الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
طالب العلم ومواسم العبادة
تاريخ النشر: ٢٤ / شعبان / ١٤٢٩
التحميل: 81546
مرات الإستماع: 26605

من صام رمضان إيماناً، واحتساباً

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد،وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته، نتحدث بين يديكم في هذا الموضوع، وهو ما يتصل بالعبادة، وبحال طلاب العلم في جانب التعبد، وهذا الحديث أوجهه إلى نفسي أولاً، فأعظها به، فالمرء يعلم تقصيره، ونقصه، وعجزه، وضعفه، ثم هو مذاكرة أيها الإخوان، أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يحيي بها القلوب، وأن ينفع بها، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، فهي ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

كما أننا نطرح هذا الموضوع أيضاً من باب شحذ الهمة؛ لأجل أن تشمر النفس في طاعة ربها، ومليكها، ومعبودها ونحن في هذه الأيام نستقبل هذا الشهر الذي هو أفضل شهور العام، فهو موسم كبير من مواسم التجارة مع الله والسعيد من وفق فيه للصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وألوان التعبدات، وما أن ينقضي هذا الشهر حتى يبدأ موسم آخر، وهو موسم الحج، من أول يوم في شوال، يبدأ موسم جديد، يختم به العام. 

فـمن صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[1].

من قام رمضان إيمانًا، واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه[2].

ومن قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[3]. فهذه ثلاث.

من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر[4] الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[5].

من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه، وسنة بعده[6].

ثم بعد ذلك يأتي شهر الله المحرم الذي يكون صومه أفضل الصيام بعد رمضان، وفيه عاشوراء صيامه يكفر سنة ماضية، فانظروا إلى هذا الإفضال، والإنعام من الله حيث تتتابع هذه المواسم في نهاية العام، وفي أوله، فهذا أمر من شأنه أن يحط الخطايا، ويرفع الدرجات، والعارفون ينبغي أن يكون هؤلاء هم طلاب العلم الذين عرفوا الكتاب، والسنة، وحقائق ما أنزل الله على رسوله ﷺ فهم عرفوا الله بأسمائه، وصفاته، وعرفوا عظمته، وما يستحقه من العبادة، والإجلال، كما أنهم عرفوا الطريق، وتفاصيلها، وتفاضل الأعمال، والخيرات، كما أنهم عرفوا الدار الآخرة، وما فيها من النعيم المقيم، وما ينتظر العاصين من النكال، والآلام، والعذاب، كما أنهم عرفوا النفس، وما يعتورها من الآفات التي تقعدها عن العمل، وعرفوا الأمور التي تدعوها إلى المزيد من القربة، والطاعة.

كل ذلك عرفوه، فينبغي أن تكون هذه المعرفة سبباً لمزيد من العمل، والتميز الذي يتميزون به في ليلهم، ونهارهم، وحركاتهم، وسكناتهم عن غيرهم ممن لم يعرفوا هذه الأمور، وإلا فما هي فائدة العلم؟ إن الإنسان قد يُشقي نفسه في عمل دءوب في حفظ الكتب، والمتون، وفي الاشتغال بين يدي الشيوخ، في القراءة عليهم، واستشراح هذه الكتب، والتفقه في الدين فيحرم نفسه كثيراً من المتع، واللذات، فلا يتنزه حينما يتنزه الناس، ولا يخرج إذا خرجوا، ولا يلتذ بما يلتذون به مما تشتهيه النفوس، وتطلبه، بل يواصل عمل الليل بالنهار، من أجل تحصيل هذا العلم، ولربما كان ذلك من أجل أن يحجز مقعداً في النار، وكلنا يعرف حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، الرجل الذي قرأ القرآن، الرجل الذي تعلم العلم، من أجل أن يقال: عالم، أو قارئ.

فيلقى في النار، قبل الزناة، والسُّراق، فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يتبينها، وأن يتذكرها؛ لأنه قد عرفها، لكن يبقى العمل، يبقى التطبيق، والامتثال، فما فائدة المعرفة إذا كانت لا تقودنا إلى العمل بطاعة معبودنا ؟!.

ثم إننا نطرح هذا الموضوع نظراً لما تعانيه نفوسنا من كثير من الجفاف، فالقسوة غالباً على القلوب، والأعمال، والبضاعة التي نقدم بها على الله قليلة، والآخرة دار لا تصلح للمفاليس، والإنسان حينما ينظر، أو يقرأ في سير أهل العلم، وما كانوا عليه من التشمير، والجد، والعمل في طاعة الله لا يتخيل نفسه إلا أنه من قطاع الطريق، وهذه حقيقة يجدها الإنسان في نفسه، حينما ينظر في عمله، وعمل هؤلاء.

ثم إننا نطرح هذا الموضوع في هذه الأيام في وقتٍ تمر به الأمة في فتن متلاحقة، وقد أخبرنا النبي ﷺ كما في حديث معقل بن يسار أن العبادة في الهرج كهجرة إليّ[7].

فينشغل الناس بالنقل، والتحليل، وتتبع الأخبار، وما يجري هنا، وهناك، وهذا الأمر لابد أن يؤثر في القلوب، فتشتغل القلوب بما تلقفته الأسماع، أو وقعت عليه الأنظار عبر الشاشات، ثم بعد ذلك لا يبقى في هذا القلب محل لعبادة الله وطاعته، والإقبال عليه، وهذا أمر مشاهد. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان (1/16)، رقم: (38).
  2.  أخرجه البخاري، باب فضل من قام رمضان (3/44)، رقم: (2009)، ومسلم، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1/523)، رقم: (759).
  3. أخرجه البخاري، باب فضل ليلة القدر (3/45)، رقم: (2014)، ومسلم، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1/523)، رقم: (760).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان (2/822)، رقم: (1164).   
  5.  أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها (3/2)، رقم: (1773)، ومسلم، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة (2/983)، رقم: (1349).
  6. أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب صيام يوم عرفة (1/551)، رقم: (1731).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج (4/2268)، رقم: (2948).
العبادة عنوان شرف المؤمن

العبادة هي عنوان شرف المؤمن، وكلما كان العبد أكثر تحقيقاً لها كان ذلك أكمل في حقه، وشرفه، ومنزلته، ولذا وصف الله - تبارك، وتعالى - رسوله ﷺ في أجل المقامات بالعبودية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] في مقام الإسراء، وقال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم: 10] في مقام الإيحاء، وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19].

