بسم الله الرحمن الرحيم
محاصرة الخلاف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا زلنا نتحدث عن المشكلات الزوجية، وفي هذا الدرس -إن شاء الله- سنختم الكلام على هذا الموضوع، وآخر ما تحدثنا عنه في المرة الماضية فيما يتعلق بالتوجيهات، والأمور التي ينبغي أن يراعيها الأزواج ذكرنا قضية الحوار، وأهمية الحوار، والأمور التي يجب مراعاتها في ذلك، وهنا أذكر بعض القضايا وبعض التوجيهات الأخرى.
فأقول: من ذلك أنه إذا وقع الخلاف فينبغي أن يحاصر في أضيق دائرة، وذلك بين الزوجين فحسب، بحيث إن هذا الخلاف لا يتوسع فتذهب المرأة وتخبر الآخرين، تخبر أهلها، وتخبر إخوتها، وتخبر قريباتها، صديقاتها، هذا لا يصح، وكذلك الرجل يذهب فيخبر أباه أو يخبر أمه أو يخبر إخوانه أو نحو ذلك، فهؤلاء يتعصبون له في غالب الأحيان، والمرأة يتعصب لها أهلها ثم يلقنونها، وهذا الزوج لربما لقنه إخوانه، أو لقنه أبوه، ثم تبقى القضية خارجة عن يد الزوجين، فهناك أطراف أخرى صار لها تعلق في الموضوع، ونفوس الناس صارت مشحونة كما هو الغالب، فهؤلاء وقع في نفوسهم على هذه المرأة شيء، وأهل الزوجة وقع في نفوسهم على هذا الزوج شيء، والنفوس مثل الزجاج كما هو معلوم، فإنها إن حصل فيها شيء من الانشعاب أو نحو ذلك فإن صدعها لا يمكن أن يُرأب، ولا يمكن أن تسد تلك الثُّلمة بحيث يكون ذلك الأمر عائداً إلى شأنه وحاله الأول.
فأقول: ينبغي المحافظة على هذا الود بين هذه الأسر، ومحاصرة هذا الخلاف بحيث لا يتسع فيخرج عن نطاق الزوجين فلا يستطيع الزوج أن يتحكم فيه، فالقضية الآن لم تكن واقفة عند زوجته فيستطيع أن ينهي الموضوع معها بل صارت القضية لها تعلق بأطراف آخرين، فالأب يتحدى، والأخ يتوعد ويتهدد، والأم تدعو وتحرض هذه البنت، وهكذا إخوانه يتكلمون فيه وفي رجولته، وأبوه لربما حرضه على الطلاق، وأن هذه المرأة لا يمكن أن تدخل لنا بيتاً، والأخوات قامت قيامتهن، فصاروا حزباً يؤلبون هذا الولد.
فأقول: هذا خطأ، فينبغي أن نحاصر الخلاف فيبقى في دائرة الزوجين فقط، لا ينتقل إلى غيرهم إلا في حالات ضيقة حينما تتعذر الحلول في أمور لا يجوز السكوت عنها بحال من الأحوال، كأن يكون الرجل مدمن مخدرات والمرأة تقول: منذ عشر سنوات تزوجته وأنا أعرف من الشهر الأول، ويسومها الخسف والذل، ومع ذلك فهي لا تخبر أحداً من أهلها، هذه قضية ما يُسكت عليها، ومثل ذلك أن يكون هذا الرجل مدمناً للفواحش وما شابه ذلك، فالقضية في هذه الحالة ليست متوقفة عليه هو، القضية أن هذا الرجل قد تنتقل إليه بعض الأمراض فتصيب هذه المرأة، فما ذنبها هي أن تبقى كسيفة البال، منكسرة الخاطر، وتبقى كما يقال: تحت رحمة هذا الزوج الظالم، ولا تدري ما الذي ينوبها وما الذي يصيبها من جراء الاستمرار معه ومن جراء معاشرته؟
فلا ينبغي أن يتسع الخلاف بين الزوجين ويخرج عن دائرتهما إلا في حالات خاصة كالصور التي ذكرنا، ولكل حالةٍ لَبوس.
