الجمعة 30 / ربيع الأوّل / 1446 - 04 / أكتوبر 2024
(01) كيف نعالج المشكلة ؟
تاريخ النشر: ٢٢ / شوّال / ١٤٣٦
التحميل: 30668
مرات الإستماع: 4873

 (1) كيف نعالج المشكلة؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسيكون الحديث في هذه الليلة على أمر هو في غاية الأهمية، نصيحة لله، ولرسوله ﷺ ولأئمة المسلمين وعامتهم كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة[1]، فلما سئل عن ذلك ذكر هذه الأمور.

فهذا الذي حدث ويحدث سواء كان ذلك في آخر الأسبوع الماضي أو قبل ذلك، وكما يقع في بعض بلاد المسلمين من العدوان على الناس في أعراضهم، وأموالهم باستحلال قتلهم، وإزهاق أرواحهم ودمائهم تقرباً إلى الله -تبارك وتعالى- فإن مثل هذا الأمر هو بالغ الخطورة على الدين بالنظر الكلي إلى الدين نفسه، وما يحصل بسبب ذلك من الصد عن سبيل الله بكل ما تحمله هذه الجملة من المعاني، الصد عن سبيل الله بالنظر إلى غير المسلمين، فإنهم حينما يرون ذلك فلن يجدوا تشويهاً للإسلام، وصدًّا عنه أبلغ من مثل هذه الأعمال، سواء كان ذلك يقع على المسلمين، أو كان يقع على أهل الذمة والمعاهدين، أو غير هؤلاء ممن لا يحل قتله، فإن هذا صد عن سبيل الله، صد للناس عن الإسلام، ومهما قال الأعداء عن الإسلام، وصوروه بالصور المشوهة ليصدوا الناس عنه فإن ما يصدر عن بعض المنتسبين إليه من هذه الأعمال القبيحة لا شك أنه أعظم ضرراً، وأبلغ أثراً من أفعال أولئك الكفار، وتحريفهم وتشويهم لحقائق الدين.

وهو صد عن سبيل الله الذي هو الجهاد الصحيح، فإن الناس حينما يرون هذه الأفعال تصدر باسم الجهاد، والتقرب إلى الله -تبارك وتعالى- فلا شك أن هذا يكون صرفاً عن الجهاد وتشويهاً له في نظر الكفار، وكذلك أيضاً يكون فتنة لكثير من المسلمين، فقد لا يميزون بين الجهاد الصحيح وبين هذه الانحرافات والضلالات.

وكذلك أيضاً هو صد عن سبيل الله بصرف الناس عن التمسك بالدين، وصرف الناس عن البذل والإنفاق تقرباً إلى الله -تبارك وتعالى.

وهو صد عن سبيل الله بإعطاء صورة مشوهة عمن ينتسب إلى التدين والصلاح، فإن كثيرًا من الناس من لا يُميز بين المُحق والمُبطل؛ لأن أهل الباطل إذا لبسوا عباءة وظهروا بصورة هي صورة أهل الصلاح فإن الناس يلتبس عليهم المُصلح من المُفسد، وإنما يعرف ذلك من فتح الله بصيرته.

وهو صد عن سبيل الله أيضاً بإشغال الناس عن ذكره وطاعته والاشتغال بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فتشتغل القلوب والألسن والعقول بمثل هذه الأعمال والجرائم العِظام.

وهو صد عن سبيل الله بنسبة ذلك إلى الشرع المُطهر، وأن ذلك ما دل عليه القرآن وهدي النبي ﷺ، وهذا لا شك أنه من الكذب على الله والافتراء على دينه، كما أن ذلك أيضاً يكون سبباً لخسارة الإنسان دنياه التي هي مُزدرع للأعمال الصالحة، وقد يكون سبباً لخسارته في آخرته.

الأمر ليس بالسهل فإذا كان الذنب الذي توعد الله -تبارك وتعالى- فاعله بالخلود في النار -وهو الذنب الوحيد فيما دون الشرك بالله  هو قتل المؤمن وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93]، انظروا إلى ما رُتب عليه من الأحكام العظيمة فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، فذكر الخلود أولاً، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]، الخلود والغضب واللعن، ثم بعد ذلك مأواه ومثواه هو النار، جهنم وبأس القرار، فهذا الوعيد بالخلود لم يرد في ذنب من الذنوب -فيما عدا الإشراك- إلا في القتل، قتل النفوس المعصومة، قتل المؤمن.

فهذا قد يذهب بآخرة الإنسان، إذا كان هذا في القتل الذي لم يكن صاحبه مستحلا للقتل، فكيف إذا كان هذا القتل مع الاستحلال لقتله؟!، فكيف إذا كان يتقرب إلى الله بقتل هذا المؤمن، سواء كان جنديًّا أو غير جندي؟! فإنه لا فرق في نفوس أهل الإيمان، وهذا الوعيد عام، وإذا كان ذلك عن استحلال فهو أعظم، وإذا كان تقرباً إلى الله فهذا أشد، ولذلك فإن أهل العلم كثُر قولهم في توجيه هذه الآية كيف يكون الخلود لفاعل ذنب دون الإشراك بالله ؟، فبعضهم يقول: هذا جزاؤه إن جازاه، وبعضهم يقول غير ذلك، ومنهم من يقول: إن ذلك إن كان مستحلا له، والواقع أنه ليس في الآية ما يدل على الاستحلال فهي عامة كما ترون، ولا شك أن الاستحلال يكون أعظم.