فالعبودية هي الغاية التي شمر من أجلها المشمرون، وجدّ في طلبها العالمون بالله حقيقةً، وهم أهل الخشية إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28].

 
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود

ولذلك أقول: إن الإنسان لا تسمو منزلته، ولا ترتقي درجته بمجرد أمور يحفظها، أو حينما يقطع كتباً في العلم قد درسها، وإنما لابد أن يعقب ذلك العمل، والتطبيق، والامتثال، وإلا فإنه لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود، وانظروا إلى أسوأ الأمثال في القرآن، حيث ضربت لأولئك الذين يتعلمون، ولا يعملون، فالمثل الأول في أمة، وهم اليهود: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] فشبههم بالحمار.

والمثل الآخر: ضربه الله لذلك العالم الذي انسلخ من آيات الله وأدار لها ظهره، ضرب له مثلا بالكلب في أسوأ صوره، وحالاته إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].

فالعلم لا ينفع بلا عمل، لابد من العمل، والتبعة عظيمة، والحساب شديد، والله يحاسبنا بمثاقيل الذر.

وقد ذكر معاوية بن قرة - رحمه الله - أنه قد أُهدي إليه طعام فأكل منه في الليل، ثم ترك بعضه فلما أصبح، وإذا هو قد اسود من كثرة الذر، فوزنه، ثم نحى عنه الذر، فلما وزنه وجد الوزن لم يتغير.

والله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7 - 8].

ورجل يقال له أبو العباس الخطاب وزن خمسًا، وعشرين ذرة بحبةٍ من خردل، فكانت حبة الخردل أثقل من خمس، وعشرين ذرة. 

فالذرة الواحدة ما وزنها؟ ما مقدارها؟ والله يحاسبنا على مثاقيل الذر، فيعلم المقاصد، والنيات، وليس معنى ذلك أن الإنسان يُثبِّط عن العمل، أو حفظ المتون، حاشا، وكلا، فأنا من أشد الناس تحفيزاً للهمم من أجل المزيد من الحفظ، والرعاية، والعناية بالعلم، والجلوس بين يدي العلماء، ولكن الكلام ليس في هذا، الكلام في قضية أخرى، وهي حينما يكون هذا العلم غاية، يتكثر به الإنسان، ويتزين في المجالس، ولربما قدمه الناس، أو طلب ذلك، فيتصدر في مجالسهم، وما يغني عنه هذا إذا كان الله قد مقته، وأبغضه، وسخط عمله؟. 

العبادة هي رمز خضوع الإنسان المربوب بربه

والعبادة هي رمز خضوع الإنسان المربوب بربه، وخالقه وكلما زادت هذه العبادة زاد هذا الخضوع، والإخبات، والخشوع، وهي العلة - كما نعلم - التي من أجلها خلق الله الجن، والإنس وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

وإذا نقصت العبادة تمردت النفس، وطلبت الرفعة في الدنيا، والعلو، وأصابها ما يصيبها من الكبر، والآفات، والعجب، فتجد طالب العلم - فضلاً عن غيره - لربما في نفسه من التعاظم، والزهو، والتكبر على الآخرين، ورؤية النفس ما لا يقادر قدره، وهذه بلية، ومصيبة.

 
العلم الصحيح الذي يكسر النفس، ويخضعها لربها

العلم الصحيح الذي يؤخذ من العلماء الربانيين هو الذي يكسر النفس، ويخضعها لربها، وخالقها ولكن هذا العلم أحياناً قد يضر.

من الناس من يعظم خوفه إذا وقع في المعصية، ولربما تعلم بعض الأشياء فهانت عليه ذنوبه، وقد سمعت بعض من يحتج بقوله - تبارك، وتعالى - : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] يقول: فالذي يزني مرة هذا ممن ذكر الله ووصف، وأثنى عليهم، وهذا رجل قد ترأس؛ حيث صار يعلم، ويدرس في الجامعة، فيقول لتلامذته هذا الكلام.

وآخر يراود غيره على الفاحشة، ويحتج بقوله - تبارك، وتعالى - : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 135].

وقد ترى الرجل أحياناً لربما يحرص على بعض الأمور التي سمع النهي عنها، فلا يشرب قائماً مثلاً، فإذا درس قال: توجد أحاديث تصرف النهي فهو للكراهة، فيتعمد من غير حاجة، فيشرب قائماً، هذا بعدما تعلم.

ولربما تجد الرجل يخرِّج لنفسه ألوان التخريجات من أجل أن يستحل ما حرم الله وذلك حينما يوظف العلم من أجل أن يتوصل به إلى شهواته، ومطلوبات نفسه، فهذه أمور ينبغي أن يحذر الإنسان منها، أن يكون العلم - وهو مطلب شريف - سائقاً لنا إلى الجنة، أن يقودنا إلى مرضاة الله .

ولذلك أقول: ينبغي أن يوجه كل واحد منا السؤال إلى نفسه، فالحديث موجهٌ إلينا، ينبغي أن نسأل أنفسنا عن حالنا مع الصلاة المكتوبة، كم مرةً في الأسبوع فاتتنا الصلاة؟ كم مرةً في العام فاتتنا الصلاة؟ لا نسأل كم مرةً فاتتنا تكبيرة الإحرام، ونحن نشاهد طلاب العلم في كثير من الأحيان يصلون في أطراف الصفوف يقضون؟ أهذه هي نتيجة العلم؟

قال وكيع بن الجراح: كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى[1].

ويقول القاضي تقي الدين سليمان بن الحمزة المقدسي - رحمه الله - لم أصلِّ الفريضة منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلها[2] كم مرةً صلينا الفريضة منفردين؟!

هذا آخر يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يومًا واحدًا ماتت فيه أمي[3].

وجاء في ترجمة إبراهيم بن ميمون الصائغ - رحمه الله - أن ابن معين - رحمه الله - كان يقول عن إبراهيم بن ميمون: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها[4].

رفع المطرقة!، ونحن يؤذن الأذان، وتقام الصلاة، وننشغل عنها مع أن الإنسان لو تفكر في قوله: "الله أكبر" لعرف أن الله أكبر من هذا العمل الذي يزاوله، إذا كان العلم لا يربي النفوس فإن النفوس لا تتشربه، ولا يؤثر فيها سمتاً، ولا هدياً، ولا عملاً، ولا عبادة.

وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة[5] .

يعني: ما صلى في الصف الثاني، ولمّا حبس، وضرب ذهب إلى المسجد، فوجد الناس قد خرجوا، قال: هذه وجوه ما نظرت إليها منذ خمسين سنة.

ونحن في كم مرة نرى تلك الوجوه التي تقابلنا حيث يخرجون من المسجد؟.

اسأل نفسك، كم مرةً بكيت من خشية لله ؟ قد يمر على الواحد منا العام، وأكثر، وعينه لم تدمع من خشية الله، وإذا جفت العين فإن ذلك يدل على نضوب معين القلب من الخشوع، يدل على أن هذا القلب قد صار يابساً جافًّا، وإذ صار يابساً فلا تسأل عن صلابته، وقسوته، فلا يلين عند الموعظة، ولا يتأثر عند قراءة القرآن.

يقول الحسن بن عرفة - رحمه الله - : رأيت يزيد بن هارون بواسط، وهو من أفضل الناس عينين، ثم رأيته بعين واحدة، ثم رأيته، وقد ذهبت عيناه، فقلت له: يا أبا خالد، ما فعلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار[6].

ذهب ذلك بعينيه، نحن كم مرةً دمعت عيوننا؟ يحتاج الواحد منا أن يتذكر، وأن يحاول أن يستحضر كم مرةً خشع؟.

والقلوب التي لا تلين عند قراءة القرآن، ولا ترق فإنها ستلين في كير النار - أعاذنا الله، وإياكم منها -.

واشتكى ثابت البناني - رحمه الله - عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلةً تبرأ عينك، قال: وما هي؟ قال: لا تبكِ، قال: وما خيرٌ في عين لا تبكي؟[7].

وهذا هشام الدستوائي - رحمه الله - بكى حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحةً، وهو لا يكاد يبصر بها[8].

وقال قتادة: كان العلاء بن زياد قد بكى حتى عشا بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ، أو يتكلم جهشه البكاء، وكان أبوه قد بكى حتى عمي[9].

وهذا عطاء السليمي بكى حتى خُشي على عينه، فأُتي بطبيب يداوي عينه، قال: أداوي بشرط ألا تبكي ثلاثة أيام، فكره ذلك، وقال: لا حاجة لنا فيك[10].

من منا بكى في ثلاثة أيام متتابعة في حياته من خشية الله ؟ والمفروض أن طلبة العلم هم أولى الناس بهذا، ولكنها قسوة القلوب.

انظر إلى جفافنا في العبادة في سائر العام، وفي رمضان، أحوال يستحي الإنسان فيها من الله .

  1.  سير أعلام النبلاء (6/228).
  2.  ذيل طبقات الحنابلة (4/402).
  3. سير أعلام النبلاء (10/646).
  4. تهذيب التهذيب (1/173).
  5.  وفيات الأعيان (2/375).
  6.  صفة الصفوة (2/11).
  7.  المصدر السابق (2/155).
  8. المصدر السابق (2/206).
  9. سير أعلام النبلاء (4/202).
  10.  شعب الإيمان (2/244).
نماذج من أحوال السلف الصالح

انظروا إلى أحوال السلف الصالح وهذه نماذج يسيرة لشيء من أحوالهم في غير رمضان، قال أبو مسلم الخولاني: "لو قيل: إن جهنم تسعر ما استطعت أن أزيد في عملي[1]" كل الوقت مشغول بالتعبد.

وكان يقول: "لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد"[2].

وصفوان بن سليم لو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة[3].

ومنصور كما قال عنه هشيم: لو قيل له: ملك الموت على هذا الباب، ما كان عنده زيادة في العمل، وكان يصلي من طلوع الشمس إلى أن يصلي العصر، ثم يسبح إلى المغرب[4].

وكان عبد الرحمن بن أبي أنعم البجلي لو قيل له: قد توجه إليك ملك الموت، ما كان عنده زيادة عمل[5].

وابن أبي ذئب كان يصلي الليل أجمع في غير رمضان، ويجتهد بالعبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غداً، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد[6] عالم، وفقيه، وإمام.

وحماد بن سلمة، لو قيل له: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، يقول الذهبي: كانت أوقاته معمورةً بالتعبد، والأوراد[7].

أوقات مشغولة، عرفوا الطريق، وعرفوا المعبود، وعرفوا الدار التي يريدونها، فماذا بقي إلا الجد، والتشمير، ولهذا يقول حماد بن سلمة - رحمه الله - : ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئًا، أو عائداً، أو مشيعاً لجنازة، أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله [8].

  1. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/124).
  2. المصدر السابق (2/127).
  3. سير أعلام النبلاء (5/366).
  4. المصدر السابق (5/442).
  5. المصدر السابق (5/62).
  6.  المصدر السابق (7/141).
  7. المصدر السابق (7/447).
  8.  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/28).
حال النبي ﷺ مع العبادة

وحال النبي ﷺ قبل ذلك معروف لا تخفى، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله ﷺ إذا صلى قام حتى تفطّر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟[1].

هذا المنعم المتفضل، الذي أفاض علينا ألوان الفيوض، والنعم الظاهرة، والباطنة، هدانا للإسلام، وكسانا، وآوانا، وأطعمنا، أليس هذا بجدير أن يعبد، ويطاع، وأن تسخر الجوارح، والأعضاء، والأبعاض في طاعته، والتقرب إليه؟.

وعن حذيفة قال: صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلا قريبًا مما ركع، ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبًا من قيامه[2].

من منا معاشر طلاب العلم من صلى ليلة واحدة في حياته بهذه الطريقة؟ بل لربما كان بعضنا لا يوتر الوتر، فضلاً عما زاد على ذلك.

وعن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله ﷺ الليلة فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة[3].

من منا يصلي بهذه الطريقة في رمضان، أو في غير رمضان؟.

وفي حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين صليت مع رسول الله ﷺ فأطال حتى هممت بأمر سوء، قال: قيل: وما هممتَ به؟ قال: هممت أن أجلس، وأدعه[4]

  1.  أخرجه مسلم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/2172)، رقم: (2820).
  2.  أخرجه مسلم، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (1/536)، رقم: (772).
  3.  أخرجه مسلم، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1/531)، رقم: (765).
  4. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب طول القيام في صلاة الليل (2/51)، رقم: (1135)، ومسلم، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (1/537)، رقم: (773).
حال الأئمة الكبار مع العبادة

الأئمة الكبار مع ما هم فيه من العلم، والاشتغال، وتعليم الناس، والفُتيا، والتحديث، إلا أنهم كانوا في غاية العبادة.