القضية الأخرى: ينبغي على الإنسان -لاسيما الزوج؛ لأنه هو الذي يملك القرار- أن لا يتخذ قراراً حتى يدرسه، لا تتخذ قراراً إلا بعد دراسته، ولا تتكلم وأنت منفعل، ولا تتخذ القرارات في حال الانفعال؛ لأنك غالباً ستندم على هذه القرارات؛ لأنها غير مدروسة، ولأنك لم تتريث فيها، وإنما تكلمت في حال الانفعال، وهذا أكثر ما نسمع.
لماذا أنت قلت لهذه المرأة: أنت طالق؟ لماذا طلقتها؟ لماذا فعلت كذا؟ يقول: كنت منفعلاً.. وهذا للأسف غالب الناس يفعلونه حيث يصدرون قرارات ثم يتندمون عليها.
كما ينبغي عليك -أيضاً- أن تراعي حق هذه المرأة والتأديب الشرعي فيها، فينبغي في التأديب أن تتدرج، فالله أشار إلى الوعظ أولاً: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [(34) سورة النساء].
والنشوز: هو أن تترفع المرأة على طاعة الزوج، {فَعِظُوهُنَّ}: فهذا هو الأمر الأول، تُذكَّر بالله، وتُذكَّر بحق الزوج، وتُذكَّر بما يخوفها من هذا التصرف، وتُذكَّر بالعواقب، تُذكَّر بخطئها وتنبه عليه، فإن لم ينفع ذلك فإنها تُهجَر في المضجع، كما أمر الله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [(34) سورة النساء]، ومعنى ذلك أن يدير لها ظهره في المضجع، لا أنه يفارق البيت، ويترك هذا البيت، وقد لا يأتي إلا سويعة من نهار؛ لأجل أن لا يقول الناس: فلان لا يأتي إلى بيته، فهو إثبات وجود فقط، ولا يكلمها فهذا لا يصح، وإنما يدير لها ظهره في الفراش، وهذا يؤثر في المرأة جداً، لاسيما إذا تطاولت الأيام.
وإن لم ينفع معها ذلك فالضرب غير المبرح، {وَاضْرِبُوهُنَّ} [(34) سورة النساء]، ولا يكون هذا الضرب على الوجه؛ لأن ذلك منهي عنه، فقد نهى النبي ﷺ عن الضرب على الوجه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- خلق آدم على صورته، قال رسول الله –ﷺ-: ((إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته))([1])، وأكرم شيء في الإنسان هو وجهه، فهذا يحصل فيه أذية بدنية حسية، ويحصل فيه أذية معنوية، فالوجه لا يضرب ولا يقبح.
وكذلك لا تضرب على الأماكن التي تعنى الإذلال كالضرب على القفا؛ فإن هذه ضربة تكرهها العرب، وهذا ما يفعله بعض الأساتذة أيضاً، وهذا خطأ، كما قال الشاعر:
وكنتُ أُُرى زيداً كما قيل سيداً |
|
إذا قيلَ عبدُ القفا واللهازمِ |
أي أنه يضرب على قفاه، فهذه الضربة يضرب بها العبد، ولا يضرب بها الكريم، فهي ضربة تكرهها العرب، وكذلك لا تضرب على الأماكن الحساسة كالأماكن التي لربما يصيبها من جراء ضربها فيها مضاعفات وأضرار.
وإذا ضربناها على الأماكن التي ينبغي أن تضرب عليها فينبغي أن لا يكون هذا الضرب من الضرب المبرِّح، لا يجرح، لا يكسر عظماً، وإنما هو ضرب تأديب، وضرب التأديب هو الذي يكون مصحوباً بالشفقة والرحمة، والمقصود به الإصلاح وليس المقصود به الإفساد ولا التشفي.
والقاعدة في هذا الباب -باب التأديب- إذا كنت تؤدب بالضرب أو بالكلام، ورأيت أنك تتشفي من الداخل -كما ذكرت لكم في تربية الصغار- فإن ذلك ليس من التأديب في شيء، وإنما أنت تحقق لنفسك غرضاً، وهو أنك تجد ميلاً قوياً إلى الانتقام، فإذا جلست تضرب أو تقبح أو نحو ذلك فإنك تتشفى، فليس هذا هو التأديب، فينبغي للإنسان إذا ضرب أن يقصد بذلك التأديب، وهذا هو الذي يصلح.
