الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
وقفات مع قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...}
مرات الإستماع: 0

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فمرحبًا بكم معاشر الإخوان، وأسأل الله أن يجعل هذا المجلس خالصًا لوجهه الكريم، ومقربًا إلى مرضاته، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أيها الأحبة، حديثنا معكم في هذه الليلة: في ذكر نعم الله جل جلاله علينا.

فأقول: بأن ذكر النعم مؤذن بثبوتها وبقائها واستقرارها، فذكرها وشكرها قيدها؛ فإن النعم قد تنتقل وتزول عن الناس إذا قابلها الناس بالإعراض والنسيان والكفران والجحود للمنعم المتفضل .

والله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة من كتابه يذكرنا بنعمه الظاهرة والباطنة، يذكر عموم الخلق بنعمه، كما في قوله : وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ۝ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ۝ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف:12-14].

فهذه الفلك، السفن، والمراكب المتنوعة التي نركبها ونتنقل بها، وتحمل الأثقال من بلد إلى بلد، كل ذلك نعم مستفيضة يحتاج العبد أن يستحضر معها هذا المعنى، وأن يستعملها في طاعة الله وما يقرب إليه، أو في أقل الأحوال أن لا يستعملها في مساخطة.

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وخاطب عيسى وهو نبي من أنبياء الله: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً... [المائدة:110].

فإذا كان نبي من الأنبياء يذكره الله بنعمته، فنحن من باب أولى.

كما ذكر الله بني إسرائيل وهي أمة ممتدة اصطفاها الله -تبارك وتعالى- واجتباها في وقت من الأوقات على العالمين، ولكنهم ما قابلوا نعمته بالشكران، فأدى ذلك إلى زوالها عنهم وأورث الله نعمة الكتاب والنبوة إلى هذه الأمة، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، وهم أمة محمد ﷺ.

فالله يخاطبهم في مواضع من كتابه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:122].

كما خاطب أهل الإيمان: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [البقرة:231].

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].

كان الناس في جهالة وعماية لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان، فبعث الله إليهم أشرف رسول، وأنزل عليهم أعظم الكتب، وحباهم، واجتباهم، واصطفاهم على العالمين.

كما أنه -تبارك وتعالى- جمعهم بعد الشتات والفرقة والتطاحن والتناحر، فصاروا أمة واحدة ملتئمة يجتمعون على الحق، ويبذلون في سبيله النفوس والمهج والأموال، فزالت تلك العداوات والشحناء والحروب التي كانت تشرذمهم، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:7].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11].

كما ذكرهم -تبارك وتعالى- بأن كثرهم بعد القلة: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ۝ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:9-11].

لما حاصرهم الأعداء من كل جانب في وقعة الأحزاب، ثم دفع الله عدوهم بلا جهد منهم، ولا قتال، وإنما أرسل عليهم ريحًا، وألقى في قلوبهم الرعب، فأزال عنهم العدو والمخاوف، وحصل ما حصل مما تعرفون، فهذا كله يذكرهم الله به.

وهكذا الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يذكرون أقوامهم بنعم الله عليهم كما قال هود لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69].

وقال صالح لقومه مذكرًا ومنبهًا على نعم الله عليهم: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].

وقال شعيب : وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف:86].

وقال موسى لقومه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [إبراهيم: 6].

وقال لهم: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى.

فذكر النعم مطلب شرعي لابد من تحقيقه، وذلك يكون بالقلب باستحضار النعمة، وقيام شكرها في القلب للمنعم -تبارك وتعالى- وكذلك أن تذكر باللسان، أن يتكلم الإنسان، أن يذكر نعمة الله عليه فلا يجحد ذلك، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فيذكر من إنعام الله وإفضاله عليه ما يدل على شكره وامتنانه لهذا الإنعام والإفضال، ثم بعد ذلك يتلو هذا الذكر باللسان قيام الجوارح بوظائف العبودية، بالعمل بطاعة الله، والتقرب إليه بكل مستطاع.

وأمر رابع: هو أن تحفظ هذه النعم من الزوال، فلا تستعمل في معصية الله وما يسخطه، أن نسخر هذه النعم التي حبانا الله بها بما يرضيه، أن يسخر الإنسان نعمة البصر التي حرمها من حرمها بالنظر فيما ينفع، بالتفكر في آلاء الله -تبارك وتعالى- بالنظر في كتابه.

أن يسخر الإنسان نعمة السمع التي إذا حرمها الإنسان منذ ولادته فإن ذلك ينتج عنه انعدام النطق ولا محالة، أن يسخر هذه النعمة بسماع ما ينفع بدلا من أن يشتغل بسماع الغيبة والغناء واللهو والطرب، وما يضره ويجني عليه ويفسد عليه دنياه وآخرته.

وهكذا -أيضا- نعمة العافية، ونعمة المال، إلى غير ذلك من ألوان الإفضال والإنعام، فتكون تلك النعم جميعًا مستعمله فيما يحبه ربنا -تبارك وتعالى- ويرضاه.

أيها الأحبة، كل ما نحن فيه من الخيرات الظاهرة والباطنة فهو نعم مما نعرفه، وما لا نعرفه، الأعمال الصالحة التي نتقرب بها إلى الله .