يقول المروذي: رأيت أبا عبد الله يقوم لورده قريباً من نصف الليل حتى يقارب السحر - في غير رمضان - ورأيته يركع فيما بين المغرب، والعشاء[1].

ويقول عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سُبُعاً، وكان ينام نومةً خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي، ويدعو[2].

العبرة في الجد، والاجتهاد، لا يشغب بعضكم على نفسه، يقول: النبي ﷺ كان لا يفعل ذلك، النبي ﷺ كان يقوم حتى تتفطر قدماه، من منا مرة في حياته قام مثل هذا القيام؟ وإذا نظرت إلى تراجم أهل العلم إلى يومنا هذا وجدت أشياء عجيبة.

الشيخ العالم من علماء القصيم محمد المنصور - رحمه الله - كان يصلي القيام ثلاث ساعات في كل ليلة أثناء العام ليس في رمضان، ثلاث ساعات، وفي يوم تأخر فلم يستيقظ إلا قبل الفجر بساعة، فلما قام قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها.

لو وُجد منا الآن من يقوم قبل الفجر بساعة يظن أنه جاء بما لم يأتِ به أحد.

حدثني أحد طلاب العلم في المدينة النبوية، يقول: قمت في ليلة من ليالي الشتاء بالخطأ، يقول: ظننت أن الأذان الأول هو أذان الفجر، فذهبت إلى المسجد النبوي، فنظرت فما وجدت الجموع التي أجدها عادةً في صلاة الفجر، لكن فيه ناس كثير، يقول: فصليت على أنها السنة الراتبة، انتظرت الإقامة، طال الانتظار، أرى الناس يصلون، ويتبعون صلاة بصلاة، ما هذه الصلاة التي يصلونها؟ يقول: ثم نظرت إلى الساعة مرة أخرى، فأدركت أني قد أتيت بعد الأذان الأول، فوقع في نفسي شيء من الندم، كان يمكن أن يستغل هذا الوقت في النوم، يقول: لكن لما نظرت وجدت العمال، وأناسًا لا يظهر عليهم سيما الاستقامة - فضلاً أن يكون هؤلاء من طلاب العلم - في غاية النشاط، والجد، هذا يصلي، هذا راكع، وهذا ساجد، وهذا رافع يديه يدعو.

هذا طالب علم، يحضِّر الدكتوراه، ويدرس للطلاب.

وكانت حال أهل العلم في السفر كحالهم في الحضر من جهة الاجتهاد، والتشمير، عن ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلي ركعتين، فإذا نزل قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر في ذلك من النشيج، والنحيب[3].

ألسنا إذا سافرنا في كثير من الأحيان نتهافت على النوم، وربما نستثقل ركعة واحدة نوتر بها؟.

الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - يقول ابنه الشيخ عبد الملك - حفظه الله - : عُرف عن الوالد قيامه لليل منذ حداثة سنه، وكان قيامه يتجاوز ثلاث ساعات، سئل هل دلك على هذا الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -؟

قال: لا، قال: قرأت كتاباً عن فضل قيام الليل، وكان عمري سبعة عشر عاماً، فما تركته، قرأ عن قيام الليل مرة واحدة فما تركه.

وذكرت زوجته أنه قام ليلة زواجه مثل الليالي الأخرى، وكان لا يترك القيام لا في السفر، ولا في الحضر، لا في الشتاء، ولا في الصيف، وكان يقرأ يصلي، وهو في السيارة في صلاة الليل.

ولعلكم سمعتم كثيراً من أخبار سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحم الله الجميع - في صلاتهم من الليل، لربما قدم الواحد منهم من سفر، وهو في غاية الإنهاك، ومن معه من المرافقين يقول: كنا نتهافت على النوم، فإذا استيقظ أحدهم وجد هذا العالم كأنه غصن شجرة يصلي، مع ضعف الأبدان، وتقدم العمر، والشبابُ، والنشاط، والقوة ربما لا تسعف صاحبها إذا كان القلب خاوياً.

وكان عمرو بن دينار يجزِّئ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا ينام، وثلثًا يدرس حديثه، وثلثًا يصلي[4].

وكذا كان الشافعي - رحمه الله - يجزئ الليل ثلاثة أجزاء، في ثلث يؤلف، وفي الثاني يصلي، وفي الثالث ينام[5].

وكان أبو عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله - يقسم الليل أثلاثاً، فيصلي في ثلث، وينام في ثلث، ويصنف الكتب في ثلث[6].

وحج سعيد بن المسيب - رحمه الله - أربعين مرة[7].

وقال ابن عباس: "ما ندمت على شيء فاتني في شبابي إلا أني لم أحج ماشياً" ولقد حج الحسن بن علي خمساً، وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه[8].

وحج طاوس بن كيسان أربعين مرة[9] وحج عطاء أكثر من سبعين مرة[10] وحج ابن وهب أيضاً ستًّا، وثلاثين مرة[11].

السنة يقسمها إلى ثلاثة أقسام: قسم في الرباط، وقسم في التعليم، وقسم في الحج، فحج ستًّا، وثلاثين مرة.

وهذا مكي بن إبراهيم الحنظلي حج خمسين مرة[12] وحج أيوب السختياني أربعين مرة[13] وقال سفيان بن عيينة: شهدت ثمانين موقفاً[14].

وغزا يونس بن عبيد السبيعي خمساً، وأربعين غزوة، وحج كذلك[15] وحج عمارة بن زادان سبعاً، وخمسين مرة، وحج أبو عمر العدني سبعاً، وسبعين مرة[16].

الآخرة دار لا تصلح للمفاليس، البضاعة المزجاة قد تروج في الدنيا، ولكنها لا تصلح للآخرة.

الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - من المعاصرين حج أكثر من خمسين حجة متواصلة، فضلاً عن السنوات التي حج فيها متفرقة، وحج مرةً فوق سيارة محملة ببراميل الزيت إلى مكة، وهو فوق البراميل، وكان - رحمه الله - إذا شرع في التلبية للعمرة، أو الحج لا يكاد أن يكلم أحداً، بل يجتهد في التلبية، والذكر، والدعاء، وفي يوم عرفة يسمع الخطبة في عرفة، ثم يبقى يدعو حتى تغرب الشمس، نسمع في الحملات هذا ينام، وهؤلاء ليس لهم شغل في وقت العشيّ إلا النداء بمكبرات الصوت، يجمعون هؤلاء، والباص الأول، والباص الثاني، والباص العاشر، والباص كذا، في أوقات الدعاء، أوقات شريفة.

سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - أخباره عجيبة حج اثنتين، وخمسين مرة، ولم يترك الحج من سنة 1372هـ إلى 1418هـ، وكان يذهب بالخامس، والعشرين من ذي القعدة إلى مكة، ويبقى هناك شهراً كاملاً، ويفتي الناس، ويلقي الدروس، والكلمات، وينجز المعاملات في أحوال، وأوضاع عجيبة، ويتوافد إليه كثيرون يطلبون الحج معه، فيحج معه رجال، ونساء كثير، وغالب هؤلاء من الفقراء، فكل من طلب صحبته، يقول: حياك الله، ولا يسأل عنه، ولا يسأل عن عدد هؤلاء، ولا عن ضيق المكان، وكان عدد الذين يحجون معه، ويرافقونه في الحج لربما يزيد على ثمانمائة إنسان، نحن لا نتحمل لربما أن يحج معنا اثنان، لا نتحمل.

وقد سمعت من مدير مكتبه في بيته الشيخ محمد الموسى - حفظه الله - يقول: في بيته في مكة يؤتى بالصحون، فيتجمع أصحاب سيارات الأجرة، ومن شابههم، يقول: يخطفون الصحون، لا يوجد لهم مكان في البيت، فيأكلون في الحديقة، يخطفون الصحون خطفاً، ولربما تجمع الناس فلا تصل يد الإنسان إلى الصحن إلا من وراء الناس، وكان عدد الذين يتناولون الطعام معه في مكة يتراوح ما بين الثلاثمائة إلى الأربعمائة، وكان عدد الصحون التي تقدم فيها المائدة في العادة في مكة يصل إلى أربعين، أو إلى خمسة، وأربعين صحناً، وقد تصل إلى الخمسين، وقالوا له مرة: الذين يريدون الحج معك كثير، والمكان لا يتسع، والسيارات لا تفي، فقال: الله المستعان، ما هي إلا ساعات، وينتهي كل شيء، اصبروا، واحتسبوا، أبشروا بالأجر الجزيل، وما يدريكم لعلنا لا نحج بعد عامنا هذا، ستتيسر الأمور، وينتهي كل شيء على ما يرام.

هل تعرفون أحداً في هذا العصر بهذه المثابة؟! ولهذا كانت له الإمامة في الدين.

وفي أحد الأيام قال له بعض من حضر عنده: إن هؤلاء لا يعرفون أدب الأكل، والجلوس، فلماذا لا تنعزل حينما تجلس على الطعام، وتجلس في مكان آخر، وتدع هؤلاء يأكلون؟ فقال: أنا الذي وضعت الطعام لهم، وهم جاءوا إليّ، وراحتي في الأكل معهم، وكان النبي ﷺ يأكل مع أصحابه، ومع الفقراء حتى مات، ولي فيه أسوة، وسوف أستمر على هذا إلى أن أموت، والذي لا يتحمل، ولا يرغب الجلوس معهم نسامحه، ويذهب إلى غيرنا.

ونحن إذا أتينا على ناس، أو جاءنا أناس، لربما يجلس السائق في الشمس، في حرها في وقت الظهيرة، يجلس الساعات لربما حتى يخرج إليه هذا الضيف بعد أذان العصر، قد نأنف من الجلوس معه، ونستنكف.

وعُرض عليه - رحمه الله - أن يكون له موكب، وأن يفك الزحام في طريقه في الحج، فأبى.

وقال: نسير مع الناس، فإذا وقفوا وقفنا، وإذا ساروا سرنا، وإذا جاء اليوم الثامن من ذي الحجة يخرج إلى منى في الساعة العاشرة صباحاً، وهو محرم، وإذا وصل إلى منى جلس في المصلى حتى يصلى الظهر، ثم يلقي كلمة، ثم يدخل خيمته، وتُقرأ عليه بعض المعاملات، وتقرأ عليه الصحف الصادرة في ذلك اليوم، ثم يتغدى، ويصلي العصر بالناس، ويلقي كلمة توجيهية يبين فيها أحكام ذلك اليوم، ثم يدخل خيمته، ويُقرأ عليه ما تيسر من المعاملات، والكتب، ثم يأخذ قسطاً من الراحة، ثم بعد ذلك يجلس للناس بعد المغرب، ويلقي كلمة، ثم توجه إليه الأسئلة، ثم بعد ذلك يذهب بعد العشاء لإلقاء محاضرات هنا، وهناك، عمل دءوب، ونحن قد نلقي محاضرة واحدة، ويصيبنا من الإعياء، والتعب، والإنهاك ما الله به عليم، لا نستطيع أن نجلس مع أحد بعد المحاضرة، ولا نتكلم مع أحد بعد الدرس.

وإن لم يكن لديه محاضرة بعد العشاء جلس في خيمته، وعرض عليه ما يعرض في كتب العلم، فيعلق، ويشرح، وتعرض عليه المعاملات، وإذا صلى بالناس الفجر في اليوم التاسع في يوم عرفة يلقي كلمة بعد الصلاة، ويبين فيها ما يشرع للحاج في هذا اليوم، ثم بعد ذلك يتوجه بعد طلوع الشمس إلى عرفة، فإذا ركب في حافلة تقاطر الناس عليها، وتهافتوا من أجل مرافقته، فإذا قيل له: المكان لا يتسع، فكان يقول: السيارات كثيرة، والحمد لله، ساعات، وتنقضي، اصبروا، وأبشروا، ثم قبل الظهر بساعة في يوم عرفة يذهب إلى الخيمة الكبيرة التي فيها المصلى، وهناك يستمع إلى خطبة عرفة عبر المذياع، ثم يصلي بالناس الظهر، والعصر جمعا، وقصراً، وبعد الصلاة يلقي كلمة بمن معه من الحجاج، وإذا جاء قبيل العصر ذهب إلى المصلى في الخيمة الكبيرة، ثم تفرغ للدعاء حتى تغرب الشمس.

