الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
[1] من أول السورة إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الآية:13
تاريخ النشر: ١٩ / رجب / ١٤٣٤
التحميل: 7428
مرات الإستماع: 8833

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين.

يقول الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:

حم ۝ تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ۝ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۝ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۝ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الجاثية:1-5].

يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات الأرض، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات، وما في البحر من الأصناف المتنوعة، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه، وسماه رزقاً؛ لأن به يحصل الرزق، فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [سورة النحل:65] أي: بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء.

وقوله : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ أي: جنوباً وشمالاً، ودبوراً وصبًا، بحرية وبرية، ليلية ونهارية، ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للِّقاح، ومنها ما هو غذاء للأرواح، ومنها ما هو عقيم لا ينتج.

وقال أولاً: لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثم يُوقِنُونَ ثم إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة البقرة:164].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات الأرض، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس، والدواب والطيور.. إلى آخره.

ابن كثير هنا في هذه الكلمات جمع بين قولين معروفين للمفسرين في هذا الموضع، وما شابهه، فقوله: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يحتمل أن يكون المراد إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ يعني: من المخلوقات والكائنات ودلائل القدرة وصنوف الآيات مما تحويه السماوات والأرض، ففي للظرفية، يعني أنه يوجد في السماوات وفي الأرض آيات متنوعة دالة على قدرة الله -تبارك وتعالى- ووحدانيته، وما إلى ذلك مما يتصل بالبعث والنشور، هذا معنى.

المعنى الثاني: أن يكون المراد إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني: خلق السماوات والأرض، كما في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فنفس خلق السماوات والأرض هذا آية عظيمة دالة على قدرة الله ، هذان قولان، والزجّاج رجّح الثاني، أنه نفس خلق السماوات والأرض، واحتج بقرينة في الآية، وهي أنه قال بعد ذلك: وَفِي خَلْقِكُمْ، فيكون المراد بهذا الاعتبار عند الزجّاج ومن وافقه أن قوله: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ يعني: خلق السماوات، والآية تحتمل المعنيين.

ابن كثير في هذا الكلام جمع بين المعنيين كما ترون، نعود إلى عبارته ثانية، يقول: يُرشد إلى التفكر في آلائه ونعمه، وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات الأرض، هذا المعنى الثاني الذي ذكرناه، قال: وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع، من الملائكة والجن.. إلى آخره، فهذا هو القول الأول، وهذا كثير في هذا الكتاب، يورد عبارة يجمع فيها بين القولين، أو الثلاثة، وربما أكثر مما تحتمله الآية ويجتمع تحتها.

وقوله -تبارك وتعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ، يعني: وخلق ما يبث مثلاً، يَبُثُّ يعني: ينشر ويخلق.

وقوله هنا: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، آيات هذا الموضع آيَاتٌ جاءت بالرفع؛ على اعتبار أنها مبتدأ مؤخر، والخبر الظرف قبله، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ أي: آيات في خلقكم وفيما يبث، وهذه قراءة الجمهور، وفيها قراءة أخرى متواترة لحمزة والكسائي بالنصب آيَاتٍ فقراءة النصب هذه عطفاً على اسم "إن" إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ، واسم "إن" هنا هو لآيَاتٍ فتكون "آيات" الثانية على قراءة النصب معطوفة على الأولى، على اسم "إن"، والخبر وَفِي خَلْقِكُمْ يعني: إن في خلقكم وما يبث من دابة آياتٍ، وبعضهم يقول غير هذا.

آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، قال: وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، الحافظ هنا يقول: اختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وهذا بضيائه. التعاقب هذا اختلاف الليل والنهار، وقد مضى الكلام على هذا.

ومن أهل العلم من يقول: الاختلاف هنا التفاوت في الطول والقصر، اختلاف الليل والنهار: ما يقع فيهما من التفاوت في الطول والقصر، هذه آيات، يطول هذا تارة، ويقصر هذا تارة، ويعتدلان تارة، فهذا يحصل فيه هذا التفاوت والاختلاف، والآية تحتمل هذا وهذا، والله تعالى أعلم.

قال: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، يعني: في أحوال شتى، كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهو الذي عليه المفسرون، كابن جرير وغيره، أي هذا المعنى الذي ذكره في تنوع أحوال الرياح.

آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، الآن آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ على قراءة الجمهور التي نقرأ بها بالرفع، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالنصب أيضاً آيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، مع اتفاق القراءتين على الجر في "اختلاف"، وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ، أو آيَاتٍ، فمن رفع الآيات فعلى أنها مبتدأ كما سبق، والخبر في وَاخْتِلَافِ، أما على النصب فهو على العطف كما سبق، هنا آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عطف على معمولي عاملين مختلفين.

وبعضهم يقول: إن الرفع على الاستئناف، وهذه المذكورات في هذه الآية لاحظوا الآن إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، هذه ستة أشياء، كلها دلائل على قدرة الله -تبارك وتعالى، هذه براهين تدل على توحيده، وعظمته، كما أنها تدل أيضاً على قدرته على البعث.

والله -تبارك وتعالى- يورد هذه الأمور المذكورة في هذه الآية، هذه الأمور الستة يوردها في القرآن لبيان هذين الأمرين: التوحيد، والقدرة على البعث وإعادة الأجسام ثانية بعد البِلى، ومن أراد أن يتوسع في هذا وينظر في الشواهد في كل واحد منها فليطالع ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- في الأضواء عند تفسير هذه الآية، أطال في الكلام عليها، وفصّل وأورد الشواهد على كل واحد من الجهتين، الدلالة على الوحدانية، والدلالة على القدرة على البعث.