الإيمان نعمة حرمها الكثيرون، والله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

ويقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116]، فإذا أنعم الله على عبد بنعمة الإيمان فينبغي أن يتذكر هذا المعنى، وأن يحافظ عليها، وأن يعلم أن هذا الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه حينما يعمل بطاعة الله من صلاة وصيام وحج وصدقة، إلى غير ذلك، هو ينمي إيمانه بهذه الأعمال الطيبة الصالحة التي يحبها الله .

هذه الصلاة التي صلينا هي نعمة حرمها الكثيرون، الأذكار التي نقولها في كل حين نعمة من الله قراءة القرآن، الصوم، الحج، الزكاة، كل ذلك من النعم، وكل هذا من توفيق الله ومنه وصدقته على عباده، فأعاننا عليها، وخلق فينا الإرادة والقدرة عليها، وحبب إلينا هذه الأعمال والإيمان، وزين ذلك في قلوبنا، وكره إلينا أضدادها.

فهذه النعم مع ذلك كله ليست ثمنًا ولا مقابلاً لإنعامه وإفضاله، ولا تكون على مقدار حقه وعظمته جل جلاله، فإذا بذل العبد وسعه وشمر عن ساعد الجد بفعل ما يرضي الله جل جلاله، فإنه بهذا يكون متقربًا إلى الله شاكرًا ذاكرًا قد فعل ما يجب عليه، وما طالبه به ربه -تبارك وتعالى- وإلا فكما قال النبي ﷺ: لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة...[1].

فإذا تدبر العبد ما هو فيه من أعمال صالحة وحسنات، فشكر الله على هذا زاده الله من فضله أعمالاً صالحة يفيضها عليه، وإذا علم العبد أن ما يحصل له من الشرور والآفات والمصائب والبلايا إنما هو بعمله وبذنوبه فإنه يستغفر، فيزول عنه سبب الشر، فيكون العبد دائمًا مستغفرًا شاكرًا، فلا يزال الخير يتضاعف عليه ويتنامى عنده، حتى يرتقي في درجات عالية في سلم العبودية.

ثم أيها الإخوة والأخوات، شكرنا لهذه النعم هو نعمة من الله أيضا علينا، فكيف لنا بالقيام بحقه جل جلاله؟

إذا كان شكري نعمة الله نعمةً عليَّ له في مثلها يجب الشُّكر
فكيف بلوغ الشُّكر إلاّ بفضله وإن طالت الأيَّام واتَّصل العمر
إذا سرَّ بالسَّراء عمَّ سرورها وإن مسَّ بالضَّراء أعقبها الأجر
وما منهما إلاّ له فيه نعمةٌ تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحر[2]

ولهذا قال أبو العباس المبرد -رحمه الله: إن الله لا يحمد إلا بتوفيقه، فيجب أن يحمد على التوفيق، ثم يجب في الحمد الثاني ما يجب في الحمد الأول أبدًا إلى حيث لا نهاية.

وقد أحسن القائل:

إذا أنت لم تزدد على كلِّ نعمةٍ قد آتاكها شكرًا فلست بشاكر[3]

فإذا وفق العبد لبعض الشكر، ولبعض الأعمال الطيبة فيعلم أن هذا الشكر هو نعمة تحتاج إلى شكر، فلا يكون مدلا على الله ولا ممتنا عليه بهذه الأعمال القليلة التي قام بها.

من الناس من إذا صلى في يوم واحد في الشهر صلاة الفجر مع الجماعة بدأ يتحدث بها، ويفتخر به، ويذكره عن جلسائه، وما علم أن الله هو الذي هداه ووفقه لهذا العمل، فينبغي أن يشكره عليه من أجل أن يستزيد من طاعات الله ومحامده وشكره.

لك الحمد يا ربي على كل نعمة ومن جملة الإنعام قولي لك الحمد
ولا حمد إلا منك تعطيه نعمة تعاليت أن يقوى على شكرك العبد[4]

بل حتى البلاء والمصائب والآلام التي تصيبنا وتقع لنا، وما يحصل للإنسان من الحزن والهم والغم والمرض، كل ذلك نعمة من الله عليه؛ لأنه يأجره على هذه البلايا ويرفعه الدرجات العالية، ويكفر عنه السيئات، فإذا قدم على الله قدم وقد تحاتت عنه الخطايا والذنوب، فيكون نقيًا من كل ذنب ودنس يعوقه من دخول الجنة والنجاة بين يدي الله .

عطيته إذا أعطى سرور وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أعم فضلا وأحمد في عواقبها إيابا
أنعمته التي أهدت سرورًا أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ أحق بشكر من صبر احتسابا[5]

وقد قال بعض السلف: "نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا... "

يعني: فيما منعني من المكاسب، أو الأرباح، أو التجارات، أو التوسع في مباهج الدنيا وزينتها وما يفتخر به كثير من الناس.

"نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا، أعظم من نعمته علي فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطاها قومًا فهلكوا"[6].

 والإنسان لا يدري ما الذي يصلحه؟ فإن من عباد الله من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه الله لفسد، ومن الناس من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقره الله لفسد، فالله -تبارك وتعالى- عليم حكيم.

وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِلَّهِ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لَيْسَ تَعْرِفُهَا كَبِيرَةْ
وَكَمْ مِنْ مُدْخَلٍ لَوْ مُتَّ فِيهِ لَكُنْتُ بِهِ نَكَالاً فِي الْعَشِيرَةْ
وُقِيتَ السُّوءَ وَالْمَكْرُوهَ فِيهِ وَرُحْتَ بِنِعْمَةٍ فِيهِ سَتِيرَةْ[7]

فإذا علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بأقل من نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره، وكان لسان حاله: "اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك".

وكيف لا يشكر من قيض لك ما يستخرج به دنسك، وما يستخرج به خبث النفوس، وما يداخلها؟ فتصير نفس الإنسان تبرًا خالصًا يصلح لمجاورة الله في الجنة، وأن يسكن دار كرامته، وأن ينظر إليه في داره.

ولو أراد الإنسان أن يتتبع ألوان النعم التي يفيضها الله علينا صباح مساء، فإنه يعجز عن تعدادها، إيجادنا نعمة، جعلنا أحياء ناطقين نعمة، إعطاؤنا الأسماع والأبصار والعقول نعمة، إدرار الأرزاق على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة، حينما عرفنا بنفسه وأسمائه وأفعاله وصفاته هذه نعمة، إجراء ذكره على ألسنتنا نعمة، إجراء محبته ومعرفته على قلوبنا هي من النعم كذلك.

وهكذا حينما حفظنا بعد إيجادنا، وحينما قام علينا بمصالحنا الدقيق منها والجليل، وحينما هدانا إلى أسباب مصالحنا ومعايشنا، وحينما نذكر نعمه -تبارك وتعالى-، أو نذكر بها، فإن هذا من النعم يكفي أن الإنسان لو عد الأنفاس التي تتردد في يومه وليلته، فقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه الأنفاس تبلغ أربعة وعشرين ألف نفس، فيحتاج الإنسان معها إلى أربعة وعشرين ألف شكر وعمل صالح يقابل به هذه النعمة التي لا يجد فيها كلفة، ولا يستشعرها أكثر الناس.

ولو أن الإنسان نظر في طاعاته وأعماله، وأراد أن يقسمها على أنواع النعم التي أعطاها الله إياها فإنه يعجز عن قليل من ذلك، يقول أبو الدرداء : "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه"[8].

وقد ذكر بعض أهل العلم أن رؤوس النعم ثلاث:

أولها: نعمة الإسلام، التي لا تتم نعمة إلا بها.

الثانية: نعمة العافية، التي لا تطيب الحياة إلا بها.

الثالثة: نعمة الغنى، التي لا يتم العيش إلا بها.

يقول بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله: "يا ابن آدم إذا أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك، فغمض عينيك"[9]، يعرف الإنسان نعمة البصر.

وقام عبدالله بن محمد الشرعبي -رحمه الله- خطيبًا على المنبر في يوم عيد، فنظر إلى الناس، وقد اشتروا الثياب الجميلة ولبسوها، وتزينوا بها، فقال: "يا حسناه، ويا جمالاه، بعد العدم، أصبحتم زهرا وأصبح الناس غبرا، وأصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون، وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون، فبكى وأبكاهم"[10].

انظروا إلى حالنا اليوم، انظروا إلى ما ننعم به من ألوان النعم، هذه الملابس التي نلبسها، من أين يؤتى بها ؟ هذه المراكب التي نركبها من أين يؤتى بها؟ بل إن الأشياء الأساسية التي تقوم عليها أقواتنا اليوم يؤتى بها من مشارق الأرض ومغاربها، من أماكن بعيدة جدًا، لربما كان أهل تلك البلاد لا يستطيعونها، ولا يقدرون عليها.

 كتب بعض الحكماء إلى أخ له، أما بعد، يا أخي، فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصية، فما ندري أيها نشكر؟ أجميل ما ظهر؟ أم قبيح ما ستر"[11].

انظروا إلى ما يوضع على موائدنا، يجد الإنسان صنوفًا من الطعام، قد لا يعرف أسماء الكثير منها، لقد أدرك آباؤنا أمورًا وأحوالاً من الجوع والمسغبة والعري، وقلة ذات اليد، كان الواحد لا يجد شيئًا يركبه، ولربما ذهب وهو حافي القدمين إلى بلاد بعيده، لربما وصل على قدميه، وعلى مراكب يسيرة يخدم من يركب معهم، من أجل أن يحصل أجرة لمركبه حتى يصل إلى الهند، ولربما ذهب إلى الشام، أو إلى غيرها، ثم لا يرجع بذلك بكبير طائل، يبحث الواحد منهم عن لقمة يسد بها جوعته، ولربما قضى السنين الطوال، وإذا قدم إلى أهله قدم بشيء من الودك، أو بشيء من أمور لا تذكر مما يطعمه أهله، ويأتي به تحفة بعد سفر وغياب طويل.

كان الإنسان لربما سافر عشرين سنة، يموت فيها أولاده بأمراض وأوبئة تجتاحهم، ثم يرجع وقد تغيرت كثير من الأحوال بعده.

كان الناس يجد الواحد منهم، ويرى أولاده يتضاغون جوعًا، ولربما يلفظون أنفاسهم، وليس عنده ما يسد به جوعتهم.

الواحد لربما وجد هذا الكيس الذي يوضع به الدقيق، فجاء به كسوة إلى ابنته أو زوجته فتفرح به غاية الفرح، وتتزين به في يوم عيد.

