الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
للرجال عليهن درجة
تاريخ النشر: ١٣ / ربيع الآخر / ١٤٢٩
التحميل: 3528
مرات الإستماع: 10144

بسم الله الرحمن الرحيم

للرجال عليهن درجة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلا زال حديثنا عن التعامل بين الزوجين، وما ينبغي أن تكون عليه الحياة من العشرة الحسنة بينهما، فلا زال حديثنا عن بعض الوصايا للرجال وللنساء.

واليوم أذكر وصيةً للرجال قد أشار الله -– إليها في كتابه، وصرح بها بعض أصحاب النبي ﷺ، وذكرها بعض العلماء.

وذلك أن الله حينما ذكر جملةً من القضايا المتعلقة بالرجال والنساء من إيلاء وطلاق وحقوق وما شابه ذلك، وبين الله أن لهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف، أعقب ذلك بقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [(228) سورة البقرة].

بين الله ما للمرأة وما للرجل، حق هذا وحق هذا، فكما أن المرأة لها حق كذلك الرجل له حق، بين الله بعد ذلك أن للنساء مثل الذي عليهن بالمعروف، ثم بعد ذلك بين مرتبةً أعلى وهي قوله -تبارك وتعالى-: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [(228) سورة البقرة].

وهذه الدرجة تعددت فيها أقاويل المفسرين، واختلفوا في معناها، ولا مانع من أن تكون هذه المعاني التي ذكروها صحيحة، وأن نجمع هذه المعاني تحت الآية، إلا أن ثمةَ معنىً صحيحاً جيداً ذكره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره، وعلق عليه محمود شاكر -رحمه الله- تعليقاً حسناً ضمن كلامه أو تعليقاته على هذا التفسير العظيم.

فبعض السلف يقول في معنى الدرجة التي تكون لك أيها الرجل على المرأة: هو الفضل الذي فضلك الله عليها به من الميراث، فالرجل له ما للمرأتين من الميراث، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء]، وكذلك الجهاد، فالمرأة ليس عليها جهاد.

وبعضهم يقول: هي الإمرة والطاعة، فالزوج بمنزلة الأمير والمرأة بمنزلة المأمور، فهذه هي الدرجة في قول بعض السلف.

وبعضهم يقول: الدرجة هو ما يعطيها من الصداق –المهر- وما يكون من النفقة التي يبذلها لهذه المرأة، وأنها لو قذفته يقام عليها الحد، وأنه لو قذفها هو فإنه يلاعن ولا يقام عليه الحد إلا إذا امتنع من الملاعنة، فيقولون: هذه درجة للرجل على المرأة، وهذا الكلام كله صحيح كما ذكرت.

وبعضهم يقول: هذه الدرجة هي إقباله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب له عليها أو عن بعضه، وهذا القول قال به ابن عباس -ا- حيث قال: ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها؛ لأن الله -تعالى ذكره- يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [(228) سورة البقرة]([1]).

وبعضهم يقول: هذه الدرجة التي للرجل هو أنه له لحية، والمرأة ليس لها لحية، فهذا تفضيل، ولا شك أن تفضيل الرجال باللحى كما قالت عائشة -ا-، لا شك أنه مزية لا توجد لدى النساء، وإن صار بعض الرجال لا يقدِّرون هذه المزية.

على كل حال ابن جرير الطبري -رحمه الله- يرجح قول ابن عباس، فيقول: "أولى هذه الأقاويل بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن الدرجة التي ذكرها الله تعالى في هذا الموضع الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه"([2])، معنى هذا الكلام أنه يؤدي الحقوق كاملة، وإن حصل منها تقصير في حقوقه فلا يقوم بالمقاصة، فيقول: قصرت في بعض حقوقي فأقصر في بعض حقوقها، أو يقول: هذه المرأة تقصر معي إذن لابد أن أحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه لأستنظف جميع الحقوق التي لي عليها، فلا يفوِّت عليها شيئاً، فهو يريد منها كل شيء، يريد منها كلَّ كمال، يريد منها كل حق له عليها، فلا يغضِ الطرف ولا يغفر الزلل والتقصير، ولا يرحم، وهذا لا يليق بالرجل، فابن عباس يقول: ما أحب أن أستنظف حقي منها، لماذا؟ لأن الأمر كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما استقصى كريمٌ قط"([3]).