هنا كلام ابن كثير يقول: وقال تعالى أولاً: لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ ثم يُوقِنُونَثم يَعْقِلُونَ، وهو ترقٍّ من حالٍ شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى، باعتبار أن الإيمان أولاً ثم يرتقي مرتبة إلى حال اليقين، فهي أرفع، ثم بعد ذلك يعقل، هكذا ذكر ابن كثير -رحمه الله، وله وجه، ولكن أيضاً قد يُشكل على ما ذكر مواضع أخرى من كتاب الله -تبارك وتعالى- قد لا يكون الترقي فيها بهذه الطريقة.

يعني يمكن أن يقال: إنه لو يحصل التأمل في مضمون كل آية، ومناسبة ما ذكر بعدها ربما يكون هذا أوفق -والله أعلم، وتأمَّل الآيات المشابهة في مواضع أخرى، يعني في سورة الأنعام مثلاً: إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] وما ذكر بعده، فلو قيل: إن كل خاتمة تتعلق بمضمون الآية، وإنها عقبت أو ختمت بذلك باعتبار ما تضمنته فهذا قد يكون أوفق -والله أعلم، وإلا فالعلماء يذكرون مثل هذا التوجيه في مواضع قد لا تكون أيضاً بهذا الترتيب.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ۝ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ۝ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ۝ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سورة الجاثية:6-11].

يقول تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ يعني: القرآن بما فيه من الحجج والبينات، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي: متضمنة الحق، من الحق، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ؟!

قوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، الذي يتلو ذلك على النبي ﷺ هو جبريل -عليه الصلاة والسلام، ولكن ذلك إنما هو بأمر الله -تبارك وتعالى- فأضاف ذلك إليه، كما قال: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [سورة القيامة:18]، والذي يقرؤه على النبي ﷺ كما هو معلوم- هو جبريل -عليه الصلاة والسلام، فالنبي ﷺ لا يتلقى القرآن من الله مباشرة، إنما الذي يتلقاه من الله هو جبريل ﷺ.

وقوله -تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ يعني: هذه الآيات المذكورة التي هي حججه وبراهينه -وقد عرفنا المراد بالآيات- نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، هنا يمكن أن يكون قوله: نَتْلُوهَا منصوباً على الحال، تكون جملة حالية، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ، ويمكن أن يكون في محل رفع على أنه خبر تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ، يكون خبراً لاسم الإشارة، وآيَاتُ يكون بدلاً منه، أو ما يقرب من ذلك كالبيان له.

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ بِالْحَقِّ يمكن أن تكون حالاً من فاعل "نتلوا" أو من مفعوله أي: محقين، أو متلبسة بالحق، وهذا مضى مراراً، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ تلاوة متلبسة بالحق، ويمكن أن تكون الباء للسببية، يعني: بسبب الحق، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ، هنا يقول: إذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ؟!، يعني بعد حديث الله، وبعد آياته.

وبعضهم يقول: إن قوله: بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يعني: بعد آياته، باعتبار أن ذكر الاسم الكريم -لفظ الجلالة "الله"- لتعظيم الآيات، بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، فإن المذكور هنا هو آيات الله، فجيء بالاسم الكريم لتعظيم هذه الآيات التي ذكرها، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ، فهذه آيات الله -تبارك وتعالى- يخاطبهم بها بهذا الخطاب الواضح المشتمل على دلائل وبراهين وحجج، وبعضهم يقول: هو على ظاهره، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ يعني: بعد حديث الله، وبعد آياته، فبعد حديث الله هو القرآن، وهو المراد بالآيات.

قال: ثم قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي: أفاك في قوله كذاب حلاف، مهين أثيم في فعله، وقلبه كافر بآيات الله؛ ولهذا قال: يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ أي: تُقرأ عليه ثُمَّ يُصِرُّ أي: على كفره وجحوده استكباراً وعناداً.

الأفاك الأثيم، قبل هذا مما ذكرته في الآيات التي قبلها قلت: الآيات في سورة الأنعام إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95]، كذلك تأملوا في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام: إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وقُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، وهنا قوله: وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك: هو كثير الإفك، وعرفنا أن الإفك هو الكذب العظيم، الذي يكون فيه قلب الحقائق، والأثيم: هو كثير الإثم، صاحب آثام كثيرة، وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ والويل عرفنا أنها كلمة تقال للعذاب، وتأتي بمعنى أو تأتي مراداً بها الوادي في جنهم، وابن جرير -رحمه الله- يجري في تفسيرها على الثاني.

قال: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا أي: كأنه ما سمعها، فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي: فأخبره أن له عند الله يوم القيامة عذابا أليماً موجعاً.

وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أي: إذا حفظ شيئاً من القرآن كفر به واتخذه سخرياً وهزواً.

