الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
كان أجود الناس
تاريخ النشر: ٢٨ / شعبان / ١٤٢٣
التحميل: 22867
مرات الإستماع: 17260

حقيقة الجود

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فحديثنا عن موضوعٍ شريفٍ كريمٍ من الصفات التي تحلى بها رسول الله ﷺ وهو حليةٌ لأهل الإيمان، حديثنا في هذه الليلة عن موضوع الجود.
ولما كان في هذه الليلة قُرب رمضان، ونحن نتطلع لاستقباله، فإن الحديث عن الجود يحسن في هذا الوقت أكثر مما يحسن في غيره، وذلك أن الجود له تعلقٌ بهذا الشهر أكثر من تعلقه في غيره من الأوقات.
وحديثنا عن الجود سيكون عن أمورٍ عدة:
أولها: عن حقيقة الجود.
وثانيها: عن الفرق بينه، وبين الإسراف.
والثالث: عن وجه الشبه بين جود النبي ﷺ وبين الريح المرسلة.
والرابع: هو حديثٌ عن مراتب الجود.
والخامس: نتحدث فيه عن أنواع الجود.
وأما السادس: فهو بيانُ الطريق الموصلة إلى هذه الخصلة الكريمة.
وأما السابع: فهو عن آثار الجود.

أما حقيقة الجود:
فهو التسمح بكثرة العطاء، وبذل المقتنيات علماً كانت، أو مالاً، أو غير ذلك من المنافع، وحقيقته: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهو صفةٌ يستفاد بها الخير، والنفع للغير من غير عوض، والجواد هو الذي يعطي بلا مسألة صيانةً للآخذ من ذل السؤال، وقد قيل:

وما الجود من يعطي إذا ما سألته

ولكن من يعطي بغير سؤالِ

وسأل معاوية صعصعة بن صوحان ما الجود؟ فقال: التبرع بالمال، والعطية قبل السؤال.
وقد بين حقيقته الحسن البصري - رحمه الله - فقال: هو بذل المجهود في بذل الموجود، وهذا منتهى الجود.
والكرم إن كان بمالٍ فهو جود، وإن كان بكفِّ ضررٍ مع القدرة فهو عفو، وإن كان ببذلِ النفس فهو شجاعة. 

فالفرق بين الجود والإسراف

وأما ثانياً: فالفرق بين الجود والإسراف:
والقول في ذلك القول في التفريق بينهما هو: أن الجود هو بذل النفع من المال، وغيره للخلق، وأما الإسراف فهو إضاعة المال فيما حرم الله  ولو كان ذلك المدفوع، أو المبذول قليلاً، وهكذا، أيضاً: هو إضاعته، وصرفه في غير وجه حقٍ شرعي. 

جه الشبه بين جود النبي ﷺ وبين الريح المرسلة

وأما ثالثاً: فهو وجه الشبه بين جود النبي ﷺ وبين الريح المرسلة:
نحن نعلم أن رسول الله ﷺ كان أجود الناس، وقد قالت له خديجة - رضي الله تعالى عنها - لما جاء مذعوراً حينما رأى الملك عند أول، وهلةٍ نزل عليه بها، فقالت: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق"، يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - معلقاً على قولها - رضي الله تعالى عنها -: "وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، أو إلى الأجانب، وإما بالبدل، وإما بالمال، وإما على من يستقل بأمره، أو من لا يستقل، وذلك كله مجموعٍ فيما وصفته به، فهي تقول: "إنك لتصل الرحم - فهذا إعطاء للقريب - وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف"، فهو يحسن بالمال، ويحسن بغير المال ببدنه، وبغير ذلك من المنافع.
يعطي لمن يستقلون بأمرهم، ويستطيعون القيام بشؤونهم، ويعطي أيضاً من قعدوا، وعجزوا عن القيام بشؤونهم، ومصالحهم، وجاء في رواية عند أحمد في صفةِ النبي ﷺ أنه كان لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، وجاء في الصحيح من حديث جابر : "ما سئل رسول الله ﷺ شيئاً فقال: لا"

ما قال: (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ

- عليه الصلاة، والسلام - فهذا البيت، وإن قيل في غيره، ولكن رسول الله ﷺ هو أحقُ الناس بهذه الصفة.
وعن جبير بن مطعم أنه قال: "بينما أنا أسير مع رسول الله ﷺ ومعه الناس نقفله من حنين، فعلقت الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي ﷺ فقال: 
أعطوني ردائي، لو كان عدد هذه العضات نَعَمَاً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً.
وجاء في الصحيح من حديث أنس قال: "كان رسول الله ﷺ أشجع الناس، وأجود الناس"، وجاء من حديث ابن عباس، وهو محل الشاهد: "كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة".
يقول الحافظ معلقاً على هذا الحديث عند قوله: "فيدارسه القرآن" يقول: "قيل: الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس" والغنى سبب الجود، وهو أعم من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي ﷺ يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبمجموع ما ذُكر من الوقت، والمنزول به، والنازل، والمذاكرة حصل المزيد في الجود.
والريح المرسلة: هي الريح المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه، فينزل الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة، وغير الميتة، أي فيعمُّ خيره، وبره من هو بصفة الفقر، والحاجة، ومن هو بصفة الغنى، والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئ عن الريح المرسلة، هكذا كان رسول الله ﷺ فكان نفعه، وخيره عميماً.
وقد قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - وكان من أجواد الناس - لما سمع قول الشاعر: 

إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يصار بها طريق المصنعِ

يعني أن العطاء إن لم يكن إلى من يستحق العطاء فإنه لا يعد من صنائع المعروف، فقال: "أراد هذا أن يبخل الناس" فعبد الله بن جعفر يريد أن العطاء يبذل للناس فيقع في أيديهم، فإن كان محتاجاً فيكفى الحاجة، وإن كان غير محتاج فـفي كل كبدٍ رطبة أجر[1]. 

