وضعت له، وعرف بها لشراسته، ولا حاجه لأنْ أذكر هذه الألقاب، شرس هو حافظ القرآن، وطالب علم في غاية الشراسة، والنبي ﷺ يقول: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة[23] من منا لو علم بأن هناك خصومة بين اثنين من الجيران، أو من المعارف، أو من الأقارب، أو من الأصحاب ذهب ليصلح لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] من منا يتحرى هذه الأمور، ويكون سبباً لجمع القلوب، وائتلاف الكلمة، والإصلاح بين الناس؟.

النبي ﷺ يقول: من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن[24] تقضي عنه ديناً، تقضي له حاجة، تنفس له كربة، المفروض من عرف هذا، وسمعه أن يشتغل به، إدخال السرور، الكلمة الطيبة، الخبر السار، احتسب ذلك عند الله تنفيس الكرب، قضاء الديون.

وهكذا عيادة المريض أنا رأيت من العامة من يذهب إلى المستشفى كل يوم لأناس لا يعرفهم، يمر على المستشفى، ورأيت من يذهب في يومين في الأسبوع، ومن يذهب في يوم، ويوم، والنبي ﷺ يقول: إذا عاد المسلم أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح[25] رواه أبو داود، وأحمد، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -.

فهذه نماذج، وأمثلة، وكل إنسان ينبغي أن يرجع إلى نفسه فيفتش، وينظر في حاله هل هو يعمل؟ كلٌّ بحسبه، والعلم ليس معناه أن الإنسان يتخصص بدراسة العلوم الشرعية، لا، ما تسمعه في الإذاعة، ما تسمعه في محاضرة، ما تسمعه من المنبر، كل هذا من العلم، ما تقرؤه في كتاب، فمن استكثر من العلم ينبغي أن يكون أكثر الناس عملاً، يفترض أننا إذا دخلنا كلية مثل كلية الشريعة أقول: يفترض لو دخلنا في مساكن هؤلاء الطلاب، وعاشرناهم أن نجد أنهم أكثر الناس عملا؛ لأنهم أكثر الناس علماً، هذا هو الواقع، أكثر الناس علماً يجب أن يكونوا هم أكثر الناس عملاً فأين العمل؟ أين التطبيق؟ أين الامتثال؟  

هذا الإعراض سبّب بلايا، ورزايا أصابتنا من قسوة القلوب، والغفلة الغالبة، كما سبّب أيضاً سمعة سيئة عند الكثيرين من العامة، ففُتنوا بذلك، حينما يرى أمثال هؤلاء، ويرى ما هم عليه من قلة العمل، وكثرة الانكباب على اللهو، والدنيا، وجمعها، وحطامها يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [الشعراء: 226] إذا رأى الإنسان من هذه النماذج فُتن، فإذا رأى أولئك الذين يعملون بعلومهم فإنهم لا شك سيكونون نماذج عظيمة لهؤلاء الناس تجعلهم يستجيبون للدعوة الإسلامية بسبب سلوكنا، وأعمالنا، وأحوالنا، وليست القضية، والعبرة بكثرة القول، والكلام، وإنما العبرة بالحال، والصدق مع الله وما عليه الإنسان من الهدي، والاستقامة، والإصلاح.

هذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وأستغفر الله وأتوب إليه، فالتقصير كثير، وأعوذ بالله أن نكون ممن يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم.

ونسأل الله أن يعفو عنا، وعنكم، ويغفر لنا، ولكم.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.  

  1.  البيتان لمحمود بن الحسن الوراق، انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 630)، برقم (1088).
  2.  انظر: تفسير الطبري (5/ 577).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم (1461)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد، والوالدين ولو كانوا مشركين، برقم (998).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، برقم (2737)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف، برقم (1632).
  5.  انظر: تفسير البغوي (2/ 67)، وتفسير ابن كثير (2/ 74)، وعزاه للبزار، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 260).
  6.  أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (6375).
  7.  أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي ﷺ في اليوم والليلة، برقم (6307).
  8.  أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، برقم (2702).
  9.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم (49).
  10.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، برقم (1739)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، برقم (1679).
  11.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله، برقم (2564).
  12.  أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، برقم (6015)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب الوصية بالجار، والإحسان إليه، برقم (2625).
  13.  أخرجه مسلم بهذا اللفظ، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار، والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، برقم (48).
  14.  أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2555).
  15.  أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ باب في فضل التكبيرة الأولى، برقم (241)، والطبراني في العجم الكبير، برقم (928)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2652)، وحسنه في صحيح الجامع، برقم (6365).
  16. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (2771)، وقال الألباني: "سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات معروفون" في السلسلة الصحيحة، برقم (1023).
  17.  أخرجه أبو داود، أبواب فضائل القرآن، باب في الاستغفار، برقم (1517)، وقال الأرنؤوط في تحقيقه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة بلال بن يسار بن زيد وأبيه" والترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ باب في دعاء الضيف، برقم (3577)، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (4670)، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (29449).
  18.  أخرجه النسائي، كتاب الجمعة، إكثار الصلاة على النبي ﷺ يوم الجمعة، برقم (1374)، وابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه ﷺ برقم (1637)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1208).
  19.  أخرجه الترمذي، أبواب الوتر، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي ﷺ برقم (484)، وابن حبان في صحيحه، برقم (911)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (1821).
  20.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (10479).
  21.  أخرجه النسائي في الكبرى، برقم (10485)، وأحمد في المسند، برقم (16958)، وقال محققوه: "حديث حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه، سليمان بن موسى - وهو الأشدق- لم يدرك كثير بن مرة، فيما قاله أبو مسهر، ونقله عنه المزي في "تهذيب الكمال" وبقية رجاله ثقات، الهيثم بن حميد: هو الغساني" وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (644)، وصححه في صحيح الجامع، برقم (6468).
  22.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (27555)، وقال محققوه: "حديث صحيح" وابن حبان في صحيحه، برقم (481)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (134)، وبرقم (5721).
  23.  أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، برقم (4919)، والترمذي، في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ برقم (2509)، وأحمد في المسند، برقم (27508)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2595).
  24.  أخرجه البيهقي مرسلاً في شعب الإيمان، برقم (7274) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5897).
  25.  أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في فضل العيادة على وضوء، برقم (3098)، والترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في عيادة المريض، برقم (969)، وابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضًا، برقم (1442)، وأحمد في المسند، برقم (611)، وقال محققوه: "صحيح موقوفًا، رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن اختلف في وقفه ورفعه، والوقف أصح" وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (682).

مواد ذات صلة