يعني الآن فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مضى في عدد من المناسبات الكلام على البشارة، فهل هي الإخبار بما يسر، أو أنها أعم من ذلك؟ فمن قال: إنما تكون بالإخبار بما يسر يقولون عن هذه المواضع: إنها من باب التهكم فَبَشِّرْهُ، ومنه قول القائل:

يُبشرني الغرابُ ببيْنِ أهلي فقلتُ له: ثكلتُك مِن بشيرِ

وقول الآخر:

وبشرتَني يا سعدُ أنّ أحبتي جفوْني وقالوا: الودُّ موعدُه الحشرُ

أبشرتني، استعمل البشارة هنا في معانٍ غير محبوبة، غير مرغوبة، فبعض أهل العلم يقول: هذا من باب التهكم، ولكن في هذه الأبيات ليس فيها معنى التهكم، -والله أعلم، هو يتحدث عن نفسه:

يبشرني الغراب ببين أهلي  

فراق أهلي، يتشاءمون بالغراب، فقلت له: ثكلتك من بشير، فهذا لا يظهر منه معنى التهكم؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن البشارة تأتي لهذا وهذا، للإخبار بما يسر، والإخبار بما يسوء، وأنها غلبت في الإخبار بما يسر، وأن أصل ذلك قيل لظهور أثر البشارة على الأبشار، على البشرة، فقيل لها: بشارة، فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

قال: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به.

يعني هذه أوصاف للعذاب، العذاب تارة يوصف بأنه أليم، فعيل، وفعيل يأتي بمعنى فاعل، ويأتي بمعنى مفعول، فهنا أليم أي مؤلم موجع، ويأتي بمعنى مفعول كما تقول: قتيل بمعنى مقتول، أسير بمعنى مأسور، فيأتي لهذا وهذا، فيوصف العذاب بأنه أليم ويوصف أيضاً بأنه مهين، فيحصل به إيلام الأبدان وإيلام النفوس، فالنفوس بالإهانة، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48]، فهذا إهانة لهم.

قال: أي: في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله ﷺ أن يسافَر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو"[1].

ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ أي: كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة.

مِنْ وَرَائِهِمْ، هنا يقول: أي كل من اتصف، الآن مِنْ وَرَائِهِمْ مضى الكلام على هذا في عدد من المناسبات، وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79]، ما المراد به؟ قلنا هناك: وكان أمامهم ملك، فهنا في قوله: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ، الذي عليه الجمهور يعني: من بين أيديهم، يعني أمامهم ينتظرهم، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير، وأكثر المفسرين، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فهذا هو الظاهر -والله تعالى أعلم.

وبعضهم يعبر عن هذا المعنى بنفسه، لكن بعبارات مختلفة والمؤدى واحد، وهي في الواقع ترجع إليه، وبعضهم يقول: إنه عبر عنه بذلك مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ باعتبار أن هؤلاء أعرضوا عن هذه الآيات، وعن الدار الآخرة كأنها خلفهم، فعبر بهذا: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ، ولكن الذي عليه عامة المفسرين أن المقصود: مِنْ وَرَائِهِمْ يعني: من أمام هؤلاء وما ينتظرهم وما يستقبلهم.

قال: وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا أي: لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ أي: ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئاً، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

ثم قال -تبارك وتعالى: هَذَا هُدًى يعني القرآن.

قوله: هَذَا هُدًى الهدى مصدر، تنزيل المصدر منزلة الوصف، هَذَا هُدًى إما على سبيل المبالغة، يعني جعله بنفسه –بعينه- هدى، وإما على تقدير مضاف، أي هذا ذو هدى، يعني: ما يتضمنه القرآن من الهدايات، هَذَا هُدًى، والله يقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، فجعله هدىً في نفسه.

قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ وهو المؤلم الموجع، والله أعلم.

يعني: عذاب من رجز، الرجز هو العذاب أيضاً، فهذا ليس من قبيل التكرار عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، عذاب من عذاب أليم، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، فهو وإن كان الرجز بمعنى العذاب إلا أن العذاب أنواع، فمنه ما هو مهين، ومنه ما هو أليم، ومنه ما هو عظيم، كما في الآيات الثلاث التي سبقت أليم، ومهين، وعظيم، فهنا عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ من أي نوعٍ هذا العذاب؟ من النوع الأليم.

هذه القراءة التي نقرأ بها: عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ هي قراءة حفص وابن كثير، يكون "أليم" صفة للعذاب، وقراءة الجمهور الجر فيكون صفة للرجز، مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ.

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۝ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ۝ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۝ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [سورة الجاثية:12-15].

يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: في المتاجر والمكاسب، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية.

ثم قال : وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أي: من الكواكب والجبال، والبحار والأنهار، وجميع ما تنتفعون به، أي: الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه؛ ولهذا قال: جَمِيعاً مِنْهُ أي: من عنده وحده لا شريك له في ذلك.

يعني أن قوله -تبارك وتعالى: جَمِيعاً مِنْهُ باعتبار ما يحتمل أنه متعلق بمحذوف، يعني: كائنة منه، يكون صفة لجميعاً، ويحتمل أنه متعلق بسخر، أو أنه حال من قوله: مَّا فِي السَّمَاوَاتِ أو غير ذلك مما يذكر في إعرابه كأن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي أن كل ذلك رحمة منه لعباده، جَمِيعاً مِنْهُ.

قال: كما قال -تبارك تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [سورة النحل:53].

وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

يعني هنا ماذا يقصد بـ كل شيء هو من الله، وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه، فذلك جميعاً منه؟ يعني كأنه يريد لفظ الجلالة؛ باعتبار أنه كما سبق في الأسماء الحسنى أن جميع الأسماء تعود إليه لفظاً ومعنى، تعود إليه لفظاً فهي دائماً تكون معطوفة عليه، ولا يعطف عليها، لا يأتي بعدها، وتعود إليه معنى حيث إن معاني سائر الأسماء الحسنى، وما تضمنته من الأوصاف هو داخل في معنى الألوهية الذي هو مضمن في هذا الاسم الكريم، يعني أن هذا الاسم الكريم "الله" متضمن لصفة الإلهية، وهي جامعة لجميع صفات الكمال.

وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي: ليصفحوا عنهم ويحملوا الأذى منهم، وكان هذا في ابتداء الإسلام، أُمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد، هكذا روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقتادة.

يقصد أنها منسوخة بآية السيف، كما يقوله بعض المفسرين، وقد مضى الكلام على هذا مراراً، وقول من قال بأنها نَسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، أي أن كل عفو وصفح وغفر وإعراض عن المشركين أنه منسوخ بآية السيف، وأن الراجح أن ذلك غير منسوخ، وإنما يكون الإعراض والصفح والغفر في أوقات الضعف والعجز عن إقامة حكم الله فيهم، فإذا كان المسلمون في حال من القوة والتمكن فعندئذٍ يعمل بمقتضى آية السيف.

وقوله -تبارك وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، يحتمل أن يكون قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا، اغفروا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، يعني يكون الأمر لهم بـ "اغفروا"، قل للذين آمنوا اغفروا، فتكون النتيجة يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، ويحتمل أن يكون على حذف اللام أي ليغفروا، ونحن نعرف أن الأمر له صيغتان، الصيغة الأولى: افعل، والصيغة الثانية: لِتفعل، ليغفروا للذين لا يرجون أيام الله، ولغة العرب واسعة، والسياق يبين المراد، تقول: قل لفلان يفعل كذا، يعني افعل كذا، ومعنى "أيام الله" في قوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ قال مجاهد: لا يبالون نعم الله تعالى.

فالأيام تذكر ويراد بها الوقائع، وهذا كثير في كلام العرب، يعني: لا يرجون أيام الله: لا يرجون وقائع الله بأعدائه، لا يَرْجُونَ يعني: لا يتوقعون ما حل بمن قبلهم من المَثُلات والعقوبات، وما أنزل الله بهم من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، لا يَرْجُونَ، بعض أهل العلم فسر الرجاء هنا بالخوف، لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني: لا يخافون وقائع الله وعقوباته وحلول نقمه -تبارك وتعالى، وبعضهم فسر الرجاء هنا بمعناه المشهور المعروف المتبادر، لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني: لا يرجون ثوابه، باعتبار أن هؤلاء الناس لا يعبدونه ولا يتقربون إليه ولا يوحدونه، فهم لا يرجون الثواب.

ولا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ المشهور أن المقصود بذلك يعني وقائع الله ونقمه، هذا الذي عليه عامة المفسرين، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله.

فلكون هؤلاء قد ترحل الإيمان من قلوبهم فهم لا يتخوفون عواقب الكفر، وأن تنزل بهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- جراء إعراضهم وكفرهم، وتكذيبهم واستخفافهم بما جاء به الرسول ﷺ، وبعضهم فسر أيام الله لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني: نصره لأهل الإيمان، وإعزاز الدين وتمكين أوليائه، وإدالتهم على الأعداء، وبعضهم يقول: يعني لا يرجون البعث والنشور، لكن المشهور كما سبق: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني العقوبات والمثُلات والعذاب والنقم التي تحل بأعدائه.

قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ، قوله: لِيَجْزِيَ قَوْمًا القوم هؤلاء المراد بهم أهل الإيمان، هكذا يقول بعضهم: لِيَجْزِيَ قَوْمًا يعني: أهل الإيمان الذين أمرهم الله بالغفر والإعراض عن هؤلاء المشركين، ليجزيهم الله على أعمالهم الطيبة في الدنيا، وعلى إيمانهم، ومن جملة ذلك الصبر على أذى هؤلاء المشركين.

والقول الآخر: أن المقصود بالقوم لِيَجْزِيَ قَوْمًا يعني: الكفار، لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ وهذا هو المتبادر، والله تعالى أعلم.

يعني كأنه يقول: دع هؤلاء لله فهو الذي يحاسبهم، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ [سورة الغاشية:22]، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40]، فالله -تبارك وتعالى- يتولى عباده ويجازيهم ويحاسبهم على كفرهم وإعراضهم، وليس ذلك موكولاً إليك.

قال: وقوله -تبارك وتعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي: إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي: تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه، فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها، والله أعلم.

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۝ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ۝ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة الجاثية:16-20].      

يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم، وجعله الملك فيهم؛ ولهذا قال -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.

يعني قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ بعضهم يقول: المقصود به التوراة، وبعضهم يقول: التوراة والإنجيل، باعتبار أن الإنجيل أيضاً منزل على بني إسرائيل، فهذا مقام امتنان، فالله -تبارك وتعالى- يمتن عليهم بذلك، وهذا الثاني الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله، أن المقصود بالكتاب يعني التوراة والإنجيل.

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، الحكم فسر بالفقه والفهم، والذي يكون به الحكم بين الناس، وابن جرير -رحمه الله- فسره بما هو قريب من هذا، يعني أن الله آتاهم الكتاب والحكم، فالحكم هو ما كان من غير جنس الكتاب، فيدخل فيه السنن والفقه والفهم، يعني مما ليس من جنس الكتاب، يعني ما لم ينزل بالكتاب يعني بلفظه، فآتاهم الكتاب وآتاهم الحكم والنبوة يعني: جعلها فيهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- عن قول موسى ﷺ: اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20].