  1. أخرجه البخاري في كتاب المساقاة باب: فضل سقي الماء (ج 8 / ص 182) (2190)، ومسلم في كتاب السلام باب: فضل سقي البهائم المحترمة، وإطعامها
    (ج 11 / ص 304) ( 4162)

 

بيان مراتب الجود

وأما رابعاً: فبيان مراتب الجود:
الجود ليس على مرتبةٍ واحدة، بل هو على مراتب كغيره من أمور الكمالات، كالإيمان، والإحسان، والصبر، والتوكل، وما إلى ذلك، فهذه الخصال ليست على مرتبةٍ واحدة، وإنما هي على مراتب متفاوتة، فأعلى مراتب الجود أن يُعطى قبل السؤال مع ملاحظة المعطي لمنةِ الله عليه، وإحسانه، وتوفيقه إياه للبذل، وأنه منع غيره من هذا الخير، كما أنه منع غيره من هذا الإفضال، والإحسان، والإعطاء، والجود، فهذه ينبغي أن تقوم في قلب العبد مع سروره بهذا العطاء، وفرحه به إضافةً إلى كونه لا يحرج هذا السائل، وهذا المحتاج.

ترى البخل مرَّاً والعطاء كأنما تلذُّ به عذباً من الماء بارداً

يقول جابر بن عبد الله : "صحبتُ طلحة فما رأيت أعطى لجزيلِ مالٍ من غير مسألة منه" ويقول يوسف بن أسباط: "إذا أوليتك معروفاً كنت أسر به منك" فهذا يعطي، وهو أفرح بإعطائه من هذا المعطى لهذا العطاء، فهذا هو الجود، والإفضال الكامل.

تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتقِ الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروفُ، والجود ساحله

جاء رجلٌ إلى صاحب له، فدق عليه بابه، فقال: ما جاء بك في هذه الساعة؟ فقال: عليّ أربعمائة درهم هي دينٌ، فوزن له الأربعمائة، وأخرجها إليه، ودخل بيته يبكي، فرأته امرأته فقالت: لمَ أعطيته إذ شق عليك العطاء؟ ظنت أنه يبكي متحسراً لأنه دفع إليه هذه الأربعمائة، فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي، أبكي لأني اضطررته إلى أن يسأل.
ويقول عبد العزيز بن مروان، وهو والد الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، فيده عندي أعظم من يدي عنده، وأنشد لابن عباس - رضي الله عنهما - هذه الأبيات.

إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى وأعمل فكر الليل والليلُ عاكرُ

 

وذاكرني في حاجة لم يكن لها سواي ولا من نكبة الدهر ناصرُ
فرجت بمالي همه عن خناقه وزاوله الهم الطروق المساورُ
وكان له فضلٌ علي بظنه بي الخير أن للذي ظن شاكرُ

يقول: أنا أشكره على حسن ظنه بي، وعلى أنه جاء فتسبب لي أن أحسن إليه، وأن أتصدق عليه.
وهذا سعيد بن العاص يوصي ابنه يقول: يا بني أخزى الله المعروف إذ لم يكن ابتداءً من مسألة، فإما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك خاطراً لا يدري أتعطيه، أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته بذلك.
يقول: إذا جاءك الرجل، ووجهه يتمعر لا يدري هل يُهان، أو يعطى؟ هل يصرف، أو يبذل له؟ واضطررته إلى المسألة فهذا لو أعطيته كل ما تملك فإنك لا يمكن أن تكون مكافئاً له.
وكان عامر بن عبد الله بن الزبير يتخير العُبّاد، وهم سجود، فيأتيهم بالصرة - يأتي إلى الرجل العباد الفقير بصرة المال - فيضع هذه الصرة عند نعليه، وهو يصلي، ونعلاه بجانبه، ثم ينصرف، فسئل عن ذلك لماذا تفعل ذلك؟ لماذا لا ترسل بها إليهم؟ فقال: أكره أن يتعمر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي، أو لقيني.
وأما علي بن الحسين زين العابدين فكان يحمل الجراب على ظهره بالليل، وما يترك أحداً من خادمٍ، أو غيره ليعينه على هذا الحمل، فيتصدق به، ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب  ولما مات وجد آثارٌ في ظهره عند تغسيله من سواد في جلده، فكان ذلك من أثر حمل هذه الأمور الثقيلة التي كان يوصلها إلى الفقراء، فما كان يوصلها إليهم بطرق أبوابهم لينظروا إلى وجهه، وينظر إلى وجوههم؛ لأنه لا يريد أن يحرجهم بذلك، كما أنه أيضاً لا يريد أن يُعرف أنه الذي تصدق بهذه الصدقة.
هذه أعلى مراتب الجود أن تبذل الخير، والمال، والنفع، ولا يدرى من أين جاء؟ ولا تُحْوج هذا الإنسان المحتاج إلى أن يأتي إليك، ويتذلل إليك، ويذهب ماء وجهه.
وأما المرتبة الثانية: فهي أن تعطي السائل لكن من غير مَنٍ، ولا أذى، إذا سألك أعطيته بالمعروف، كما قال الله
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة:262] ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة:264].
وأما أسوأ المراتب، وأحط المراتب، وليس ذلك من الجود البتة، فهو الذي يعطي الناس، ثم بعد ذلك يشغلهم بهذا العطاء الذي أعطاهم، فيذكرهم به تصريحاً، أو تلميحاً، ويمتن عليهم، ولربما أساء الأدب، والخلق معهم في حال العطاء، وأغلظ عليهم، أو قطب في وجوههم فرأوا الكراهة في وجهه، فهذا السائل لا يحتاج إلى أن ينهر؛ لأن مذلة المسألة تكفيه، والله يقول: 
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10] فإن هذا السائل يأتي بذلِّ المسألة، فإذا زدته على ذلك بأن زجرته فإن ذلك يكون ذلاً مضاعفاً واقعاً عليه 

أنواع الجود

وأما خامساً: فأنواع الجود:
وهي أنواعٌ كثيرة، كثيرٌ من الناس يظنون أن الجود إنما هو بالمال، ولا شك أن الجود بالمال هو من أنفع أنواع الجود، ومن أشهرها، ولكن الجود أوسع من ذلك، وأعم.
فأول أنواع الجود الجود بالنفس، وهو أعظم أنواع الجود:

يجود بالنفس إذ ظن البخيل به والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ

وكان النبي ﷺ يتمنى أن يقتل في سبيل الله، ثم يحيا، ثم يقتل، ثم يحيا، ثم يقتل، ويقول عبد الله بن حذافة السهمي  حينما غلي له الزيت عند ملك الروم، وطالبوه بأن يرتد عن دينه، فلما رأى الزيت المغلي بكى، فظنوا أنه رقَّ، وأنه هاب الموت، فقال: وددتُ أن لي مائة نفس، أي أنه يبذل هذه النفوس في سبيل الله .
وأفضل الشهداء كما هو معلوم حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قام إلى ذي سلطان جائر فأمره، ونهاه، فقتله.
ونحن نعلم أن علي بن أبي طالب في ليلة الهجرة عمد إلى فراش النبي ﷺ فبات فيه، وهذه لا شك أنها تضحية بالنفس؛ لأن هؤلاء قد اجتمعوا على بيت رسول الله ﷺ يريدون قتله، فلربما اقتحموه في أي ساعة في تلك الليلة، وهم لا يشكون أن الذي بات في فراشه أنه رسول الله ﷺ ففدى رسول الله ﷺ بنفسه.
وهكذا وقع لبعض أصحاب النبي ﷺ يوم أحد لما هزم المسلمون، وكسروا في أرض المعركة، فجاء الواحد منهم يحمي رسول الله ﷺ بجسده، وقد أصيب بعضهم بسهمٍ في كفه فشلت، وكان يطلب من النبي ﷺ أن لا يتطاول للنظر عند الرمي مخافة أن يصيبه شيءٌ من العدو، ويقول له: "نحري دون نحرك يا رسول الله".
وترس أبو دجانة على النبي ﷺ بنفسه، فكان النبل يقع في ظهره، وهو منحنٍ على رسول الله ﷺ حتى كثر النبل فيه.
ومن الجود بالنفس ما فعله أحمد بن نصر الخزاعي الإمام الكبير الشهير المعروف، وذلك في قصته مع الواثق في قضية محنة القول بخلق القرآن، فلما سأله الواثق عن ذلك؟ قال له: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال له: ما تقول في الرؤية؟ قال: يراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة، ودعا الواثق بالصمصامة، وقام، وقال: أحتسب خطاي إلى هذا الكافر فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل، وهو مقيد، ونصب رأسه بالجانب الشرقي من بغداد، وتتبع أصحابه فسجنوا، وبقي الرأس منصوباً بسامراء معزولاً عن الجسد الذي كان في ناحية أخرى بقي ست سنين، إلى أن أُنزل بعد ذلك، قال عنه الإمام أحمد - رحمه الله -: "رحمه الله لقد جاد بنفسه".
وهكذا ما فعله سعيد بن جبير في قصته الشهيرة مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وهكذا ما فعله الإمام أحمد حينما ثبت ذلك الثبات العظيم أمام المأمون، والمعتصم، والواثق، كلُّ ذلك يحاولونه أن يقول قولاً له فيه مخرج، وكان يأبى، وصارم في ذلك أشد المصارمة حتى صار بعده بحقٍ هو إمام أهل السنة، والجماعة.
ومما يُذكر أيضاً، وهو من عجيب ما يُذكر في بذل النفس، والجود بها، ما ذكر في أخبار مصر في بعض القرون السالفة أنه لما احترق أحد المساجد فيها، ظن المسلمون أن النصارى هم الذين أحرقوه، فعمدوا إلى خانٍ للنصارى فأحرقوه، فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخان، وكتب رقاعاً فيها القتل، وفيها القطع، وفيها الجلد، ثم لم يبين شيئاً منها لهؤلاء الناس، وأمر كل واحدٍ أن يأخذ رقعةً من هذه الرقاع، فوقعت رقعةٌ بها القتل في يد رجل، فقال: والله ما أبالي بالقتل لولا أمٍ لي، وكان بجانبه بعض الفتيان فقال: في رقعة الجلد، وليس لي أم فادفع إلي رقعتك، وخذ رقعتي، فتبادلا فقُتل ذاك، وجُلد هذا، وهذا من أعجب ما يكون من بذل النفوس.
وأما الجود بالمال فحديثٌ ذو شجون، وأخبار الأجواد في ذلك كثيرة، وقد تواترت النصوص في الحث عليه، والترغيب فيه، والله يقول: 
مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] ويقول مرغباً فيه: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] وكان النبي ﷺ يعمق هذا المفهوم في نفوس أصحابه عملياً، وكان يضرب لهم الأمثال في ذلك.
وقد سألهم مرةً عن أحب المالين إلى الإنسان هل هو المال الذي بيده، أو مال وارثه؟ ثم أوضح لهم أنه ليس للإنسان إلا ما أنفق، وقدم.
وقال عن الشاة كما في الحديث المعروف في حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها -: "بقيت إلا كتفها" حيث أنهم تصدقوا بها جميعاً كما سيأتي، وأبقوا الكتف، فقال النبي ﷺ 
بقي كلها غير كتفها[1].
وفي الحديث المشهور: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً[2] وهي خصلة كريمة كانت موجودة في العرب قبل الإسلام، وأكدها الإسلام، واستمر المؤمنون عليها.
وكان بعض السلف يقول: "إني لأستحي من الله أن أساله الجنة لأخٍ من إخواني، وأقول له: إني أحبك في الله، ثم أمنعه شيئاً من الدنيا"، وكان بعضهم لربما اغتمَّ من طروء المال عليه حتى يفرقه كما سيأتي.