وابن جرير أكمل الكلام على هذه القضية ثم علق عليها محمود شاكر -رحمه الله- بكلامٍ حسن يحسن مراجعته، وبين محمود شاكر أن الأخلاق الكريمة الحسنة لها أثرٌ في الاستنباط، فيقول: إن أخلاق ابن جرير الطبري -رحمه الله- وما كان عليه من الترفع عن الدنايا أثّر فيه، ففهم هذا المعنى الذي ذكره، وهو أن هذه الدرجة لك أيها الرجل هي أنك تعفو عن بعض الحق ولا تستنزف وتستنظف وتستخرج كل حق لك عليها، لماذا؟ لأنه ما استوفى كريمٌ قط.

فإذا قصرت معك هذه الزوجة، وضيعت بعض الحقوق فتذكر هذه الحكمة الصحيحة: ما استوفى كريمٌ قط، ففوت لها بعض الأشياء ومررها، وكأن ذلك لم يمر بك، وكأنك لم تلاحظ هذا الخلل والتقصير، ومن الذي لا يقصر؟!، فالمرأة ضعيفة، وإذا حملت ازداد ضعفها، وإذا جاءها الولد الأول أخذ ذلك شقا من قلبها، فإذا جاء الولد الثاني أخذ الشق الآخر، فأنت على كل حال تذكر هذه القضية وهي: أنه ما استوفى كريمٌ قط.

في الجانب الآخر بالمقابل أيضاً نحن نقول: إن المرأة ينبغي أن تُربَّى على حفظ حقوق الزوج، وهذه من الوصايا، فالزوج إذا تزوج المرأة ابتداءً يتزوج امرأة متربية، وتربية المرأة في بيتها له أثر كبير جداً في قيامها بحقوق الزوج، وحقوق الأولاد، فالمرأة إذا كانت ترى أمها ترد على أبيها وتشاجره وتخاصمه وتحاسبه على التقصير ولا تحترمه ولا توقره فإن ذلك ينطبع تماماً في سلوك الأبناء، بل لربما -وهذا موجود في كثيرٍ من الحالات التي نسمع عنها- قامت المرأة بالسخرية من الزوج.

وقد رأيتُ مشهداً بأم عيني بعد صلاة المغرب في أحد المساجد لا أنساه: مرَّ رجلٌ وهو يحمل طفله الصغير بجانب المسجد ومعه امرأةٌ ضخمة، وهو رجل دقيق قصير هيئته كأنه ابن لهذه المرأة وهي زوجته -أنا أعرف الرجل- والناس يخرجون من صلاة المغرب، فخاصمته وشاجرته في شيء لا أدري ما هو، الحاصل أنها أمام الناس وهم يخرجون من المسجد ضربته على وجهه يمنةً ويسرة ويمنةً ويسرة ويمنةً ويسرة والناس يتفرجون، لا يدرون ماذا يقولون، وهو يحمل هذا الصبي، ثم بعد أن فرغت من هذا الضرب المبرح بدأ دوره هو، وبدأ يضربها كما ضربته تماماً، ثم انصرفوا.

فأقول: هذا أمام المسجد، فما الذي يحصل في البيت، ثم هؤلاء الأولاد حينما يرون الأم لا تحترم الأب ولا توقره، وتشاجره وترد عليه فماذا ينتج عن ذلك؟ لا يوقرونه.

وقد شكا كثيرٌ من النساء -يشكين أزواجهن- فتجد هذه المرأة صالحة وطيبة وخيرة، ثم هذا الزوج قد يكون فيه صلاح لكنه غضوب، فيضربها أمام الأولاد ويشتمها ويدفعها دفعاً، ونحو ذلك من الأشياء التي يصنعها معها، فالأولاد ينشئون على عدم توقير هذه الأم، فلا يحترمونها ولا يوقرونها، وبعض الزوجات يقلن: إن هؤلاء الأولاد يقابلون ذلك بالتبسم وبالضحك أحياناً، يضحكون من هذه الأم التي يضربها ويدفعها زوجها ويشتمها، ولربما جرَّ شعرها أو خمارها أو نحو ذلك.