وكذلك إذا زجر بالقول سواء مع الزوجة أو مع الطالب أو مع الولد أو غير ذلك فينبغي أن يراعي هذا المعنى فيتدرج، أما ما يفعله بعض الأزواج يهجر البيت شهرين وثلاثة وأربعة وسنة، ولا يأتي إلا مروراً عارضاً فهذا أمر لا يليق ولا يصح.
بعض الزوجات يقال لها: امكثي في البيت، أنت مطلقة فعليك أن تجلسي فترة العدة في البيت، لا يجوز أن تخرجي، والله يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [(1) سورة الطلاق]، تقول هذه المرأة: هذا الزوج لا يأتي إلى هذا البيت، فما معنى بقائي في هذا البيت؟
هي تبقى في فترة العدة في البيت لعل هذا الزوج أن يراجع، لعله يشتاق إليها، وهي تتزين له، ولكن هذا الزوج إذا كان هاجراً للبيت فما الذي يحصل من الإصلاح؟ والله المستعان.
ومن التوجيهات التي ينبغي أن تعلم: أنه ليس من شرط بقاء عقد الزوجية أنك تحب هذه المرأة، كما قال الله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [(19) سورة النساء]، فكم من زوج لا يحب امرأته وليس بينهما ذاك الود، ولكن الله هيأ لهم من الأسباب التي تكون سبباً لسعادة هؤلاء الآباء، فرزقهم الله من الذرية الطيبة الصالحة التي لربما انتفعت بها الأمة، ولم تكن حياة هذا الأب مع هذه المرأة مبنية على الود.
ثم تصور حال هذه المرأة حينما تصل إلى سن الستين أو السبعين، وقد مات أبوها وأمها وأخوها ومات كل من يمكن أن يكون وليا لها كيف تعيش هذه المرأة؟
وإنما صار لها خمسة أو ستة أو سبعة من الأبناء الرجال الذين تعيش في أكنافهم، ويدخلون عليها صباح مساء، وترى من ألوان السعادة من برهم ومعروفهم وإحسانهم وإكرامهم وإجلالهم لها ما يُنسَى معه ذلك الأمر، وهو عدم محبة هذا الزوج وعدم المودة بينها وبينه.
فانظر إلى هذه المصلحة العظيمة التي حصلت لهذه المرأة، كيف لو كانت طلقت من هذا الزوج وبقيت لوحدها ليس عندها ولي يرعاها، ستبقى أرملة تنتظر الناس أن يطرقوا بابها، وأن يحركوا ساكناً في بيتها، وأن يزوروها، وأن يعطوها شيئاً من زكاتهم وما شابه ذلك من ألوان إحسانهم، ((واليد العليا خير من اليد السفلى))([2]).
إذن: ليس من شرط بقاء عقد الزوجية أن يوجد الحب، فقد تتزوج امرأةً ثم لا تحبها لشكلها أو لتصرفاتها أو لغير ذلك، فإذا كنت لا تعيب عليها شيئاً في دينها فينبغي أن تصبر عليها، والدفع أسهل من الرفع، يعني إذا لم يكن ذلك في قلبك نحو هذه المرأة قبل العقد فهذا أمر سهل، ابحث عن غيرها، لكن بعد أن تزوجتها ودخلت بها، ولربما رزقت منها بعض الأولاد، تقول: أنا لا أحبها، أنا أريد أن أطلقها، هذا أمر لا يليق، فاستمر معها، والله سيعوضك خيراً، ويمكن أن تتزوج ثانية وثالثة ورابعة، من الذي أخذ على يدك؟
فالحاصل أن هذه قضية مهمة، وتكون في كثير من الأحيان من أعظم أسباب الطلاق، قول: (لا أحبها)، ثم بعد ذلك يبحث عن علل فيدعي أنه قد أصيب بعين أو سحر أو جن أو غير ذلك، ليتخلص من هذه المرأة، ويحفظ ماء وجهه أمام أهلها، ويقول: إن الأمر قد خرج من يده، وصار إلى حال لا طاقة له بها.