وكان النبي ﷺ يتجهز لغزوة تبوك، فخرج واثلة بن الأسقع  ولم يكن معه شيءٌ يحمله إلى تبوك، فخرج إلى سوق بني قينقاع، فقال: من يحملني، وله سهمي، يعني من الغنيمة، يقول: فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبةً بالليل، وعقبة بالنهار، يعني لك مرة، ولي مرة، ويدك أسوة يدي، وسهمك لي، قال واثلة: نعم قبلت، قال واثلة: جزاه الله خيراً لقد كان يحملني، ويزيدني، وآكل معه، ويدفع لي، حتى إذا بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى أكيبر بن عبد الملك بدومة الجندل، خرج كعبٌ في جيش خالد، وخرجتُ معه، فأصبنا فيئاً كثيراً، فقسمه خالد بيننا، فأصابني ست قلائص، يعني من النوق، من الإبل، يقول: فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن حجرة فقلتُ: اخرج - رحمك الله - فانظر إلى قلائصك فاقبضها، فخرج، وهو يتبسم، ويقول: بارك الله لك فيها، ما حملتك، وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً.
وكان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف وهو من أغنياء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فكان يقرض ثلثاً، ويقضي ديون الثلث، ويصل بالعطية ثلثاً آخر.
وكان للزبير بن العوام ألف مملوك، يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة، ثم يقوم إلى منزله، وليس معه منه شيء.
وهذا عمر بن الخطاب سمع النبي ﷺ يوماً يدعو إلى الصدقة يقول: فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، يقول: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ﷺ ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر  بكل ما عنده، فقال له رسول الله ﷺ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله، ورسوله، قلتُ: لا أسابقك إلى شيء أبداًَ.
وأما ابن عمر فله أخبار عجيبة مع الجود، باعَ أرضاً له بمائتي ناقة في مكة، فحمل بمائة منها في سبيل الله  واشترط على أصحابها أن لا يبيعوا شيئاً منها حتى يجاوزوا وادي القرى.
وأتي في مجلسٍ ببضعةٍ، وعشرين ألف دينار، فما قام حتى فرقها، وكان يفرق في المجلس الواحد ثلاثين ألفاً من الدنانير، ثم يأتي عليه شهرٌ كامل ما يأكل فيه مزعةَ لحم.
وبعث معاوية إليه مرةً بمائة ألف، وهو مالٌ كثيرٌ جداً، فما حال عليه الحول، وعنده منه شيء.
وخرج عبد الله بن دينار إلى ابن عمر إلى مكة، يقول: فعرسنا في الطريق، فانحدر علينا راعي غنم من جبل، فقال له ابن عمر: أراعٍ أنت؟ فقال: نعم، فقال: بعنا شاةً، فقال: إني مملوك، قال: قل لسيدك أكلها الذئب، فقال: فأين الله؟ قال ابن عمر: فأين الله؟ ثم بكى، ثم اشتراه بعد ذلك، واشترى الغنم، فأعتقه، فوهبها له.
وكاتب غلاماً له بأربعين ألفاً، فخرج هذا الرقيق ليبحث عن كسبٍ ليوفي لابن عمر السداد، ليوفي له هذا المال ليكون حراً بعد ذلك، فخرج إلى الكوفة فكان يعمل على حُمرٍ له، يكري الحمير، حتى أدى خمسة عشر ألفاً من الأربعين، فجاءه رجلٌ، فقال: أمجنون أنت؟ أنت هاهنا في الكوفة تعذب نفسك، وابن عمر يشتري الرقيق يميناً، وشمالاً، ثم يعتقهم، ارجع إليه فقل عجزت عن الأداء ، فجاء الرجل إليه بصحيفته، فقال: يا أبا عبد الرحمن قد عجزت، وهذه صحيفتي فامحها، فقال: لا؟ ولكن امحها أنت إن شئت، فمحاها ففاضت عينا عبد الله بن عمر بالدموع، وقال: اذهب فأنت حرٌ لله، فقال: أصلحك الله أحسن إلى ابني - له ابنان - أحسن إلى ابني - يعني بالعتق - قال: هما حران، قال: أصلحك الله أحسن إلى أمي ولدي، قال: هما حرتان.
ويقول مبيناً لهذا الدافع الذي دفعه إلى هذا البذل الكثير، يقول: خطرت هذه الآية ببالي: 
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] يقول: ففكرت فيما أعطاني الله فما وجدت شيئاً أحب إليَّ من جاريتي رُميثة، فقلت: هي حرةٌ لوجه الله.
وكان إذا أعجب بشيء من ماله إعجاباً شديداً قربه لله .
ركب عشية على بعير، وكان من خيار الإبل فأعجبه، لما أعجبه، وقف في مكانه، ثم نزل منه، وقال لمولاه نافع: سيره مع البدن، يعني قدمه للبيت مع البدن التي تنحر تقرباً إلى الله قال: يا نافع انزعوا زمامه، ورحله، وجللوه، وأشعروه، وأدخلوه في البدن.
وهذا معنىً ينبغي للمؤمن أن يقف عنده، هل سألت نفسك، أو هل حاسبت نفسك، أو هل نظرت في حالك فيما تنفق في سبيل الله هل فكرت في هذه الآية: 
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] هل تأملتها، ثم أخرجت في يومٍ واحد من دهرك شيئاً يعجبك، وتحبه من هذا المال؟ هل فعلت ذلك قط؟ إن كنت لم تفعل فلتفعل؛ لأننا نرجو ما يرجون، ونؤمل ما يؤملون، ونخاف ما يخافون.
قيل للحسن بن علي : من الجواد؟ قال: الذي لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك حقوقاً، لا يستكثرون العطاء، وإن كان كثيراً، ولهذا كان الحسن يعطي الرجل الواحد مائة ألف دينار.
وكان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصفة من فقراء المهاجرين بمسجد رسول الله ﷺ يرجع بثمانين في كل ليلة إلى أهله يشبعهم من الطعام، والشراب.
وكان ابنه قيس جواداً كريماً له عجائب، وغرائب في الكرم، والجود، كان يطعم الناس في أسفاره مع رسول الله ﷺ وكان إذا نفذ ما معه تدين، واقترض، وكان ينادي في كل يوم: هلموا إلى اللحم، والثريد.
وكان ابن سيرين يقول: كان سعدٌ ينادي على أُطمة: من أحب شحماً، ولحماً فليأتي، ثم أدركت ابنه مثل ذلك، ومن يشابه أبه فما ظلم.