وفي أيام منى تقرأ عليه المعاملات، وتقرأ عليه الصحف، ويستمع لنشرات الأخبار، وتقرأ عليه الكتب المتعددة، ويقرأ عليه كتابه في المناسك، ويصححه في كل سنة، ويقرأ عليه من المطولات كالمغني، وكذلك يلتقي بالوفود، ويجيب من دعاه لإلقاء المحاضرات في المخيمات، ويشفع لهذا، ويساعد هذا، ويأتيه خلائق من أقطار الدنيا لهم حاجات، فيسمع منهم، وينصت لهم، ولا يضجر، ويلتقي بالدعاة، ولا يكاد هاتفه يتوقف، هذا يسأل، وهذا يسلم، وهذا يستشير، وهذا يدعو، وهذا يطلب الشفاعة.

وفي أيام الحج يترأس مجلس إدارة دار الحديث، ويلتقي بالدعاة في يوم العيد، هذه أحوال يعان عليها الإنسان إذا وفقه الله

  1. سير أعلام النبلاء (11/223).
  2.  المصدر السابق (11/214).
  3. المصدر السابق (3/352).
  4.  المصدر السابق (5/302).
  5. المجموع شرح المهذب (1/12).
  6. سير أعلام النبلاء (10/497).
  7.  المصدر السابق (4/222).
  8. المصدر السابق (3/260).
  9.  المصدر السابق (5/45).
  10.  المصدر السابق (5/82).
  11.  المصدر السابق(9/226).
  12.  المصدر السابق(9/552).
  13. المصدر السابق(6/21).
  14.  المصدر السابق(8/465).
  15.  المصدر السابق(8/494).
  16.  المصدر السابق(12/97).
أحوال السلف مع القرآن

انظروا إلى حالنا مع القرآن، ومع تلاوة القرآن، اسأل نفسك في كم تختم؟ بعضنا لربما لا يقرأ القرآن إلا إذا دخل إلى المسجد قبل الصلاة، ليس له ورد، وليس له وقت يختم به، بل لربما مر العام، ولم يختم، ويأتي رمضان من أوله إلى آخره، ولا يكاد ينهي ختمة، فلنسأل أنفسنا متى نقرأ؟ هذا كتاب الله هذا أشرف كتاب، في الساعة يمكن للإنسان أن يقرأ قراءة معتدلة ثلاثة أجزاء، الجزء بثلث ساعة، وفي عشرة أيام يستطيع أن يختم الإنسان بهذه الطريقة، لو قرأ كل يوم ساعة، وفي الشهر يستطيع أن يختم ثلاث ختمات، فلو زاد ساعة أخرى لتضاعف العدد، وهكذا.

انظروا كم ينقضي من الوقت في طريقنا إلى المسجد، لو قلنا: إن الطريق إلى المسجد يستغرق ثلاث دقائق في الذهاب، وثلاث دقائق في العودة، ما الذي يحصل؟ احسب هذه الدقائق الست في خمس صلوات، في اليوم، والليلة فهذه نصف ساعة في كل يوم، تستطيع أن تختم في الشهر ختمة، ونصف ختمة في هذا الوقت اليسير، في الطريق إلى المسجد.

لو فرضنا أن الوقت قبل كل صلاة يبلغ عشرين دقيقة - المغرب عشر دقائق، أضف إليها من صلاة الفجر عشرًا - فذلك يفي بخمسة أجزاء في اليوم الواحد، إذا قرأنا قبل الصلاة في كل ستة أيام يستطيع الإنسان بهذه الطريقة أن يختم ختمة، سألت أحد العوام: كم يختم أثناء العام في غير رمضان؟ قال: يختم في كل خمس.

وآخر لا يظهر عليه سيما الصلاح إطلاقاً كان يختم في كل يومين ختمة أثناء العام، وهو من أثرى الناس، ولو سميته لعرفتموه جميعاً، لا يظهر عليه سيما الصلاح في ظاهره، يختم في كل يومين ختمة، فأين طلاب العلم؟!.

يا معاشر طلاب العلم، علمنا النبي ﷺ أن الحرف الواحد من القرآن بعشر حسنات، وعلمنا ذلك من أجل أن يحفزنا لمزيد من القراءة، والاشتغال بكتاب الله .

فعلى قول ابن مسعود  في العد، تعلمون تفاوت العد في كلمات القرآن بناء على اعتبارات معينة، على هذا القول أوصلوا كلمات القرآن إلى سبع، وسبعين ألفاً، وتسعمائة، وأربع، وثلاثين كلمة، فإذا أخذنا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بأن معنى الحرف في قوله ﷺ: لا أقول: "الم" حرف هو الكلمة، وليس حرف التهجي؛ لأنه قال "ألف" فهذه ثلاثة حروف تهجٍّ "ألف" "لام" "ميم" ما قال: الم، بل "ألف" "لام" "ميم" شيخ الإسلام يرى أن الكلمة هي الحرف، وليس حرف الهجاء، فعلى هذا القول كم يكون في قراءة القرآن من حسنة؟ الحسنة بعشر أمثالها، اضرب عدد الكلمات بعشر، لا تضرب إلى سبعمائة، فهذه سبعمائة، وتسع، وسبعون ألفاً، وثلاثمائة، وأربعون حسنة.

وإذا اعتبرنا قول أكثر أهل العلم بأن الحرف هو حرف التهجي، والحروف أيضاً إذا أخذنا قول من عدها كعاصم تعرفون أيضاً بتفاوت العد بناء على اعتبارات معينة، فعلى قول عاصم - رحمه الله - بأن حروف القرآن تبلغ ثلاثمائة، وثلاثة، وستين ألفاً، وثلاثمائة حرف، أو ما يقرب من هذا، نضرب بعشرة، كم تكون النتيجة؟ ثلاث ملايين، وستمائة، وثلاثًا، وثلاثين ألفاً من الحسنات، يعني: أكثر من ثلاث ملايين، ونصف حسنة في الختمة الواحدة، تجارة، لو قيل للناس: معاملة بعشر ساعات تقرأ ختمة تحصِّل منها هذه المبالغ، لتقاتل الناس عليها.