وهذه الأعمال قلّبت النظر فيها كثيراً فلم أرَ وجهاً واحداً فيه مصلحة في الدين أو في الدنيا، لا يوجد فيها مصلحة واحدة، اللهم إلا ما جاء في قصة الإفك من قول الله -تبارك وتعالى- لما قُذف عرض النبي ﷺ وهو أفضل الخلق، وعرض أحب الناس إليه من الرجال وهو أبو بكر الصديق وعرض أحب النساء إليه وهي زوجه عائشة الطاهرة الصدِّيقة -ا، قال الله : لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ [النور:11]، فوجوه الخيرية في هذه الواقعة من الإفك في عرض النبي ﷺ رِفعةُ درجات أهل الإيمان، ممن وقع عليهم هذا الظلم والبلاء، وانكشاف المنافقين كعبد الله بن أُبي، وكذلك ضعفاء الإيمان، وتكفير سيئات من وقع عليهم ذلك، ويكون ذلك سبيلاً للتمييز والتمحيص، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، وهذه الابتلاءات متنوعة وكثيرة يحصل بها التمييز بين أهل الحق والباطل، والإيمان والضلال.

وهذه الأعمال تكشف عن حال أصحابها، فلا يبقى هناك لبس ولا غبش ولا غموض، من كان عنده شيء من التردد أن المسألة مجرد اجتهادات أو أخطاء، كل حدث يكشف ويُبين عن حال لا تُبقي شكًّا أو لبساً أو تردداً في قلب من له أدنى بصيرة، لربما يسمع الناس الأخبار من بعيد في بلاد الشام أو غيرها، فيقول قائلون: هذا كلام الخصوم، ونحو ذلك مما قد يتلمسون فيه المعاذير، ولكن حينما يُبين الإنسان عن نفسه بأفعاله فإن ذلك يكشف الحقيقة جلية كما هي من غير غبش ولا لبس ولا غموض، فهذه الأعمال إن كان فيها مصلحة للأمة فهي كشف باطل هؤلاء، هذا هو الوجه الوحيد الذي رأيته في مثل هذه الأفعال، أن ينكشف الباطل، وأهل الباطل.

مهما قيل قد يبقى في بعض النفوس شيء من التردد، ولكن في مثل هذه الأعمال يكون الأمر واضحاً كالشمس في رابعة الظهيرة.

والحديث في هذه القضية في نظري يكون على ناحيتين:

الخطباء بُحت أصواتهم وهم يُوردون النصوص من الكتاب والسنة في وعيد من سفك الدماء، وقتل النفوس المحرمة المعصومة، والواقع أن هؤلاء لا يُجدي معهم مثل هذا الخطاب، ولا إيراد مثل هذه النصوص، والسبب هو أنهم بنوا هذه الأفعال على مقدمة فاسدة، هذه المقدمة الفاسدة أن هؤلاء كفار، ثم بنوا على ذلك حكماً وهو أن دماءهم حلال، ثم بعد ذلك قاموا بالتنفيذ، فهذه النصوص في وعيد من قتل النفوس ونحو ذلك لا يرون أنها تتوجه إليهم؛ لأنهم يعتقدون أنهم أحرص الناس على حقن دماء المسلمين، وإنما يقتلون الكفار، فهذا الوعيد لا يلحقهم، هكذا يتصورون، فمهما أوردت من النصوص فهو يهز رأسه، ويقول: نعم، لا يجوز قتل المؤمن، وهذا الوعيد متوجه لمن قتل أهل الإيمان، ولكن هم يعتقدون أنهم يقتلون الكفار.

إذن نحتاج مع هؤلاء إلى معالجة ومناقشة وإبطال لهذه المقدمة الفاسدة التي بنوا عليها هذه الأحكام، هذا هو الصحيح، فهؤلاء قد فسدت تصوراتهم فجاءت أحكامهم فاسدة، فجاءت أفعالهم في الواقع منحرفة بناء على فساد التصورات، والناس كما قيل: أسرى لأفكارهم ومعتقداتهم، ولذلك ترونهم يموتون هذه الميتة ميتة السوء بهذه الطريقة التي اجتمع فيها كراهة المنظر وسوء الميتة وسوء الخاتمة مع سوء وفساد القصد، حيث استحلوا قتل أهل الإيمان، وهو يرى أنه يتقرب إلى الله بذلك، وأن هذا هو الطريق إلى مرضاته وجنته، فمثل هذا يحتاج إلى معالجة في هذه التصورات ومن ثَمّ نستطيع بعد ذلك أن نقوّم السلوك المبني على هذا التصور، فإذا صحت تصوراتنا صحت أعمالنا، وإذا فسدت التصورات والمعتقدات جاءت الأعمال فاسدة معوجة بقدر ما يكون من الاعوجاج في الأفكار والعقائد والتصورات، وهذا أصل كبير لابد من الوقوف معه.