بأبه اقتدى عديٌ في الكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم

ولهذا يقول الذهبي - رحمه الله - في السير: "وجود قيس يضرب به المثل، وقفت عليه عجوز، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان" هي تعرض بالحاجة، والجرذان إنما تكون في حال وجود الطعام، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان في بيتي، فقال: ما أحسن هذه الكفاية، املؤوا بيتها خبزاً، ولحماً، وسمناً، وتمراً.
ومرض مرةً فاستبطأ إخوانه، فلم يعودوه، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الديون، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي بالمدينة من كان عليه لقيس بن سعد حقٌ فهو منه برئ، فانكسرت عتبته بالعشي لكثرة زواره، وعواده.
وقد قيل له مرةً: هل رأيتَ أحداً هو أسخى منك؟ فقال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان، فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم - يعني كلوا منها ما شئتم - فلما كان الغد جاء بأخرى، ونحرها، وقال: شأنكم، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة، لم نأكل منها إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم الضيفان البائت، فأقمنا عنده أياماً، والسماء تمطر، وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل، وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا منه، وخرجنا، فلما متع النهار - يعني ارتفع - وإذا برجلٍ يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام، أعطيتموني ثمن القِرى، ثم لحقنا، وقال: لتأخذونها، أو أطعنكم برمحي هذا، يقول: فأخذناها، وانصرفنا، قيس بن سعد بن عبادة يقول: هذا الرجل الأعرابي أكرم مني.
وهذه قضية تنفع المؤمن، وهو أنه لربما عمل الكثير في بابٍ من أبواب الخير، ولم يعدم أحداً يفعل فعله، وأعظم من فعله، ولربما مع الحاجة.
وأما مَن بعد الصحابة فكانت أخبارهم أيضاً عجيبة في هذا الباب، فهذا الربيع بن خثيم من التابعين أصابه الفالج، وهو الشلل، فطال وجعه، فاشتهى لحم دجاج، فكفَّ نفسه لا يريد أن يسأل امرأته، وهي امرأته، لم يرد سؤالها، فكف نفسه، ومنعها عن شهوته لهذا الطعام أربعين يوماً، ثم حكى لها بعد ذلك، فاشترت دجاجةً بدرهم، ودانقين فشوتها، وخبزت خبزاً، وجعلت له أصباغاً كالحلوى، يعني الحلى مع الطعام، ثم جاءت بالخوان، وهو ما يوضع عليه الطعام، فلما ذهب ليأكل، وقف سائلٌ بالباب، فقال: تصدقوا عليه، فكف الربيع بن خثيم عن الأكل، وقال: خذي هذا فادفعيه إليه، قالت: فأنا أصنع ما هو أحب إليه، قال: وما هو؟ قالت: نعطيه ثمن هذا، وتأكل أنت شهوتك، قال: قد أحسنتِ، أتيني بثمنه، فجاءت بثمن الدجاجة، والخبز، والأصباغ، فقال: ضعيه على هذا، وادفعيه جميعاً إلى السائل.
أين نحن من هؤلاء؟ وكان الربيع لا يعطي أقل من رغيف، ويقول: إني لأستحي أن يرى في ميزاني أقل من رغيف.
وأما عامر بن عبد الله بن الزبير، وهو من أجواد الناس فقد اشترى نفسه من الله بديته ست مرات تصدق بها، يدفع الدية ست مرات ليفدي نفسه من عذاب الله .
وأما حكيم بن حزام فكان يقف في عرفة، ويخرج مائة رقيق، ويقول: هؤلاء عتقاء حكيم بن حزام لله  وكان يخرج مائة بدنة، ويجعلها هدياً لبيت الله الحرام، فكان أهل الموقف يضجون بالبكاء - أهل عرفة - ويقولون: اللهم هذا عبدك حكيم قد أعتق رقاب عبيده، اللهم أعتق رقابنا من النار.
رجلٌ واحد يقف في الموقف بعرفة، ويعتق مائة رقيق، ويرجو أن يعتق الله رقبته من النار، فماذا قدمت في حجك في يوم عرفة؟ بل ماذا ستقدم في هذه الأيام، وأنت تستقبل شهر الله الكريم؟ نسأل الله أن يبلغنا، وإياكم إياه.
وقد اشترى حبيب العجمي نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدق بها، وقال الحسن البصري: المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ، واشترى عبد الله بن عامر بن كريز القرشي من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بسبعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ فقيل له: يبكون من أجل دارهم، يعني على فراقها، فقال: يا غلام، ائتهم فأعلمهم أن المال، والدار لهم جميعاً، رد عليهم دارهم لما سمع بكاءهم، وملكهم هذا المال الذي دفعه ثمناً لها.
وقال الحسن، والحسين - رضي الله تعالى عنهما - لعبد الله بن جعفر الذي ذكرت لكم طرفاً من خبره آنفاً، قالوا له: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: إن الله قد عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة فيقطع عني.
وكانت له أخبار عجيبة في الجود من أراد أن يراجعها فلينظر في ترجمته في تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر - رحمه الله تعالى - .
وهذا ابن شهاب الزهري الإمام المحدث المعروف، كان من أسخى الناس كما قال عنه الإمام مالك، وهو تلميذه، أصاب أموالاً كثيرة فكان يفرقها، فقال له مولىً له، وهو يعظه: قد رأيتَ ما مرَّ عليك من الضيق، والحاجة فانظر كيف تكون؟ أمسك عليك مالك، قال: إن الكريم لا تحنكه التجارب، يعني أنه إذا بذل ماله يوماً فاحتاج، وافتقر لا تحنكه التجربة فيكون ذلك درساً له فيمتنع من الإنفاق في سبيل الله .
جاء أعرابي إلى سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة، فقال خادم سعيد: خمسمائة دينار، أو خمسمائة درهم؟ فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم، لكن لما وقع في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار، فلما قبضها الأعرابي جلس الأعرابي يبكي، فقال له سعيد: مالك ألم تقبض نوالك؟ قال: بلى والله، ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك؟
وكان دخل الليث بن سعد الإمام المعروف الفقيه كان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما أوجب الله عليه زكاة درهمٍ واحدٍ قط، كان ينفق ذلك فلا يجتمع عنده نصابٌ.
يقول بعض الزهاد من المتقدمين: فتشت الأعمال كلها فما وجدتُ فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم أبيتها، يقول: يدي لا يبقى فيها شيء، كل ما جاءني فأدفعه لهؤلاء المحتاجين.
وأما الشعبي - رحمه الله - الإمام الحافظ المعروف الذي كان يقول: أقل ما أحفظه الشعر، ولو شئتم لحدثتكم شهراً لا أعيد بيتاً، وكان لا يقرأ، ولا يكتب لا يعرف القراءة، والكتابة، لكنه كان آيةً في الحفظ، والعبادة، كان يقول: ما مات لي قرابةٌ، وعليه دينٌ إلا قضيته عنه.
وأما الواقدي - صاحب المغازي - فيقول: صار إليّ من السلطان ألف درهم ما وجبت علي زكاةٌ فيها، ومات، وهو في القضاء، وليس له كفن، فبعث الخليفة بأكفانه.
وعوتب ابن المبارك، وهو العالم الكبير، الجواد، عوتب فيما يفرق من الأموال في البلدان دون بلده، فقال: إني أعرف مكان قومٍ لهم فضلٌ، وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، ولحاجة الناس إليهم احتاجوا، يعني تفرغوا للناس في بث حديث رسول الله ﷺ يقول: فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد ﷺ لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
وكان يقول للفضيل بن عياض: لولاك، وأصحابك ما اتجرت، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
وأما مورق العجلي فكان يتجر، وينفق أرباحه على المحتاجين، والفقراء، وكان يقول: لولاهم ما اتجرت، لولاهم ما اشتغلت بالتجارة، فأين تجار المسلمين الذين لو أخرجوا الزكاة فقط لصار فقراء المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها من أغنى الناس؟! لو أخرجوا الزكاة فقط فضلاً عن أن يجودوا بغير ذلك من الصدقات.
جاء رجلٌ إلى الإمام الشافعي - رحمه الله - فأعطاه، ورقةً يقول له فيها: أنا بقال رأس مالي درهم، وقد تزوجت فأعني، فقال الشافعي لتلميذه، وصاحبه الربيع: أعطه ثلاثين ديناراً، فقال الربيع: أصلحك الله إن هذا يكفيه عشرة دراهم، فقال: ويحك، وما يصنع بثلاثين دينار، أفي كذا أم كذا، يعني في أي شيء يصرف هذه الثلاثين، أعطه.
وكان يقول - أعني الشافعي - رحمه الله -: 