انظروا إلى حالنا مع كتاب الله كان وكيع بن الجراح - رحمه الله - لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم بآخر الليل، فيقرأ المفصل، ويجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر[1] هذا في غير رمضان، هذا وكيع عالم، ليس بعامي، ولا بصوفي، وليس من الخوارج؛ لأنه يوجد للأسف بعض من قد يشتغل بالعلم يقول: كثرة التعبد من علامات الخوارج، ويوجد من يقول: كثرة التعبد هذا من سمات الصوفية.

ويقول علي بن المديني - رحمه الله - : كان ورد عبد الرحمن بن مهدي كل ليلة نصف القرآن[2] ما قال: في رمضان، نحن نعرف أنه لم يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث، هذا كله معروف، لكن لهم في هذا نظر، ولا نقول: الإنسان يقرأ في يومين، ولا نقول: في ثلاث، اقرأ في سبع، اقرأ في عشر، اختم في الشهر ختمة في سائر العام.

وكان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاءت العشر ختم في كل ليلة[3].

وكان الشافعي يختم القرآن في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة[4].

وكان البخاري يتم في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة[5].

وكان الأسود النخعي - رحمه الله - يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين، وكان ينام بين المغرب، والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال[6].

من المعاصرين الشيخ محمد بن قاسم - رحمه الله - في رمضان كان يختم كل ثلاث، وفي آخر عمره كان يختم كل يوم، وقد قسم الأوقات في اليوم في كل وقت جزء، فيقول ابنه: كنا نعرف أنه في الساعة الفلانية في كل يوم يمر على هذه السورة، أو على هذا الجزء.

ويقول أحد تلامذة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - : في أول يوم في رمضان صليت معه الفجر، وسلمت عليه، يقول: فدخل في مصلى الجمعة، وبدأ يقرأ يقول: فقرأ عشرة أجزاء، وهو يمشي يذهب، ويجيء، يطرد النوم عشرة أجزاء، أول يوم، بداية صحيحة، فمعنى ذلك أنه يختم بكل ثلاثة أيام، عالم مشغول، هاتفه لا يتوقف، وأعمال، وأسرة، وبرامج كثيرة جدًّا، إذا نظرت إليها تقول: كيف يستطيع أن يحصيها؟ تعجبت حينما قرأت في ترجمته.

في صلاة التراويح، كم نقرأ؟ كثير من المساجد يقرؤون نصف وجه في الركعة، معنى ذلك أنه في نهاية العشر الأولى من رمضان يصل إلى الآية رقم "252" من سورة "البقرة" والله إن الإنسان يستحي من الله، في العشر الثانية يصل إلى آية "23" من سورة "النساء" عشرين ليلة من رمضان، صلاة التراويح، يزيد في العشر الأواخر، فيقرأ وجهاً في كل ركعة، فيصل في نهاية الشهر إلى الآية "87" من سورة "الأعراف" يعني لا زال في الثلث الأول من القرآن، هذا واقع لا نحسد عليه.

يقول أبو الدرداء : لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحت قال بعضهم: لقد خففت بنا الليلة[7].

وكان أبو رجاء العطاردي - رحمه الله - يختم في رمضان في كل عشرة أيام ختمة في صلاة التراويح[8]

  1. المصدر السابق (9/148).
  2. المصدر السابق (9/203).
  3. لطائف المعارف لابن رجب (ص: 171).
  4.  سير أعلام النبلاء (10/36).
  5. المصدر السابق (12/439).
  6. المصدر السابق (4/51).
  7. الفتوحات الربانية لابن علان (3/230)
  8. صفة الصفوة (2/131).
كان ﷺ إذ دخل العشر أحيا الليل

تعرفون الحديث المخرج في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - : كان رسول الله ﷺ إذ دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشد المئزر[1].

ونحن ما تزدهر عندنا الأسواق إلا في رمضان، ولا تكثر في بيوتنا أنواع الأكل، والمطعومات في شهر كما هو في رمضان.

من المعاصرين الشيخ محمد بن قاسم، في صلاة التراويح، كان إذا صلى الإمام التراويح، وصلى معه في العشر الأواخر، جلس يصلي إلى القيام، يقف يصلي من بعد التراويح إلى صلاة القيام، من منا يفعل هذا؟.

كان يصوم رمضان في مكة، ويفطِّر الناس حتى بلغ في السنوات الأخيرة عدد من يفطرهم ما يزيد، أو ما يقرب من خمسمائة صائم، وكان يقرأ القرآن، ويراجع من حفظه، ويوزع التمر من بعد صلاة الظهر في الصحون، وفي العشر الأواخر يقول ابنه: ما كنا نرى له وقتًا ينام فيه من كثرة طوافه بالبيت، وقراءته للقرآن، وصلاته، ولربما نام نومة خفيفة، وهو جالس متكئاً، ولا نعرف له فراشاً، ونوماً معتاداً، في العشر الأواخر من رمضان كم ننام نحن؟ رمضان فرصة للتغيير، تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة...[2] وفي رواية: فتحت أبواب الرحمة[3].

وهذا لا شك يؤثر في النفوس، فيحصل لها من الإقبال ما لا يحصل في غيره.

وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين وفي رواية: وتغلُ فيه مردة الشياطين[4].

وفي رواية: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة[5].

ثم أيضاً معلوم أنه إذا جاع البطن شبعت الجوارح، لكن هل نفعل؟ لا يمكن أن يجد الإنسان الرقة، والخشوع مع الشبع. 

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (2/832)، رقم: (1174).
  2. خرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (4/123)، رقم: (3277)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (2/758)، رقم: (1079).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (2/758)، رقم: (1079).
  4.  أخرجه النسائي، كتاب الصيام، (4/129)، رقم: (2106).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان (3/57)، رقم: (682). 
الاستعداد لدخول شهر رمضان

ولذلك نقول: ينبغي للإنسان أن يتهيأ لرمضان، ماذا أعددت له؟ كم ستختم من ختمة؟ وكم ستصلي من الليل؟ وكم ستصلي من النوافل؟ وكم ستفطِّر من الصائمين؟ موسم من مواسم العبادة، أما أن يبقى الإنسان أمام برنامج مفتوح الله أعلم ماذا سيحصل فيه، ليس في ذهنه أي عمل يريد أن يقدم عليه فإن رمضان ينقضي كما انقضى في السنوات الماضية، وتتصرّم أيامه، ولياليه كلمح البصر، وإذا بالناس يدعون اللهم اختم لنا رمضان برضوانك

ثم بعد ذلك يفيق، ويتذكر، ثم بعد ذلك ينتهي رمضان، ويأتي العيد، ثم تعود القسوة من جديد، إذا أردت حضور القلب فعليك بمعرفة حقيقة الصيام، وذلك بالتقلل من الطعام، والشراب، فإن الفضول منه يقسي القلب، ويفسده، ويورث رخاوةً في البدن، وضعفاً، وخمولاً، وخثورة، فيبحث الإنسان عن الفراش، يطلب النوم، فينام، ولربما يجمع الصلوات، وهو في غاية الكسل، لا يكاد يصل إلى المسجد، رمضان شهر الطاعة، شهر العبادة.