انظروا إلى هذه الأحوال، وانظروا ما يوضع على موائدنا في هذه الأيام من ألوان المطعومات والمشروبات التي لم تخطر على بال آبائنا وأجدادنا الذين أدركوا تلك الأحوال.

هذه الأمور يجب أن تقوم في قلوبنا صباح مساء، وأن نعرف حق الله علينا حقيقة، وإلا فإن الذي قد سيرها من أقوام وأزاحها عنهم، ونقلها إلينا في بلاد لا يعيش فيها إلا الضب والفأر في الصحراء، ليس فيها نبات ولا مرعى، صحراء جرداء، لا يوجد فيها شيء، أفاض الله علينا فيها من النعم ما لا يخطر لأحد على بال، وجاء أبناء أمم بعيدة إلى هذه البلاد يعملون في الخدمة، وبلادهم جنات وأنهار.

أليس هذا مما يستوجب علينا أن تحيا القلوب، وأن نطرد عنا الغفلة، وأن نفيق من الرقدة، وأن نكون عابدين لله حقا ظاهرا وباطنا، وأن نتقرب لله بهذا الإنعام، وأن نحسن إلى هؤلاء المساكين والعمال والخدم، ومن تحت أيدينا وممن نتعامل معهم، فلا نشمخ بأنوفنا، ولا ننسى أننا كنا بحاجة، وأن الله قادر على أن يحول عنا هذه النعم، فنرحم الضعيف والمسكين والفقير، ونطعم الجائع، ونتصدق، ونفيض على المحتاج، وأن لا نمسك عن أحد شيئا نستطيع أن نقدمه إليه.

إِلَهِي لَا تُفِتْنَا مِنْكَ رَحْمَةْ وَعَافِيَةً وَتَوْفِيقًا وَعِصْمَةْ
فَمَا زِلْنَا نُعَرَّفُ مِنْكَ خَيْرًا وَيَحْسُدُ حَاسِدٌ فَيُطِيلُ رَغْمَهْ
وَكَمْ أَذْنَبْتُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ فَلَمْ تَفْضَحْ وَلَمْ تَعْجَلْ بِنِقْمَةْ
وَكَيْفَ بِشُكْرِ ذِي نِعَمٍ إِذَا مَا شَكَرْتُ لَهُ فَشُكْرِي مِنْهُ نِعْمَةْ[12]

انظروا ما عند الواحد منا من الثياب، انظروا إلى ما تجمعه المرأة الواحدة من ألوان اللباس بأغلى الأثمان، نحن اليوم الواحد منا يدخل أكبر الأسواق، ولا يرده إلا نفسه يشتري ما شاء، ويتخير، ويتمتع بالتسوق، وينتقي ما لذ وطاب، وقد ملئت البيوت بألوان النعم التي صارت تتلف فيها، فأين الشكر الذي يقابل ذلك كله؟ والله يقول: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة [لقمان:20].

يقول مقاتل بن حيان -رحمه الله- "أما الظاهرة فالإسلام، وأما الباطنة فستره عليكم بالمعاصي"[13].

والمعنى: أعم من ذلك الظاهرة كل ما ظهر من ألوان النعم، والباطنة كل ما خفي من ستر المعاصي، ومن الأمور التي لا يدركها كثير منا.

يقول أبو هريرة  قال رسول الله ﷺ: إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد[14].

وجاء من حديث ابن عباس مرفوعًا: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ[15].

الذين تأسرهم الأمراض وأقعدتهم على فرشهم لا يستطيعون التقلب في كثير من شهواتهم، والذين قد شغلوا بطلب لقمة العيش هؤلاء لا يجدون وقتا للتنزه.

لقد رأيت في بعض البلاد حينما نجتاز في بعض النواحي، رأيت بلادًا ما كنت أظن أنها في الدنيا، والعجيب أنك لا تجد أحدًا من أهل تلك البلاد يذهب إلى هذه الأماكن ويتنزه فيها، ما رأيت أحدًا فيها، فلما سألت أهلها قالوا: إن الناس هنا في شغل شاغل، يبحثون عن لقمة يسدون بها جوعتهم.

الواحد منا اليوم يتمتع بنعمة الله عليه بالعافية، ولو أنه تحرك فيه عرق، أو عصب، أو تعطل فيه شيء دقيق في البدن لطاف الأطباء، ثم الرقاة، ثم بدأ يبحث، ثم بعد ذلك صار عنده ثقافة واسعة بتفاصيل هذا العرق، أو بتفاصيل هذا العصب، أو بتفاصيل هذا الجهاز في جسمه الذي ما كان يدري عنه شيئًا قبل ذلك، يبدأ يتحدث عنه، وعن عمله، وعن دوره، وعما يؤثره اختلاله وتعطله وتعثره.

أين ملايين الخلايا والأجزاء والعروق والعصب والمفاصل والأبعاض التي توجد في أجسامنا؟ نحن لا نعرف ذلك، أو لا نعرف بعضه إلا إذا حرمنا الله إياه.