فأقول: مثل هذه التعاملات بين الزوجين تؤثر في الأبناء، فلا تتربى البنت على توقير زوجها إذا تزوجت، وهكذا على الزوج إذا تزوج ينبغي أن يربي امرأته ويبرمجها خاصة في الفترة ما بين العقد والدخول؛ فهذه أفضل الفترات، فيربيها بالطرق المناسبة، وكل زوجة لها ما يناسبها.

والمرأة الصالحة هي التي تعرف كيف تتعامل مع زوجها وكيف تربي الأولاد على احترام هذا الزوج، ويتم ذلك بصور كثيرة جداً.

هذه المرأة إذا كانت تعود الأولاد الصغار دائماً إذا جاء وقت مجيء الأب أعادوا تصفيف المنزل، وترتيب الأغراض، وقالت لهم: إن أباكم سيحضر الآن فتهيئوا لمقابلته، وإذا كانت عليهم ثياب لا تليق ألبستهم الثياب المناسبة، لا أقول تلبسهم لباس الزيارات ونحو ذلك، لكن تلبسهم لباساً مناسباً.

وهي لا تستقبله بثياب المطبخ، وإنما تغير من هيئتها في وقت مجيء هذا الزوج إلى البيت، ثم تهدئ من أصوات هؤلاء الأولاد توقيراً لهذا الأب إذا وصل، فإذا وصل أخذت ما بيده، وقبلت رأسه، وسلمت عليه، ثم أحضرت له شراباً بارداً، ثم بعد ذلك يجد طعامه حاضراً، فالأولاد يرون هذا التوقير والتعظيم، والأصوات لا ترتفع في البيت، والمرأة في غاية الحفاوة بهذا الزوج والعناية بشئونه، تخلع عنه جواربه إذا وصل البيت ونحو ذلك..الخ، فهؤلاء الأولاد يوقرون هذا الأب ويعظمونه، وإذا جاء إلى البيت هدأت أصواتهم، وأصلحوا من حالتهم، وأحضروا له ما يحتاج إليه.

أما الأم الشاردة التي في صخبٍ مع هؤلاء الأولاد، وإذا جاء الزوج ودخل بيته كأنه أصغر الأبناء، هي في صخبٍ مع الأولاد وفي شجار وضجيج وأصوات مرتفعة، ثم هي مكشرة في وجهها مكفهرة من صخب هؤلاء الأولاد، وفي هيئة لربما رثة، وفي ثياب المطبخ، وكأن شيئاً لم يدخل، هذا الزوج يدخل في بيته ويخرج كأن شيئاً لم يكن، هؤلاء الأولاد كيف يتربون على تعظيم هذا الأب وعلى توقيره؟!

ماذا يريد الأزواج من الزوجات؟

يريد الزوج من المرأة أن توقره، وأن تكون عارفة بحقوقه مؤدية لها، تظهر احتراماً له وتوقيراً وتعظيماً، فتعمل بأمر الله الذي أمرها به، وأمر رسوله ﷺ فتظهر حفاوتها وعنايتها به، وتأخذ ما بيده وتعظمه وتهيئ له جوًّا هادئاً، إن كان يكتب تهيئ له جوًّا هادئاً للكتابة، إن كان يريد أن يستريح وينام تهيئ له جوا، وهكذا.

إذا رآها في مظهرها رأى شيئاً يبهجه ويسره، وإن سمع إلى كلامها سمع كلاماً حسناً وعبارات رقيقة، وعبارات لطيفة، تدنو منه، وتقرب له طعامه، وتحادثه بأطايب الكلام، هذه هي الزوجة التي لا يريد الرجل أن يفارق المنزل إذا كانت هذه الزوجة فيه.