يا لهف قلبي على مالٍ أجود به على المقلين من أهل المروءات
جئن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وأما ابن المُنَيّر، وهو عالم من العلماء المتأخرين - رحمه الله تعالى - فكان يجلس في دكان له في بعلبك، وكان يضع الأموال في أوراقٍ يلفها على المال، ثم يضع ذلك في ناحية في دكانه، فإذا جاء السائل مد يده إلى واحدةٍ من هذه الأوراق التي في داخلها هذه الأموال، ثم يعطيها إلى هذا السائل دون أن ينظر إليه؛ لئلا يحرجه؛ ولئلا يرى وجهه فإذا رآه يتذكر أن له يداً عليه، فهو لا يريد منه جزاءً، ولا شكوراً، كما قال الله إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء، وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:9 - 10] فكان جزاؤهم فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً، وَسُرُورًا [الإنسان:11].
وأما المرأة فلها أيضاً أخبارٌ عجيبة في باب الإنفاق في سبيل الله  وفي باب الجود، فهذه أم ذرة تقول: دخلت على عائشة - رضي الله عنها - وعندها مائة ألف درهم، فجعلت تقسمها حتى ما بقي منها شيء، ثم قالت: يا جارية هاتي فطري، وكانت صائمة، فجاءت بخبزٍ، وزيت، فقالت لها: يا أم المؤمنين ما كان عليك لو أخذت درهماً مما قسمت، فاشتريت به لحماً، فأكلتِ، وأطعمتنا، فقالت: لا تعنفيني، لو ذكرتُ ذلك، أو ذكرتني لفعلت.
ومن أخبارها
أيضاً أنها تصدقت بخمسين ألفاً، وكانت درعها - رضي الله تعالى عنها - مرتهنة، ومن أخبارها أيضاً أنه أهدي لها سلالٌ من العنب، فجعلت تفرقها، فجاءت الجارية فعمدت إلى سلةٍ من هذه السلال فأخرتها، وأخفتها، فلما كان الليل جاءت بهذه السلة، فقالت عائشة: ما هذه؟ قالت: هذه ادخرتها لنأكل منها، فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أفلا عنقوداً واحداً - يعني لماذا أخذتِ سلةً كاملة - أفلا عنقوداً واحداً، والله لا أكلتُ منه شيئاً.
وأما أسماء - رضي الله تعالى عنها - بنت أبي بكر، وهي أخت عائشة - رضي الله عنها - فكانت لا تدخر شيئاً لغدها.
وليس ذلك يختص بالأغنياء، وأهل الثراء، وإنما كما قال الله
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] فجهد المقل يبارك الله فيه، والنبي ﷺ يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة[3] وأخبر الله عن صفة أصحاب رسول الله ﷺ أنهم يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وقال معقباً على ذلك: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] وهذه الآية نزلت حينما جاء رجل إلى النبي ﷺ فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ  من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ فقال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9][4].
ويقول القرطبي - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية: اجتمع بعض الناس على أرغفة يسيرة لا تكفيهم، فوضعت، وأطفئ السراج، ثم فتح بعد ذلك، فإذا هي لم تمس، فكان كل واحدٍ من هؤلاء يؤثر إخوانه على نفسه.
قالت أم بُجيد - رضي الله تعالى عنها - لرسول الله ﷺ "إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئاً أعطيه إياه، فقال لها رسول الله ﷺ 
إن لم تجدي له شيئاً تعطينه إياه إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه في يده[5] وفي رواية: لا تردي سائلكِ، ولو بظلف[6] أخرجه الترمذي، وأبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.
يقول أبو هريرة : "ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب، تبعته ذات يوم، وأنا جائع، فلما بلغ الباب التفت فرآني، فقال لي: ادخل، فدخلت، ففكر حيناً، فلم يجد في بيته شيئاً إلا لحياً كان فيه سمن، فأنزله من رفٍ لهم، فشقه بين أيدينا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن، والزيت، وهو يقول:

ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يدٌ إلا بما تجد

وركب شعبة بن الحجاج - رحمه الله - على حمارٍ له، فلقيه سليمان بن المغيرة، فشكا إليه حاجته، فقال له شعبة: والله ما أملك إلا هذا الحمار، ثم نزل، ودفعه إليه.

إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهودُ
وللبخيل على أمواله عللٌ زرق العيون عليها أوجهٌ سودُُُ

يعني البخيل إذا أتيته، ولو كان يملك القناطير المقنطرة يتعلل بأن عليه حقوقاً، وأن عليه ديوناً، وأن عليه تبعات، فهو لا يستطيع أن يدفع، وأن ماله غائب، وقد وظفه في كذا، وكذا، وكذا، وليس بحضرته منه شيء.

إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً، وهو مجهودُ
وللبخيل على أمواله عللٌ زرق العيون عليها أوجهٌ سودُ
إذا تكرهت أن تعطي القليل ولا تكون ذا سمعةٍ لم يظهر الجودُ
بث النوالى ولا يمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ

أي، ولو قلّ.
وكان أويس القرني يمسي، ويتصدق بما في بيته من الفضل من الطعام، والشراب، ثم يقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياً فلا تؤاخذني به، وكان يقول في دعائه: اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبدٍ جائعة، وبدنٍ عارٍ، فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني، وليس لي شيءٌ من الدنيا إلا ما على ظهري، ولم يكن على ظهره حينذاك إلا خرقة، وهو الرجل الذي أوصى النبي ﷺ عمر إن لقيه، وجاء في أمداد اليمن أن يطلق منه أن يستغفر له، وكان - رحمه الله - يتصدق بثيابه حتى لربما جلس من غير ثياب فلا يجد شيئاً يذهب به إلى الجمعة.
وأما عبد الله بن جعفر فله خبرٌ عجيب مع رجلٍ رقيق، خرج عبد الله بن جعفر، وهو الجواد المعروف خرج إلى ضيعة له، فنزل عند نخل قومٍ، وفيها غلامٌ أسود يقوم عليها كالحارس، فجيء بقوته - هذا الغلام جيء بقوته - وهو ثلاثة أقراص من الخبز، فدخل كلبٌ، ودنا من الغلام فرمى إليه بالقرص الأول فأكله الكلب، ثم رمى إليه بالثاني، والثالث فأكلها - ونحن نعلم أن هذه البهائم إذا جاعت تأكل الخبز كما هو مشاهد - فأكلها، وعبد الله ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك في كل يوم؟ فقال: هو ما رأيت فقط، فقال: فلمَ آثرت هذا الكلب؟ قال: ليست هذه بأرض كلاب، وهذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت رده، فقال له عبد الله بن جعفر: فماذا ستنصع هذا اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا - يعني على الجوع - فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السخاء، وهذا أسخى مني؟! فاشترى الحائط –المزرعة - والغلام، وما فيه من الآلات، فأعتق الغلام، ووهب ذلك له جميعاً.
وهناك أيضاً خبرٌ آخر يشبه هذا، وقع لعمر بن عبيد الله بن معمر حيث مر بزنجي يأكل عند حائط، وبين يديه كلب، فكان الزنجي إذا أكل لقمة رمى بلقمة إلى الكلب، فقال له: أهذا الكلب لك؟ فقال: لا، قال: فلمَ تطعمه مثل ما تأكل؟ قال: إني أستحي من ذي عينين ينظر إلي أن أستبد بمأكول دونه، فقال له: أحرٌ أنت أم عبد؟ قال: عبد لبعض بني عاصم، فجاء إليهم في ناديهم فاشتراه، واشترى الحائط، ثم جاء إليه فقال: أعلمت أن الله أعتقك؟ فقال: الحمد لله وحده، ولمن أعتقني بعده، قال: وهذا الحائط لك، قال: أشهدك أنه وقفٌ على فقراء المدينة، قال: ويحك تفعل هذا مع حاجتك؟ فقال: إني أستحي من الله أن يجود لي بشيء فأبخل به عليه.
هذا رجل يستحي من الكلب أن ينظر إليه بعينيه فلا يعطيه شيئاً، فأين نحن من أيتام المسلمين، ومن أرامل المسلمين، ومن جوعى المسلمين ممن يموتون عرياً، وجوعاً في أصقاع كثيرة من العالم، ونحن نتقلب بألوان النعم الظاهرة، والباطنة.
قيل لمعروف الكرخي في مرضه الذي مات فيه: أوصي، فقال: إذا مت تصدقوا بقميصي هذا، فإني أحب أن أخرج من الدنيا عرياناً، كما دخلت إليها عرياناً.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - جاء في طريق فمر بأحد الناس فجلس ذلك الرجل يدعو لشيخ الإسلام ابن تيمية، ففهم شيخ الإسلام أن الرجل يعرض بالحاجة، يعرض بالمسألة، فلم يكن معه ما يعطيه فنزع ثوبه، ودفعه إليه، وقال: بعه بما تيسر، وأنفقه، ثم اعتذر إليه من كونه لا يحضره شيء من النفقة.
وكان شيخ الإسلام كما قيل في خبره، وترجمته لا يرد سائلاً، وإذا سئل شيئاً من كتبه أعطى، وكان يقول للسائل: خذ منها ما شئت.
وقال عنه الذهبي: إنه أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، يقول بعض من رآه، وجالسه: كنت جالساً يوماً بحضرته فجاءه إنسان فسلم عليه، فرآه الشيخ محتاجاً إلى ما يعتم به - ما عليه عمامة، ولم يسأل شيخ الإسلام - فخلع شيخ الإسلام - رحمه الله - عمامته، وقطعها نصفين، ثم أعطى هذا الرجل نصف عمامته، ولبس النصف الآخر.

وأما النوع الثالث من أنواع الجود: فهو الجود بالعلم:
وهذه رسالة أوجهها إلى طلبة العلم، وإلى العلماء ألا يبخلوا على الناس بالعلم، أن يعلموا الناس العلم في ليلهم، ونهارهم، وهذا مظنة أن يبارك الله لهم في هذا العلم.
وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: والناس في الجود بالعلم على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله  وتقديره النافذ أن لا ينفع به بخيلاً.
وكان النبي ﷺ أجود الناس بالعلم، فكان يعلم من غير مسألة، كان يسأل أصحابه: 
أتدرون ما المفلس؟[7] ثم يذكر لهم الجواب، وقد يُسأل فيذكر الجواب، ويزيد السائل فائدة، لما سئل عن البحر قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته[8].
ودخل رجل مسجد رسول الله ﷺ وهو يخطب، فطلب من النبي ﷺ أن يعلمه مما علمه الله، فقطع النبي ﷺ الخطبة، ثم نزل، ووضع له الكرسي فعلمه ما شاء الله أن يعلمه، ثم عاد، وأكمل خطبته.
يقول ابن القيم - رحمه الله - واصفاً شيخ الإسلام في هذا الجانب يقول: لقد شاهد الله منه - قدس الله روحه - في ذلك أمراً عظيماً، كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي لربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات، واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، يقول: وهذه فتاويه - رحمه الله - بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.
فمن جود الإنسان بالعلم أن لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر له نظائرها، ومتعلقاتها، ومآخذها بحيث يشفيه، ويكفيه.

ولا يحسن بطالب العلم أن يحتبس عن الناس بين جدران مكتبته، فإن العلم إنما يُتعلم ليتقى الله به، ومن اتقاء الله بالعلم أن يبذل للناس؛ لأن الإنسان سيسألل عن علمه ماذا عمل به؟

ومن أنواع الجود أيضاً، وهو الرابع: أن يجود الرجل براحته، ورفاهيته، وإجمام نفسه:
فيجود بها لمصلحة غيره، أن يتعب بدنه، ونفسه، ويرهقها في سبيل راحة الآخرين، فهو كما قيل:

متيمٌ بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينمِ

فلو كان صاحب هذا الجود في غاية التعب، والضعف، والإرهاق فإنه لا يعتذر عن إعانة محتاج، يقول بعضهم:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديبُ
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما، وجه الكريم خصيبُ

وقد قال النبي ﷺ لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[9] ويقول ﷺ  لن تسعوا الناس بأموالكم[10] فيمكن للإنسان أن يقدم، وأن يبذل رفاهيته، وراحته، ويجود بذلك من أجل أن يعين الآخرين.
ومن ذلك أيضاً، وهو الخامس: الجود بمنافع البدن:
وقد قال النبي ﷺ  لأن أمشي في حاجة أخي أحب إلي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً[11] وقال: كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته، فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة[12].