قال: وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أي: من المآكل والمشارب.

يدخل في هذا المن والسلوى التي أنزلها عليهم، والمقصود بالعالمين أي في زمانهم، وهذا مضى الكلام عليه، فإن الله -تبارك وتعالى- حينما قال لهم: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122]، لم تكن أمة محمد ﷺ موجودة، ولم يكن كتابهم قد نزل، ثم بعد ذلك لما كفروا حلت بهم لعنة الله ، وحل بهم سخطه فلعنهم وطردهم من رحمته، وقال الله  عن هذه الأمة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [سورة آل عمران:110]، وفي حديث معاوية بن حيدة التصريح بهذا، لما ذكر الأمم: إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله[2]، فهذا صريح في خيرية هذه الأمة على الأمم، فما ورد من هذا القبيل في تفضيل بني إسرائيل على العالمين فالمقصود به عالم زمانهم، وليسوا أفضل من هذه الأمة قطعاً.

قال: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعات، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة، وإنما كان ذلك بغياً منهم على بعضهم بعضاً.

وهذا في مواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- أن الاختلاف الواقع في بني إسرائيل إنما كان بعد معرفة الحق، بعد بيانه بياناً لا يلتبس، وبعد أن قامت عليهم الحجة، وأن سبب هذا الاختلاف إنما هو البغي، والنبي ﷺ أخبر أن هذه الأمة ستتبع سَنن من كان قبلها، ومضى في التعليق على كتاب الاقتضاء ما ذكره شيخ الإسلام في أوله، ثم بعد ذلك في مواضع أخرى، ذكر في موضع واحد نحواً من ثمانية عشر نوعاً مما تابعت هذه الأمة فيه بني إسرائيل.

ومن هذه الأمور التي شابهت فيها الأمة مَن قبلها التفرق والاختلاف، وسبب ذلك التفرق والاختلاف لم يكن بسبب عدم بيان الحق، والنقص في تعريفه، وإنما كان ذلك بسبب التفريط وإن كان ذلك من جهة الجهل، التفريط في معرفته لكون هذا المفرط قد أعرض عنه، مع أن الشاطبي -رحمه الله- يرى أن هذا لا يكون للعالم الذي يستحق أن يقال عنه: إنه عالم، العالم الرباني، العالم الراسخ، لا يكون من قبل الجهل، يقول: لأن الجاهل أصلاً لا يعتد خلافه في الخلاف، ولا يكون فراقه معتبراً فيقال: هذا فراق، وفرقة.. إلى آخره.

فهؤلاء الذين يخالفون بسبب الجهل إنما ذلك لتفريطهم في معرفة الحق، وإلا فالحق بينه الله بياناً واضحاً لا يلتبس، فيبقى اتباع الهوى تحت أي اسم كان، والبغي التعدي في أمور لا توجب ذلك، كما هو مشاهد اليوم بين طوائف الأمة، أكثر الخلاف الواقع إنما هو راجع إلى هذا السبب، وما يخرج عنه فهو راجع إلى اتباع الهوى، وكثيراً ما يجتمع هذا وهذا، اتباع الهوى والبغي الذي يكون بين الناس، لكنك أكثر ما تجد البغي حيث يكون الناس متفقين على أصل الحق، ومع ذلك تجد التفرق والاختلاف على قدم وساق، فيعجب الناظر من هذا، ما موجبه؟ وما سببه؟ إلى أي شيء يرجع؟ فهم متفقون على الحق في أصله، فهذا في الواقع يرجع إلى البغي، العدوان، الظلم، فيقع التناحر والتفرق والعداوات والشر بين طوائف المسلمين، -والله المستعان.

كنا دائماً نقول: من علامات أهل السنة أن كلامهم يخرج من مشكاة واحدة، كما يقول الصابوني ومن قبله السمعاني، تجد الذي في المشرق والذي في المغرب، وتجد المتقدم والمتأخر كلامهم من مشكاة واحدة ليس فيه اختلاف، وليس بأهل تفرق كما هو حال أهل البدع، واليوم تجد المنتسبين إلى السنة والسلف الصالح، تجد الخلاف فيهم أكثر ما يكون، والتفرق الذي يصل -أسأل الله العافية- عند البعض إلى الرمي بالبدعة والضلالة وما أشبه ذلك.

وهذا لا يعرف عند أهل السنة، وإنما منشأ ذلك هو كما يقول الشاطبي: إذا تكلم في العلم من لم يكن متحققاً فيه، أو كان ذلك يرجع إلى اتباع الهوى والبغي والعدوان في أمور لا توجب ذلك من الخلاف في أمور اجتهادية، فتتحول إلى عداوات، فهذا إما أن يكون بسبب الجهل لكونه لا يعرف ما الذي يوجب الافتراق، وما الذي لا يوجبه، فيجعل من القضايا الاجتهادية قضايا كلية توجب الافتراق.

وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- عن بعض شيوخ اليمن كما في الكتاب الذي ألفه في العلم "نهاية الأرب" ذكر فيه أشياء جيدة، منها قضية تتعلق بهذه الجزئية، وهي أن الناس ثلاثة:

فالعلماء من أهل الرسوخ إذا اختلفوا فإن اختلافهم لا يوجب هذا التفرق، يتفاهمون، ويعرفون كيف يختلفون، وكيف ينزلون المسائل.