أما الزوجة المقطبة العبوسة، الزوجة المكفهرة التي تصخب وترفع صوتها ونحو ذلك فإن الزوج يفر من هذا المنزل، ويبحث له عن شلة، ويبحث عن أصحاب، أو يبحث عن عمل يقضي به وقته خارج المنزل.

وإذا كانت الزوجة بصورة أخرى غير ما ذكرت من التوقير والاحترام والحشمة ورقة العبارة والتلطف والتغنج مع هذا الزوج، بخلاف ما إذا خرجت تزينت وتعطرت حتى إنه يراها صورة، ويتعجب من هذه الزوجة التي عنده في البيت لا يرى منها هذا الجمال والحسن والتسريح لشعرها وحسن ثيابها، وإذا خرجت إلى الناس لبست أحسن ما عندها، فهذا خطأ وخلل في الفهم والسلوك والتربية ينبغي أن تتنبه له الزوجة.

فإذا كان الرجل يجد امرأةً بهذه المثابة من العناية به والحفاوة بشئونه فإنه لا يطيق فراقها، ولا يطيق فراق البيت ولا يفكر بغيرها، أما إذا كانت معرضةً عنه فالفكرة التي تُلح على الأزواج ليل نهار وليس بين عين الزوج إلا هي: هي كيف يفكر في البديل؟

إن كان لا يتقي الله ذهب إلى البديل المحرم، وإذا كان يخاف من ربه فإنه يبحث عن البدائل المشروعة المباحة، ومن هي المرأة التي تريد من زوجها أن يتزوج عليها في أحسن الأحوال إن لم يطلقها؟.

فأقول: المرأة إن لم تكن تحترم زوجها وتقوم بحقوقه ألا فلتعلم أنها تحمل الرجل على إلحاحٍ داخلي قوي وهو أن يبحث عن البديل، وليس بين عيني هذا الزوج إلا البحث عن البديل.

والمرأة التي تشتكي من كثرة خروج الزوج ومن سهر الزوج خارج المنزل ينبغي أن تفتش عن سلوكها هي معه، فعليها أن تغير هذه الطريقة، وأن تتقيَ الله في هذا الزوج، فإنما تزوج الرجل من أجل أن يَسعد، كما أن المرأة تزوجت من أجل أن تسعد، أما المرأة التي يصل بها الأمر إلى سب الزوج أو شتمه أو شتم أهله ونحو ذلك فهذه امرأة لا يطاق العيش معها.

ولذلك فإن الزوج يمتلئ قلبه محبةً لهذه المرأة إذا رآها توقر أمه، وتوقر أباه، وتحترم أهله ولا تذكرهم إلا بالخير، أما المرأة التي تقول: لا أطيق الذهاب إليهم، فتعتذر، وهي إذا ذهبت إلى أهلها فقبل الوقت المحدد متهيئة، مستعدة، مستلهفة للذهاب، وإذا كانت الأخرى وهي الذهاب إلى أهل الزوج في يومٍ محدد في الأسبوع أو أكثر تتباطأ وتتأخر وتتشاغل بأشياء في لباسها أو في غير ذلك، فهذه من المظاهر التي تدل على أنها تستثقل زيارة أهل الزوج، والزوج قد يسكت لكنه يفهم جيداً أن هذه المرأة ليست كما ينبغي مع أهله، وهذا أمرٌ لا يطيقه الأزواج عادةً.

فينبغي على النساء أن ينتبهن لهذا المعنى، وعلى المرأة أن تعرف جيداً أن احترام هذا الزوج وتعظيم الزوج والمدخل إلى قلب هذا الزوج كما أنه يكون بتوقيره وتعظيمه واحترامه يكون أيضاً بتوقير أهله، وتعظيمهم واحترامهم.

فهكذا ينبغي أن تكون الحياة الكريمة بين الزوجين، وإن لم يكن الزواج بهذه المثابة، والحياة الزوجية على هذا المستوى فسلامٌ على هذه الحياة، ولا خير فيها واللهِ إلا ما شاء الله -.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


 

[1] - تفسير الطبري (ج 2 / ص 462).

[2] - المصدر السابق.

[3] - تفسير القرطبي (ج 18 / ص 165).

مواد ذات صلة