وهكذا ما ننعم فيه من الأمن والدعة، رأيت في بعض البلاد الناس يقسمون النوبات على أبناء أحيائهم، يطوفون ليلهم في هذه الأحياء، يدورون من الخوف الذي يتخوفونه على أعراضهم، أو على أموالهم، أو على أنفسهم، يجوبون، ويطوفون هذه الشوارع والأحياء، ومعهم عصي، ولربما معهم سلاح، وهم من أبناء تلك الأحياء، وأهل كل حي يتناوبون ليلهم من أجل حفظ أمنهم، وانظروا إلينا ينام الإنسان ملأ جفنيه لا يخاف إلا الله -تبارك وتعالى- من منا يقلق ويقوم كل خمس دقائق في الليل وهو يتوجس، ويتلفت ويفتح النافذة ويترقب كما يقع لبعض من حولنا؟

انظروا في بعض الإحصاءات في بلد مجاور نسأل الله أن يرفع ما بهم من ضر وبأس، وهم إخواننا في العراق في شهر يوليو وأغسطس قتل في هذين الشهرين 6600 إنسان، وفي عام 2006م قتل 34452 مدنيًا من العراقيين، وأكثر من 36000 أصيبوا في ذلك العام، وفي دراسة حديثة أن 655000 إنسان قتلوا منذ الاحتلال، وذلك يعني أن 500 شخص يموتون يوميًا، وعثر على 631جثة خلال شهر مايو، وعثر على 100 جثة خلال الشهر هذا في الفلوجة قتلوا رميًا بالرصاص، في كل يوم يخرج الناس في الصباح ويجدون جثثا ملقاة، تارة في الأنهار، وتارة في المزابل، وتارة عليها آثار التعذيب، وتارة قد قتلت بالرصاص، لا يدرون من الذي قتلهم.

منظمة أمريكية أقامت بعض الدراسات تقول: بأن الحالة قد هبطت بأرض العراق، وبهذا البلد إلى مستوى الدول الإفريقية الأكثر فقرًا في العالم، المعتقلون ستة أضعاف السجناء، في عهد صدام المختطفون يختطف 20000 ألف إنسان في كل سنة 20000 ألف من الأطفال والنساء والرجال.

حرق 84% من مؤسسات التعليم العالي، أو نهبت، أو دمرت القتلى في قطاع التعليم العالي في بعض الإحصاءات اغتيل 315 عالم، وأكثر من 100 عالم من هؤلاء قتلوا في السنتين الأوليين من الاحتلال أكثر من 100 أرملة و400 يتيم يوميًا، يضافون إلى العداد، فيكونون عبئا جديدًا على المجتمع، أكثر من 100 أرملة يوميًا، وأكثر من 400 يتيم ممن يقتل آباءهم.

يقدر عدد المشردين بأكثر من ربع السكان موزعين بين الداخل والخارج.

مليونان من الأطفال ماتوا بسبب الحصار والقصف بالأسلحة المشعة ما بين سنة 1991م إلى عام 2000م، وأن152000 ألف طفل لقوا حتفهم قبل سن الخامسة خلال 2005م.

قرأت في بعض الإحصاءات هذا اليوم: أن الكثيرين ما عادوا يتركون أطفالهم يذهبون إلى المدارس، يخافون عليهم من القتل، من الاختطاف.

قرأت في بعض التقارير: أن امرأة قد دفعت بطفليها الأول بلغ الثالثة عشرة، والآخر بلغ الرابعة عشرة إلى رئيس عصابة، يتاجرون بالجنس -جنس الأطفال- من أجل قليل من المال يتقوتون به.

المرأة تخرج ولا ترجع، يداهم هؤلاء في بيوتهم، ويربط الرجل وتغتصب بناته وزوجته أمامه، ثم بعد ذلك يحرقون جميعًا، وليس لهم من يطلب بدمائهم.

أمور عجيبة، الضرورات الخمس تنتهك، الدين تمر الجمع المتتابعة لا يستطيع الناس أن يصلوا الجمعة ولا الجماعة، النفوس تقتل، الأعراض تنتهك، الأموال تنهب، فقر مدقع، العقول تضلل، المسكرات والمخدرات.

صارت العراق كما قرأت في بعض التقارير في هذا اليوم محطة كما يقال ترانزيت لتهريب المخدرات والإفيون من أفغانستان إلى أوربا.

الفساد بجميع أنواعه ينتشر ويعم، فنحن بحاجة إلى أن نشكر الله يبيت الإنسان آمنًا في سربه، معافا في بدنه.

وينبغي أن نتقي الله في أنفسنا، وفي تصرفاتنا، وفي كل ما يصدر منا من أقوال وأعمال، وأن يؤخذ على أيدي السفهاء، ونحن كلما ظننا أن هذه الفتن والرزايا قد انطفأت وانخمدت، أو أنها أوشكت وإذا بنا نفاجأ من جديد برزايا وبلايا تتجدد، ثم نسأل الله العفو والمعافاة يخرج بعض أبنائنا بأمور يعجز الإنسان عن تفسيرها وتحليلها، هل بلغت العقول إلى هذا الحد من التضليل؟ بحيث أن الإنسان يريد أن يقلب نعمة الله عليه فيحول البلد من بلد آمنة إلى بلد تتحول إلى مجال للحرب والجريمة وانتهاك كل رذيلة، وأن يتغير ما بالناس من دين وصلاح وعلم، وما بهم من ألوان الإنعام والإفضال إلى خوف وضلال وجهالة، لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل.