أما المعُافى من الناس فهؤلاء يحتاجون إلى التحصين، فهؤلاء يُورد عليهم ما يذكرهم، والذكرى تنفع المؤمنين بحرمة الدماء والأعراض وخطورة الخوض في مسائل التكفير وما إلى ذلك، هذا من جهة، من أجل أن لا يقعوا في شيء من هذه البلايا، كما يحتاجون إلى شيء من التحصين في أمور أخرى أذكرها -إن شاء الله تعالى- في آخر الحديث عن هذه القضية.

فينبغي أن يكون الحديث على شقين: حديث وخطاب يوجه إلى من وقع في مثل هذه الانحرافات، وهذا يحتاج إلى علم وبصر وحُجج؛ لتُفكك هذه العقائد التي رسخت في هذه الأذهان من أجل أن يُكف الشر ويرعوي العبد ويُفيق من سكرته، ويهتدي بعد انحرافه وضلالته، يحتاج إلى هذا، والخطاب الآخر يوجه إلى الأصحاء كما ذكرت، وما ينضاف إلى ذلك من أمور أذكرها في آخر هذا الحديث.

وسأورد أسئلة أُوجهها إلى هؤلاء الشباب الذين يُضلَّلون ويُغرر بهم باسم الجهاد في سبيل الله، وطلب ما عنده والتقرب إليه بمسائل كِبار يصير معها الواحد منهم حرباً على أقرب الناس إليه، حرباً على أهله وعشيرته وقومه ومجتمعه، آفة تُفسد وتدمر، تُهلك ولا تُصلح، ونحتاج مع هذا إلى شيء من الخطاب الذين لا ينقصه الصدق بعيداً عن العبارات الموحشة التي قد تصرف السامع عن قبول النصيحة.

فالمسألة ليست مقابلة للسباب بالسباب، والألقاب القبيحة بمثلها، فإن ذلك لا يُرد به الباطل، ولا يُستعاد به مسلوب، وإنما نحن بحاجة إلى أن ننصح انطلاقاً من هذا المبدأ أن الدين النصيحة، وأن يكون المقصود بذلك ما عند الله -تبارك وتعالى، فهذه مصالح الأمة وقضاياها الكبار، ولا يصلح لأحد أن يتكلم فيها يُريد بذلك شيئاً لنفسه، أو أن يفعل ذلك من أجل عداوة بينه وبين أحد من الناس يتشفى بما يقول في حقه، أو غير ذلك من الأغراض الفاسدة.

وليست القضية في مثل هذه الأمور أن يتحدث الإنسان من أجل أن يُسجل حضوراً، فالأمر أكبر من هذا، هذا العمل نعم منكر، ولكن نحتاج إلى مُعالجة صادقة لعل الله أن ينفع بها من ابتُلي بشيء من هذه الآفات، وأن يكون ذلك حاجزاً لمن عُوفي.

والرسالة التي أُريد أن أصل إليها في النهاية: هي أن هذه الخطوات والأعمال هي طريق في غاية الخطورة، والكلام في مثل هذه المسائل الكبار من التكفير هي دحض مزلة ليست بالسهولة التي يتصورها هؤلاء الشباب.

ولذلك سأورد أسئلة موجهة يسمعها من أراد الله -تبارك وتعالى؛ لعلها تُحرك في النفوس أشياء يتوصل معها السامع إلى ما قُصد من هذا الحديث وهو أن يُراجع نفسه ويتوقف عن الخوض فيما لا يُحسنه، يتوقف عن هذا ويشتغل بما ينتفع به من حفظ كتاب الله ، ودراسة العلوم الشرعية على أهل العلم الثقات، وقضاء الأوقات في الأمور النافعة من الدعوة إلى الله ، والأعمال الخيرة والجمعيات الخيرية الموثوقة وما أشبه ذلك، فهذه النفس إن لم تُشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية أيًّا كانت هذه المعصية، فإذا كان لا يصلح لشيء من ذلك فمن الناس من يكون نومه خيراً من يقظته، فإن أبى فليشتغل بشيء من اللهو المُباح ويستغرق ويستنفذ فيه جهده وطاقته، ولا شك أن اشتغال المرء باللهو والغفلة مع أنه مذموم خير من اشتغاله بالولوغ بالدماء وتكفير المسلمين، بل إن حال الزاني والسارق وشارب الخمر أفضل من حال هذا، مع أنها من الكبائر، ولكن حال هذا أسوأ وأعظم شرًّا على الدين والدنيا كما ذكرت في أول هذا الكلام.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يجنبنا وإياكم مُضلات الفتن، وأن يهدي ضال المسلمين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (95).

مواد ذات صلة