كثير من الناس لربما في هذه الأيام يريدون أن يذهبوا إلى الأسواق، فيشتروا ما يحتاجون إليه، ويزورون بعض الأقارب؛ لأنهم في زعمهم لا يرونهم في رمضان، ينشغلون، وما تجدّ، وتنشط الزيارات في شهر كرمضان، وما تنشط الأسواق في شهر كما تنشط في رمضان، لماذا؟ هل هذه حكمة الصوم؟!.

فماذا أعددنا له؟ التقلل، جرب، ولو لبعض الأيام، تقلل من الطعام، والشراب، أفطر على شيءٍ قليل حتى تصلي التراويح، ثم انظر كيف يكون حضور القلب.

اجعل لنفسك برنامجاً مع كتاب الله ابدأ بكتاب من كتب الغريب، إن كنت لم تقرأ شئياً في هذا، من الكتب المختصرة في "غريب القرآن" وكل كلمة يكون فيها شيء من الإشكال ارجع إلى الكتاب، واضبط المعنى فإذا جاء نهاية الشهر، وإذا بك قد عرفت معاني غريب القرآن، وفي سنة أخرى تقرأ مختصراً في التفسير كـ"التفسير الميسر" طبع المجمع، وفي سنةٍ أخرى تقرأ كتابًا آخر من المختصرات.

في عشر سنوات تقرأ عشرة كتب، اقرأ قبل الصلاة، ثم استمع لقراءة الإمام، وانظر إلى الفرق، القرآن كتاب عزيز، لا يمكن أن تنفتح كنوزه، ومعانيه للقلوب البطالة المعرضة عنه المشتغلة بالحطام، واللهو من الدنيا وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41]، فمن عزته أن لا يبقى في هذه القلوب الفارغة المعطلة عن ذكر الله أو الملطخة بالأدناس، والأرجاس.

كما قال النبي ﷺ: إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا صورة[1] وكما نقل شيخ الإسلام عن بعضهم قال: كذلك القلوب إذا كانت تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة[2].

وهكذا البيئة المحيطة تعين الإنسان على الطاعة، قد يريد الإنسان أن يخرج، ويتوجه إلى باب المسجد بعد صلاة العصر مثلاً، فإذا نظر إلى الناس الصغار، والكبار قد عكفوا على العبادة، والطاعة ندم، وتراجع، وشعر بالتقصير، ويشعر بالغبن، وكما قيل: الناس كأسراب القطا جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض.

فإذا رأى الإنسان أعوانه، ورأى الناس يملؤون المساجد بالعبادة، والطاعة فإن النفس تقوى، وتنشط، فهي فرصة، الأمور من حولنا تعيننا.

أضف إلى ذلك ما يحصل مع الصيام من فطام النفس عن مألوفاتها، وشهواتها شهراً كاملاً يكفي تماماً بتدريبها على الصيام في سائر العام، فاجعل لنفسك عملاً صالحاً تلقى به الله بعد رمضان، اعزم، كنت لا تصوم الإثنين، والخميس، ولا تصوم الأيام البيض، صم الأيام البيض، وفي سنةٍ أخرى صم الإثنين، والخميس، والسنة التي بعدها صم شعبان، والمحرم، إلا أياماً من شعبان، مع عشر من ذي الحجة.

والذي يضعِّف حديث الأيام البيض عنده مندوحة يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، والحسنة بعشر أمثالها، فكم نضيع على أنفسنا!.

وينبغي أن تتعرف على النفس، ومداخلها، وما يأتيك الشيطان منه، الأبواب التي يصل إلينا الشيطان منها ما هي؟ تغلق؛ من أجل المزيد من العمل.

في شهر رمضان تختم كثيراً، وبعد رمضان تسير على طريقةٍ تطيقها بحسب حالك، وعملك، ثم في السنة القادمة تزيد ختمة، ثم في التي بعدها تزيد ختمة، ما تمر عليك عشر سنوات - بإذن الله - إلا وأنت من المشتغلين بكتاب الله  ومن المشتغلين بالصيام.

وهكذا في صلاة الليل توتر بثلاث، وفي سنةٍ توتر بخمس، وفي سنةٍ تصلي سبعاً، وفي سنةٍ تصلي تسعاً، ثم بعد سنوات قليلة تجد أنك تصلي ثلاث عشرة ركعة في كل ليلة، كل سنة زد ركعتين، تلطف بهذه النفس، واطلب الطرق، والوسائل التي تستطيع أن تروضها عن طريقها.

وابدأ أولاً بالفرائض، عود نفسك، إذا قال المؤذن: "الله أكبر" ضع ما بيدك، لا تقل: أبحث، أراجع المسألة، طلب العلم أفضل، لا، هذه فرائض، فإذا نادى المنادي لا يوجد عمل أفضل من الصلاة.

هذا، وأسأل الله أن يبارك لنا، ولكم فيما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا، لا حجة علينا، وأشكركم على حرصكم، وحسن إنصاتكم، وأشكر الإخوان الذين رتبوا لهذا اللقاء، وأعتذر إليكم أيضاً من التحدث في هذا الموضوع بين أيديكم ما كان لمثلي أن يتحدث، وأيضاً ما كان لمثلي أن يتحدث في بلد تزخر بالعلماء، وطلاب العلم، ولطالما اعتذرت من مثل هذا الموقف، ولكن أراد الله أمراً فكان.

أسأل الله أن يرحم موتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المستضعفين، وصلى الله، وسلم على سيدنا محمد، وآله. 

  1. أخرجه ابن ماجه، كتاب اللباس، باب الصور في البيت (2/1203)، رقم: (3650).
  2.  مجموع الفتاوى (5/552).

مواد ذات صلة