أيها الأحبة، ينبغي على الإنسان أن يتذكر أن العاقل من وعظ بغيره، وأن الشقي من وعظ بنفسه، إن الكثيرين الذين لم يعرفوا ولم يذوقوا طعم الخوف، لا يعرفون نعمة الأمن، والذين لم يذوقوا الجوع ولم يعرفوه ولم يبت ليلة واحدة وهو جائع هؤلاء لا يعرفون نعمة الغنى، فيبطرون ويبدر منهم ما يكون كفرًا لهذا الإفضال والإنعام.

كان آباؤنا لا يستطيع الواحد منهم أن ينتقل من أرض إلى أرض إلا وهو في غاية الخوف والوجل، ويحتاج أن يكون معه من يحميه ويحوطه.

قوافل الحجاج، اقرءوا في المذكرات التي كتبها بعض من المستشرقين، أشياء عجيبة جدًا من الغارات التي يغيرها عليهم قطاع الطرق والأعراب، ويقتلون ويأخذون ما معهم حتى يجردونهم من ملابسهم.

بل اقرءوا في التاريخ في (البداية والنهاية) لابن كثير أمور عجيبة جدا، وقد استقرأت كثيرا منها، ولعل الله أن ييسر أن أطرحها في مجلس مستقل، أشياء كثيرة جدًا مما يقع للناس أعوام متعددة، يقول لك ولم يحج من العراق لهذا العام أحد؛ لأن الأعراب قطعوا الطريق، ويقول: ولم يحج من الجهة الفلانية أحد؛ لأن الوباء قد عمها.

أيها الأحبة، هناك نعم عامة كهذه النعم، وهناك نعم خاصة حبى الله الواحد منا بها: العاقل لو اتهم في عقله لغضب، ومن منا يستشعر هذه القضية؟ من منا إذا دعا الله دعاه أن يرزقه عقلاً راجحًا؟ هذا لا يكاد يوجد، لماذا؟ لأن الكثيرين يرضون بعقولهم.

وهكذا الأخلاق لو اتهم الإنسان في خلقه، وأنه يعيش بشيء من الأخلاق الجافة الجافية، فإنه لا يتقبل ذلك، فهو يشعر أنه كامل مكمل، من منا الذي يشكر الله على نعمة العقل والخلق؟

وهكذا أيضًا القبائح التي يقع فيها الإنسان كل إنسان له ذنوب، والله يسترها، من منا يشكر الله على ستره له، فلم يفتضح أمام الناس.

وهكذا الصورة والهيئة التي خلق الله الإنسان عليها، لو قيل له: نستبدل هيئتك بهيئة غيرك، بهيئة جارك، بهيئة زميلك في العمل أو المدرسة، أو نحو ذلك لأبى، وهكذا لو قيل له تبدل حالك بحال غيرك، من أن تكون من أسرة جيرانك، ولا تكون من الأسرة التي نشأت منها، ووجدت منها، فإنه يأبى.

من منا يتذكر هذه الأمور، ويشكر ربه -تبارك وتعالى- عليها؟ من منا ينظر إلى من هم دونه فيما أعطاه الله إياه من الأمور الدنيوية فيتذكر أن الله فضله على كثير من عباده؟

والنبي ﷺ يقول: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه[16].

وقد جاء في لفظ: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم[17].

فإذا قال قائل: ما هو علاج القلوب الغافلة، التي لا تتذكر نعم الله عليها؟

فنقول: أول ذلك: أن ينظر إلى أولئك الذي قد حرموها، أن ينظر إلى من هم دونه، ولو أن الإنسان ذهب إلى الإسعاف، ذهب إلى المستشفى، ذهب إلى أولئك الذين ابتلاهم الله بأمراض مستعصية، ونظر إلى ما يعانيه هو من أمور يسيرة لعرف نعمة الله عليه بالعافية.

وحينما يذهب الإنسان إلى المقبرة، يتذكر أن هؤلاء يتمنون لو أمهلوا حتى يتوبوا، أو أن يصلي الواحد منهم ركعتين، وقد أمهله الله ومد في عمره، فهذا يحتاج منه إلى إعادة نظر في أعماله وعباداته وتوبته وحاله مع ربه -تبارك وتعالى.

ونحن نغفل عن كثير من نعم الله ونقصر فيها، وغاية ما يقوله الواحد منا إذا أراد أن يشكر أن يقول بطرف لسانه: الحمد لله، فيقوم من ألوان الموائد والمطاعم، وهو يتثاقل من هذا القيام، وغاية الشكر عنده -إن شكر- أن يجري ذلك على لسانه فحسب، إلا من رحم الله .

إن الكثيرين لا يعدون النعم العامة التي يشتركون فيها مع الآخرين، أنها نعمة ولا يستحضرونها، ولا يتذكرونها؛ لأنها مبذولة للجميع، مَن مِن الناس من يشكر على نعمة الهواء الذي يتنفسه الإنسان؟ هل رأيتم إنسانًا قد حصل له شيء من الاختناق لسبب أو لآخر، فصار يدور، وهو يحاول أن يتنفس وضاقت به الدنيا بأكملها، وهو ينظر إلى الموت أمام عينيه، والإنسان يجري هذا النفس بطريقة لا يشعر فيها، من منا يقول: الحمد لله على نعمة النفس؟

على نعمة الانطلاق والانتقال والحرية، لو حبس الإنسان في بئر أو حبس في حمّام -أعزكم الله- أو حبس في مكان ضيق، فإنه لا يعرف نعمة الله عليه فيما فسح له وأعطاه إلا إذا حرم ذلك وابتلي بضده، وهذا غاية الجهل، أن الإنسان لا يستشعر النعمة إلا إذا سلبها، والعاقل يشكر نعم الله عليه ويستحضرها ابتداء.