والقسم الآخر: وهم من يقابلهم وهم العوام، فهم تبع لعلمائهم، فهؤلاء لا يحصل منهم التفرق والاختلاف.

بقيت الفئة الوسط وهم الذين لم يكونوا في عداد العوام ولم يكونوا من أهل الرسوخ في العلم، فهم لم يحصل لهم النضج، يقول: هؤلاء هم سبب التفرق والاختلاف والشر والعداوات والقيل والقال واللغط الكثير، وهذا هو الآن الذي نشاهده، ومع وسائل الاتصال الجديدة اليوم أصبح هؤلاء عندهم مجال كبير للكتابة، ولربما بأسماء غير صريحة، والشيطان يرقص بين هؤلاء، وتجد الوقيعة الشنيعة، كأن هؤلاء لا يعرفون الله، ولا يعرفون ما جاء عن رسول الله ﷺ في حق المسلم على المسلم، ولا في أدنى مراتب الأدب التي درسوها في أوائل الطلب، كل هذا يُنسى، وما للمسلم من حرمة، فيرمى بأقبح الأوصاف على اختلافات في أمور اجتهادية.

وأحياناً حتى لا ترى أمراً اجتهادياً، لا ترى شيئاً لماذا هذه العداوة وهذا الرمي بهذه العظائم لهذا الإنسان الذي لم يعرف عنه إلا الدعوة إلى الخير والسنة، لا يعرف عنه إلا هذا، وهذه الشناعة عليه ما موجبها؟ لا تعرف أحياناً، حسد، مرض عند هؤلاء، فهذه للأسف اليوم صارت أشد وأعظم من أي وقت مضى، والسبب هو أن هؤلاء صاروا يتوصلون إلى أمور لم يكونوا يقدرون عليها من قبل، وسائل الاتصال، ووسائل الكتابة أيضاً والطباعة وما أشبه ذلك، أصبح الآن بالإمكان أنه يكتب ويؤلف، ويجمع من هنا وهناك، وأحياناً تنظر في بعض الكتابات تقول: لو أنه يعقل ما أخرج هذا الكلام، ولا كتب هذا الكتاب؛ لأنه ينادي عليه النقص والجهل، وهو لا يحسن، لكن الإنسان لا يرى عيوبه، والله يصلح الحال.

قال: إِنَّ رَبَّكَ يا محمد يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي: سيفصل بينهم بحكمه العدل، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم؛ ولهذا قال -جل وعلا: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا أي: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو، وأعرض عن المشركين.

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ الشريعة في اللغة هي المذهب والملة والمنهاج، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصود، يوصِّل أو يُوصِل أو يُتوصل به إلى المطلوب، إلى المراد، إلى الموضع الذي تقصده، يعني: جعلناك على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق.

قال: وقال هاهنا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة الجاثية:18، 19] أي: وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضاً؟ فإنهم لا يزيدونهم إلا خساراً ودماراً وهلاكاً، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.

يعني هناك آيات جامعة مثل هذه الآية مثلاً لو قيل: لو لم يُنزّل على الناس في السياسة إلا هذه الآية لكفتهم، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، فهذا هو الطريق الوحيد الموصل إلى المطلوب، الموصل إلى الله والدار الآخرة، وهو الذي يحصل به التمكين والظفر والنصر، وشرح ذلك يطول، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ [سورة الحج:41]، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ [سورة النور:55]، الآيات في هذا معروفة.

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يعني: كل ما يخالف الشريعة فهو أهواء، سواءً كان بثوبٍ لبرالي أو كان بأي وجه كان، بأي مذهب عبر العصور والقرون المتطاولة، كل ما خالف الشريعة فهو أهواء الذين لا يعلمون، هذه قيمته الحقيقية، هذه منزلته، هو عبارة عن أهواء، ديمقراطية، علمانية، أو غير ذلك مما يمكن أن يأتي من أسماء، فإن الباطل لا يمكن أن يعبر عنه بتتبع أفراده وآحاده فإن ذلك كثير، ويخرج شيئاً بعد شيء، ولا يمكن حصره، ولكن مثل هذا، فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى [سورة ص:26].

فكل ما خالف الحق فهو هوى، ما هذا الحق؟ هل هو الديمقراطية مثلاً؟ الجواب: لا، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا.

فهؤلاء لا يمكن أن يخلصوك من عذاب الله في الدنيا، ولا في الآخرة، مهما كثروا، ومهما علت أصواتهم، ومهما كانت إمكانياتهم، ومهما كانت ضغوطاتهم، فهؤلاء الذين لا يعلمون قد يكونون دولاً ممكَّنة قوية، تضغط على المسلمين من أجل إقرار المنكر بين ظهرانيهم، الله -تبارك وتعالى- يقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.

فهؤلاء يحصل بينهم التعاضد والتناصر، وإن اختلفت نِحلهم ومللهم وأهواؤهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- ولي المتقين، فهذا وعد منه بالحفظ والتمكين والنصر؛ لأن من معاني الولي الناصر، فالله ينصرك على من عاداك إذا كنت ملتزماً أمره وطاعته، وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:3، 4].