وأخيراً أقول: ينبغي على الرجل وينبغي على المرأة، ينبغي على كل واحد منهما أن يتهم نفسه دائماً، كثير من الرجال إذا أراد أن يتكلم عن هذه المرأة يذكر لك مسودة طويلة في عيوبها، وفي جوانب النقص فيها، بقيت قضية أخرى نسيتها يا أخي، ما هي جوانب النقص فيك أنت؟
فإذا أراد أن يتواضع قال: كل إنسان لا يخلو من الخطأ، لكن سبب المشكلة هي هذه المرأة، وكثير منهم يكابر ويصر على أن هذه المرأة هي الناقصة، هي المخطئة، هي المقصرة، وأنه لم يبدر منه شيء من التقصير إطلاقاً.
وكذلك المرأة لربما نسبت ألوان القصور إلى هذا الزوج، واشتكته وتكلمت في عرضه، وتكلمت في حقه، فبخّلته وجبّنته ووصفته بألوان الأوصاف القبيحة، ثم تنسى نفسها، فإذا سئلت عن نفسها وعن تقصيرها قالت: لا أذكر شيئاً أنني قد قصرت فيه في حقه، بل أقوم بحقوقه كاملة.
وقد يكون هذا الأمر صحيحاً، ولكن الغالب أن الإنسان لا يخلو من ضعف، ولذلك إذا سمعت من الطرف الآخر أمثال الجبال عن أحد الطرفين، ثم تسمع من الطرف الآخر تقول: سبحان الله، سبحان الله، ما أحلم هذا الإنسان كيف صبر على هذه المرأة، مع أنك سمعت من هذه المرأة أمثال الجبال تجاه هذا الرجل؟!، وهذه قضية مهمة أيضاً لمن يتصدى لحل المشكلات الزوجية، أو لحل المشكلات بين الناس.
قد تسمع من رجل أو تسمع من امرأة أشياء تدمى القلوب، وقد تتعاطف معها بكل قلبك، وتريد نصرتها بكل ما تستطيع، أو نصرة هذا الزوج بكل مستطاع، ولربما بادرت وأشرت عليه بالطلاق الذي لا رجعة فيه، وأن هذه المرأة لا يمكن أن يصبر عليها وأن تُحتَمل، ثم إذا سمعت من الطرف الآخر ترى أن هذه الأشياء ليست بشيء في مقابل ما يتلقاه ذلك الطرف، فإذا ناقشت هذا الأول بما قال وبما سمعت من الطرف الآخر بدأ يذكر بعض الحقائق.
فأقول: ينبغي للإنسان أن يتهم نفسه دائماً، وأن ينظر في عيوبه، وينظر في تقصيره، فليس أحد منا قد جبل على الكمال، ولكن نحن جميعاً عرضة إلى النقص، فنحن نقصر وقد لا نتنبه إلى التقصير، وقد تكون فينا عيوب قبيحة جداً لا نتفطن لها، وتتفطن لها هذه الزوجة فتشمئز، وقد يكون من هذه الزوجة عيوب أيضاً، فينبغي لها أن تتبصر في نفسها، وأن تفكر لماذا هذا الزوج قد عزف عنها؟ لماذا يبحث عن غيرها؟ لماذا تزوج امرأة أخرى؟ لماذا هو يخطب أو يحاول خطبة امرأة جديدة؟ لماذا؟ ولماذا؟
هذه الأسئلة ينبغي أن تعود المرأة إلى نفسها فتفكر لماذا هجر هذا الزوج هذا البيت؟، أو هذه المرأة لماذا عزف عنها؟ لماذا يعاملها المعاملة الغليظة؟
الرجل إذا كان يحنو على امرأته ويحبها لا يعاملها إلا باللطف والإحسان والرأفة، فحينما يعاملها معاملة فيها غلظة وجفاء فإن ذلك يدل على أنه يمقتها ويبغضها، فينبغي أن تفتش عن السبب الحقيقي وراء هذه الأمور، فإذا نظر الإنسان في حاله وتبصر في عيوبه فقد يكون هذا من أسباب جمع القلوب وتلافي التقصير والنقص.
هذا آخر الكلام على المشكلات الزوجية، أسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجمع قلوبهم على الحق، وأن يدفع عنا وعنكم وعن المسلمين أسباب الشر والفتنة، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[1] - أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب – باب: النهي عن ضرب الوجه (2612) (ج 4 / ص 2016).
[2] - أخرجه البخاري في كتاب: النفقات – باب: وجوب النفقة على الأهل والعيال (5040) (ج 5 / ص 2048)، ومسلم في كتاب: الزكاة – باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة (1036) (ج 2 / ص 718).