فهؤلاء الذين يقصرون، ونسأل الله أن يغفر لنا جميعًا لا يحمد الله على نعمة البصر إلا إذا كف بصره، ثم رجع إليه، هذا الإنسان لا يعرف نعمة الغنى إلا إذا افتقر، ثم بعد ذلك رجع إليه هذا المال.

وجاء بعضهم يشكو فقره إلى بعض أرباب البصيرة، وأظهر شدة اهتمامه بذلك، فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟

قال: لا، قال: أيسرك أنك أخرس، ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟ قال: لا، قال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال: لا، قال: أما تستحي أن تشكر مولاك، وله عندك عروض بخمسين ألفا؟[18].

وجاء أحد الفقراء وقد اشتد به الفقر حتى ضاقت به الحال، فرأى في المنام كأن قائلاً يقوله له: أتود أنا أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف؟ قال: لا، قال: فمعك قيمة مائة ألف دينار، وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه[19].

ودخل ابن السماك -رحمه الله- على هارون الرشيد في عظة وعظه بها فبكى الرشيد، ثم دعا بماء في قدح، فقال ابن السماك: يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفديها بها؟ قال: نعم، قال: فاشرب ريا بارك الله فيك، فلما شرب، قال له: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك؟ قال: نعم، قال: فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه؟[20].

هل تصورنا هذا المعنى؟ هذا الماء الذي نشربه لو حرمه الإنسان؟ يموت عطشًا، ولو أنه حبس هذا الماء لا يخرج منه كيف تكون حاله ؟ يخرج كل ما بيده، لو كانت الدنيا جميعا بيده لافتدى بها، من منا استحضر هذه النعمة، وشكر الله عليها؟

لذلك أقول: إن الكثيرين لا يعرفون النعمة إلا إذا حرموا، انظروا إلى الزحام في الحج، والعاقل يتعظ بكل شيء يشاهده، انظر إلى الزحام وأنت تنتقل من عرفة إلى مزدلفة، تقف الساعات الطوال في مسافة قصيرة، ولربما لا يجد الإنسان وقتًا، أو مكانا من أجل أن ينزل ويصلي المغرب أو العشاء، حينما نتنقل المسافات الطويلة لربما من غير توقف، أليست هذه نعمة؟

زرت بعض البلاد، فكنا نريد أن نزور أحد المراكز الإسلامية، فقال: هذا يبعد عن المكان الذي نحن فيه -والمكان الذي نحن فيه في وسط البلد- يبعد مسافة تصل إلى ساعتين ونصف، فلم أشك أننا سنمشي ما يقرب من 250 كيلو متر، وكنا قد قدمنا من سفر، وفي غاية الإجهاد والتعب، وبينما نحن نطوف بين الناس، وإذا بالساعتين والنصف تمضي، وإذا بنا نقف عند هذا المكان، قلت: لم نخرج من البلد؟ قالوا: نعم، هذا المكان يحتاج إلى ساعتين ونص في نفس البلد، الطريق السريع كما يسمونه بأجرة عليه رسوم، وهو لا يصل إلى أكثر من سبعة كيلو مترات، ثم ترجع إلى الزحام من جديد، أكداس السيارات والبشر والدراجات النارية لا تستطيع أن تنتقل من مكان إلى مكان إلا بشق الأنفس.

ذهب الأخوان اللذان كانا في صحبتي بعد الظهر إلى مطعم من أجل أن يحضرا معهما الغداء فلم يصلا إلا بعد صلاة العشاء.

وأنظر إلى تنقلنا إذا الإشارة فتحت مرتين اعتبر الواحد منا هذا غاية الزحام والأذية والكرب الذي أصابه، من منا شكر الله على هذه النعمة التي أعطاه الله إياها؟.

انظروا إلى أمور كثيرة جدا إذا كان الإنسان في حملة في الحج، أنظر إلى المكان لربما دفع سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، من أجل نص متر في مترين هو فراشه ومجلسه، ولربما مصلاه، وهو قرير العين، ويرى أنه في غاية الإنعام، وأن الناس يفترشون الأرصفة والشوارع، هذه المساحة القصيرة جدًا، قارن بينها وبين ما نتقلب فيه في بيوتنا، الغرف، والمجالس، والأثاث.

انظروا حينما يكون الإنسان في الزحام إذا أراد أن يغتسل إذا أراد أن يغتسل يحمل هما، بينما نحن هل نفكر في هذه الأشياء، ونحن في بيوتنا؟ أبدًا، لكن المشكلة كما قلت أننا لا نشعر بالنعمة إلا إذا فقدناها، ولا يأمن الإنسان أن تتقلب به الأحوال، فلا يجد عمامة يربط بها رأسه، لا يجدها، وأن ترجع الأحوال إلى ما كانت عليه من الفقر والجوع والمسغبة والشدة، إذا قابلنا نعم الله بما لا يليق.

يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم[21]

إننا نعرف كثيرًا من إفضال الله علينا حينما ننظر إلى هذا التفاوت الذي أوجده الله بين الخلائق؛ حيث اقتضت حكمته أن لم يجعل العباد صبة واحدة في أشكالهم وأرزاقهم، وعافية أبدانهم وأعمارهم، وما يجري عليهم، فلو كان الأمر كذلك يرى الإنسان نفسه في هذه الصور المتكررة، لكن حينما يرى المبتلى، ويرى الفقير، ويرى الكادح، ويرى الإنسان الذي قد أصابه ما أصابه من الهموم والآلام فأقضت مضجعه فيساهر ليله، ويصابح الصبح وهو لا ينام يعرف نعمة الله عليه.

إن من تربى في العافية قد لا يعلم ما يقاسيه أهل البلاء، ولا يعرف مقادير النعم، وأعظم ذلك: نعمة الهداية، فلو علم أهل الهدى قدر ذلك لهان عليهم كل بلاء، ولو توسدوا التراب ومضغوا الحصى، فإنهم أهل النعمة المطلقة، أما من خلى الله بينه وبين ذنوبه ومعاصيه، والله -تبارك وتعالى- يمده وهو مسترسل في المعصية، فإن هذا إنما وقع؛ لأنه هان على الله فأهانه وأذله. 

وأخيرًا، أذكر لكم بعض النماذج من ذكر أهل الفضل لإنعام الله عليهم، أولئك الذين كانوا يحيون بقلوب حية، ولم تحصل لهم الغفلة.

هذا أبو هريرة صاحب النبي ﷺ وراوية الحديث، صلى بالناس يومًا، فلما سلم رفع صوته، فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قوامًا، -وقد صار أبو هريرة أميرا على المدينة- وجعل أبا هريرة إماما، بعد أن كان أجيرًا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله[22].

يقول مشارد بن حزن: بينما أنا أسير تحت الليل إذا رجل يكبر فألحقتة بعيري، فقلت: من هذا؟ قال: أبو هريرة؟ قلت: ما هذا التكبير؟ قال: شكر، قلت: على مه؟ قال: كنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بعقبة رجلي، وطعام بطني، وكانوا إذا ركبوا سقت لهم، وإذا نزلوا خدمتهم فزوجنيها الله فهي امرأتي[23].

يقول شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الله الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذا لم يجعلها في ديني[24].

ومر عمر بن الخطاب بشعب بين مكة والمدينة، فقال: الحمد لله لقد رأيتني أرعى في هذا الشعب على الخطاب، ثم أصبحت خليفة على أمة محمد ﷺ يجوز أمري فيهم[25].

ما قال أنا نشأت في العز والغنى والسعة وتربيت فيه، وإنما ذكر حالة الذي لربما يستحي منها الإنسان أحيانا.

فنحن لله علينا في كل نعمة شكر مستوجب علينا في كل عضو من أعضائنا أمر ونهي، وفي كل وقت عبودية لله -تبارك وتعالى- لأن ذلك جميعا من النعم.

والنبي ﷺ أخبر أن في جسد الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلاً، وأنه عليه أن يشكر على كل واحد من هذه النعم، فنحتاج إلى أن نكون أصحاب قلوب حية متذكرة، وأن نجيل فكرنا في كل ما حولنا، وأن لا ننسى ما كنا فيه، وما صرنا إليه، وأن لا نغفل أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه قد يستدرج العبد بالنعم، ثم بعد ذلك يأخذه، فإذا أخذه لم يفلته.

أيها الأحبة، هذه ذكرى أذكر بها نفسي أولا، وأذكر بها إخواني، وأسال الله أن يجعل ما قلته حجة لنا لا حجة علينا، وأن يجعله سببًا لصلاح القلوب والأعمال وشكر النعم، وأن يجعل ذلك عونًا لنا على طاعته، وسببًا لطرد الغفلة عن قلوبنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم: (5673)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، (4/ 2170)، رقم: (2816).
  2. بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 67).
  3. المصدر السابق.
  4. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (7/ 205).
  5. بهجة المجالس وأنس المجالس (ص:252).
  6. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:42)، رقم: (118).
  7. التوبة لابن أبي الدنيا (ص:106).
  8. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:33)، رقم: (92).
  9. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:62)، رقم: (182).
  10. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:35)، رقم: (97).
  11. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:66)، رقم: (194)، تاريخ بغداد (11/ 345).
  12. فضيلة الشكر لله على نعمته (ص:47).
  13. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:62)، رقم: (183).
  14. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ومن سورة ألهاكم التكاثر، (5/ 448)، رقم: (3358).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، (8/ 88)، رقم: (6412).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، (8/ 102)، رقم: (6490)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2275)، رقم: (2963)، واللفظ له.
  17. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2275)، رقم: (2963).
  18. إحياء علوم الدين (4/ 124).
  19. المصدر السابق.
  20. المصدر السابق.
  21. الشكر لابن أبي الدنيا (ص:25).
  22. حلية الأولياء (1/ 379)، تاريخ دمشق لابن عساكر (67/ 365).
  23. حلية الأولياء (1/ 380) تاريخ دمشق لابن عساكر (67/ 365).
  24. سير أعلام النبلاء (4/ 105).
  25. فضيلة الشكر لله على نعمته (ص:46).

مواد ذات صلة