فهذا الطريق كما في أول سورة الأحزاب يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [سورة الأحزاب:1-3]، فإن هؤلاء لن يتركوك، لكن وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا يحفظك ويحوطك وينصرك على هؤلاء الذين يعادونك، ثم قال بعده: مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [سورة الأحزاب:4]، وقد مضى الكلام على هذا، وأن من المفسرين من يقول: هذا تابع لما قبله، لا يمكن أن تجتمع طاعة الله ، وطاعة هؤلاء المجرمين في قلب رجل إطلاقاً، إما أن يكون تابعاً لأمر الله مطيعاً له، عابداً لربه وخالقه ، وإما أن يكون عبداً لهؤلاء ولأهوائهم، مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ لا تجتمع طاعة الله وطاعة أعداء الله.

قال: ثم قال : هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ [سورة الجاثية:20] يعني: القرآن.

بصائر يعني: براهين ودلائل، سماه بصائر، قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [سورة الأنعام:104]، والبصائر عرفنا أنها من بصر القلب الذي هو بمنزلة نور العين، فيبصر به حقائق الأشياء، هذا الذي سمعتم بصائر ويا لها من بصائر!، كما ترون آية واحدة تجمع كل ما يُحتاج إليه في أبواب واسعة، في آية واحدة.

قال: يعني القرآن وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ۝ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ۝ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [سورة الجاثية:21-23].

يقول تعالى: لا يستوي المؤمنون والكافرون، كما قال : لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة الحشر:20] وقال -تبارك وتعالى- هاهنا: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أي: عملوها وكسبوها.

يعني "أم" هذه هي المنقطعة، المقدرة ببل والهمزة، وقد مضى هذا مراراً، يعني: فيها معنى "بل" للانتقال من البيان الأول إلى البيان الثاني، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والهمزة لإنكار هذا الظن حيث حسبوا ذلك وظنوه، ومعنى الاجتراح: الاكتساب، ومن ذلك الجوارح، وقد مضى الكلام على هذا في المائدة، وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ [سورة المائدة:4]، فالاجتراح بمعنى الاكتساب، فهذه جملة مستأنفة لبيان تباين حال المسيئين والمحسنين، يعني أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، نسوي بين هؤلاء وهؤلاء، يقول: سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ يعني: في الدنيا والآخرة لا يستوون، يعني: لا يستوي أهل الإيمان وأهل الإجرام، لا يستوون في الدنيا، ولا يستوون في الآخرة، فحالهم مختلفة، وأعمالهم متفاوتة متباينة.

وبعضهم يقول: إن المراد سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ أننا يعني لا نسوي، أو إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، ولكن الأول هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وقوله: سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ فيه قراءتان متواترتان، القراءة الأولى بالرفع، وهي قراءة الجمهور، سَوَاءٌ مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ، على أنه خبر مقدم، والمبتدأ مَّحْيَاهُم، أي: محياهم ومماتهم سواءٌ، والقراءة الثانية قراءة حفص وحمزة والكسائي بالنصب، باعتبار أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله: كَالَّذِينَ آمَنُوا، أو غير ذلك مما يقال في توجيه هذه القراءة وإعرابها، والله أعلم.

قال: أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ أي: نساويهم بهم في الدنيا والآخرة! سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ أي: ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة، وفي هذه الدار.

وقد روى الطبراني عن مسروق: أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ ولهذا قال تعالى: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.

وقال : وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّأي: بالعدل.

وهذا الذي قاله أيضاً ابن جرير: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، الحق المقتضي للعدل بين العباد، وكما سبق أن بِالْحَقِّ يمكن أن يكون منصوباً على الحال، أي خلقاً متلبساً بالحق، أو أن تكون الباء للسببية.

يعني: أن الله -تبارك وتعالى- خلق السماوات والأرض بالحق، خلقاً متلبساً بالحق، أو وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني: العدل بين العباد، وَلِتُجْزَى يمكن أن يكون ذلك عائداً إلى الحق، فيكون كل ذلك سبباً لخلق السماوات والأرض، أن الله خلق السماوات والأرض بالعدل، وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ

ومضى في كلام شيخ الإسلام الذي قرأنا شيئاً منه في "طريق الوصول إلى العلم المأمول" أن العلل التي يذكرها الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه ليست للحصر، وذكر أمثلة كثيرة لذلك منها هذا حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- خلق السماوات والأرض، فهل خلق الله السماوات والأرض مثلاً من أجل أن تجزى كل نفس بما كسبت فقط أم هذه واحدة من العلل؟ فذكر لذلك أمثلة كثيرة.

ويحتمل أن يكون وَلِتُجْزَى معطوفاً على محذوف، يعني خلق الله السماوات والأرض ليدل بهما على قدرته وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ إلى آخر ما ذكر، ويحتمل أن تكون اللام هذه للصيرورة، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلِتُجْزَى، الصيرورة والعاقبة، كما في فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8].

قال: ثم قال -جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسناً فعله، ومهما رآه قبيحاً تركه.

وقوله: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ أي: أضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك، أو أضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه، والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس.

يعني وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ هذا حال، إما من الفاعل وإما من المفعول، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، على علم من الله، هذا الذي عليه الجمهور، أن هذا لا يستحق الهداية، على علم سابق من الله -تبارك وتعالى- فيه أنه ليس بأهل للهدى، كما قال الله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [سورة الأنفال:22، 23]، فهؤلاء لا خير فيهم، فهذا قول الجمهور.

والقول الثاني: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍأي: "علم" يكون حالاً من هذا الذي أضله الله، على علم منه، يعني: أنه كان يعرف الحق، يعلم الحق فتركه لغلبة هواه، لإيثار الهوى، أو أنه ترك الحق والعمل به؛ لأنه لا يرجو، لأنه يعلم أنه لا ثواب له عند الله -تبارك وتعالى، يعني هذا الكافر وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، وهذا بعيد، هذا المعنى الأخير.

وبعضهم يقول: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ منه بأن هذا المعبود من دون الله كالصنم أنه لا يضر ولا ينفع، والمشهور هو الأول وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ يعني: من الله -تبارك وتعالى- به أنه ليس بأهل للهدى، وهذا تدل عليه آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى، وهو الذي اختاره ابن جرير، وعزاه ابن القيم -رحمه الله- إلى الجمهور من المفسرين.

وابن كثير -رحمه الله- يقول: أضله الله لعلمه، يعني لعلم الله أنه لا يستحق ذلك، أو أضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه، يعني: على علم من هذا الضال أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب فعرّفهم بالحق، فضل هذا على علم.

يقول: والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس، باعتبار أن هذا الإنسان الذي جاءه الحق ووصل إليه فأعرض عنه أضله الله على علم فكان ضلاله ليس بسبب خفاء الحق، وإنما كان بعد بلوغه إليه، فهذا يستلزم الأول، وهو أن الله -تبارك وتعالى- في سابق علمه قد علم أن مثل هذا لا يؤمن ولو جاءته كل آية، هكذا ذكر ابن كثير، يعني هذا مراده أنه يستلزم الأول، الثاني يستلزم الأول ولا ينعكس، إذا قلت: على علم من الله بأنه ضال لا يستحق الهدى لا يستلزم الثاني أن ذلك لكونه قد علم الحق وعرفه ثم أعرض عنه.

وهذه الآية من الآيات التي يستدل بها أهل السنة في باب القدر، أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهؤلاء الذين أضلهم لماذا أضلهم؟ لأنه -تبارك وتعالى- عليم حكيم، بل هم قالوا: مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:132] قال مالك: لا يهوى شيئاً إلا عمل به، يعني هنا يقصد التحسين والتقبيح عند المعتزلة، تعرفون أن المعتزلة يقولون: إن العقل يستقل بالتحسين والتقبيح، وعكسهم الأشاعرة.

وهذه من مخالفات الأشاعرة لأصولهم، الأشاعرة في باب التحسين والتقبيح يقولون: إن العقل لا يحسّن ولا يقبّح، ولا مدخل له في التحسين والتقبيح، وإنما يرجع ذلك إلى الشرع، ومن ثَمّ فإن الأشاعرة يقولون: الحسن والقبح يرجع إلى أن الله أمر بهذا أو نهى عنه، فلو أن الله أمر بالكذب والظلم والزنا والفجور والسرقة لكانت حسنة، ولو نهى عن العدل والعفاف والصدق لكانت قبيحة.

وهذا الكلام غير صحيح، فإن من الأشياء ما جعل الله فيه حسناً ذاتياً، تدركه العقول كالصدق والعدل والعفاف، وما إلى ذلك من الصفات التي تعرفها العقول، ولهذا الأعرابي لما قيل: بم عرفت أنه رسول الله؟ قال: "ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به"، فكل ما جاء به الرسول ﷺ فهو موافق للعقل فيما تدركه العقول، وما لا تدركه العقول فهو لا يخالف العقل بحال من الأحوال، وهذا مضى الكلام عليه في التعليق على كلام شيخ الإسلام وابن القيم في طريق الوصول.

فهنا الأشاعرة يناقضون أنفسهم في هذا الباب، يلغون العقل تماماً، مع أنهم يجعلون العقل أصلاً والنقل تابعاً له في باقي الأبواب، ومن ثم فهنا يقول: رد على المعتزلة، باعتبار أنهم يقولون: إن العقل يستقل بالتحسين والتقبيح، فهذا متبع لهواه وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ فهو لا يستحسن شيئاً إلا فعله، فعقله هذا لم يهده إلى الحق، وإنما يكون الاهتداء باتباع الوحي، فهذه العقول التي تحسّن وتقبّح، كلما استحسن شيئاً فعله، لا يصل إلى الحق، ولا يكون متبعاً له، وإنما يكون متبعاً لهواه، ومضى الكلام على هذه العقول، وعلى تفاوتها، ولذلك اختلف أهلها اختلافاً كثيراً، وما يظنه بعضهم أن هذا عقل وقواعد عقلية، وأنها ليست كذلك.

قال: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئاً يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال تعالى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، كقوله تعالى: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186].

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب، فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر، فالعين مرآة القلب تُظهر ما فيه، وأنت إذا أبغضت رجلاً بغضاً شديداً أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته، فتلك أثر البغض والإعراض عنه، وغُلّظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول ﷺ، وجعْلُ الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة، ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى"[3].

يعني هذه الأشياء القلبية، لذلك قيل: حبك الشيء يعمي ويصم، السمع لا يسمع والبصر لا يبصر، وكذلك بغضك الشيء يعمي ويصم، فترى المحاسن مساوئ، فهذا كله ما يقع في القلب ويحصل يؤثر في السمع والبصر، والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، برقم (2990)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم، برقم (1869).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة آل عمران، برقم (3001)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد ﷺ، برقم (4288)، وأحمد في المسند، برقم (20015)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، والحاكم في المستدرك، برقم (6987)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2301).
  3. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر، لابن القيم (96)، دار الفكر، تحقيق: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني.

مواد ذات صلة