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فلطالما استعبد الإنسان إحسانُ

ومن ذلك أيضاً، وهو السادس: الجود بالوقت:
وليس ذلك على كل حال، فلا يجود الإنسان بوقته مع البطالين، تذهب أوقاته سدى، وإنما يقدم وقته لمن ينتفع به في شأنٍ من الشؤون، قد يأتي الإنسان إليك يحتاج إلى استشارةٍ، أو يحتاج إلى رأيٍ، أو يحتاج منك إلى أن تقف معه في أمرٍ من الأمور، أو يحتاج إلى أن تسمع منه همه، ومشكلته، فأعطِ الناس من وقتك يبارك لك في هذا الوقت.
وقد كانت الجارية من جواري المدينة تأخذ بيدِ رسول الله ﷺ وتذهب به حيث شاءت.

وأما السابع من أنواع الجود، وهو من أعجبها: الجود بالعرض:
قد لا يكون عند الإنسان جهدٌ بدني، وليس عنده ما ينفع الناس به من رأيٍ، ولا علمٍ، ولا مالٍ، ولا غير ذلك، لكنه لم يعجز عن لونٍ من ألوان البذل، والجود، وهو بذل العرض.
وكان بعض أصحاب النبي ﷺ كأبي ضمضم إذا أصبح قال: "اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني، أو قذفني فهو مني في حل".

والثامن من أنواع الجود: الجود بالصبر، واحتمال الأذى، والعفو:
والله يقول: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا، وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] فذكر مقام العدل، وأذن فيه، ومقام الفضل، وندب إليه، ومقام الظلم، وحرمه، وقد قال ﷺ  ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب[13] وقد قال ﷺ من كظم غيظاً، وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء[14].

ولربما ضحك الحليم من الأذى وفؤاده من صدره يتأوه
ولربما شَكَلَ الحليم لسانه حذر الجواب وإنه لمفوه

ومن عجيب أخبار أهل العفو، وأهل الجود في هذا الباب أنه لما أفضت الخلافة إلى بني العباس؛ اختفى رجالٌ من بني أمية، ومنهم: إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، فأخذوا له أماناً من أبي العباس السفاح، فلما دخل عليه قال له: حدثني عما مر بك في اختفائك، فقال: كنتُ يا أمير المؤمنين مختفياً بالحيرة في منزلٍ مشرفٍ على الصحراء، فبينما أنا على ظهر البيت إذ نظرت إلى أعلام سود - وهي شعار بني العباس - قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فتخيلت أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكراً، حتى أتيت الكوفة، ولا أعرف أحداً بها أختفي عنده، يقول: فبقيت في حيرة، فإذا أنا ببابٍ كبير، ورحبةٍ واسعة، فدخلت فيها فإذا رجلٌ وسيم، حسن الهيئة، على فرسٍ قد دخل الرحبة، ومعه جماعة من غلمانه، وأتباعه، فقال: من أنت؟ وما حاجتك؟ فقلت: رجلٌ خائفٌ على دمه، وقد استجار بمنزلك، يقول: فأدخلني منزله، ثم صيرني في حجرةٍ تلي حجرة أهله، وكنت عنده في كل يومٍ على ما أحب من مطعمٍ، ومشربٍ، وملبس، ولا يسألني عن شيء من حالي إلا أنه كان يركب في كل يومٍ مركبه، فقلت له يوماً: أراك تدمن الركوب، ففيما ذاك؟ فقال: - وهذا من عجائب الأخبار -: إن إبراهيم بن سليمان - وإبراهيم بن سليمان هو هذا الرجل الذي عنده - قال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً - يعني أنه حبسه، واقتاده إلى القتل، وقتله صبراً يعني من غير مبارزة، ولا مواجهة، وإنما قتله صبراً - وقد بلغني أنه مختفٍ في الحيرة فأنا أطلبه لأدرك منه ثأري، يقول: فكثر والله تعجبي، وقلت: القدر ساقني إلى حتفي في منزل من يطلب دمي.
يقول: فكرهت الحياة، وسئمتها، يقول: فسألت الرجل عن اسمه، واسم أبيه، فأخبرني، فعلمت أن الخبر صحيح، وأنا الذي قتلتُ أباه، فقلتُ له: يا هذا قد وجب علي حقك، ومن حقك أن أدلك على خصمك، وأقرب لك الخطو، قال: وما ذاك؟ قلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتلُ أبيك، فخذ بثأرك، فقال: إني أحسبك رجلاً أقضه الاختفاء، فأحببت الموت لتستريح – يقول: أنت تكذب تريد أن أقتلك لتستريح من هذا التخفي - يقول: فقلت: لا والله، ولكن أقول لك الحق، لقد قتلته يوم كذا، وبسبب كذا، وكذا، فلما علم صدقي تغير لونه، واحمرت عيناه، وأطرق ملياً، ثم قال: أما أنت فستلقى أبي عند حكمٍ عدل، فيأخذ بثأره، وأما أنا فغير مخفرٍ لذمتي، فاخرج من عندي، فلستُ آمنُ عليك من نفسي، يقول: فأعطاني ألف دينار، فلم آخذها منه، فانصرفت عنه، يقول: فهذا أكرمُ رجلٍ رأيته بعد أمير المؤمنين.

ليست الأحلام في حين الرضا إنما الأحلام في حين الغضب

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - له أخبارٌ عجيبة في العفو، لما اجتمع القضاة عند الملك الناصر، وكتبوا أوراقاً يفتون بها بحل دم شيخ الإسلام، ويكفرونه، ثم لما ذهب المُلك عن الملك الناصر، وجاء ملك بعده، ثم بعد ذلك استطاع الملك الناصر أن يسترد ملكه، فغضب على هؤلاء؛ لأنهم كانوا قد التفوا حول الملك الجديد، فأحضرهم هؤلاء القضاة، والفقهاء الذين بقوا مع خصمه، فأحضرهم فجلسوا، وقد أطرقوا برؤوسهم كأن على رؤوسهم الطير، فبينما هم كذلك إذ دخل رجلٌ من الباب من بعيد، فقام إليه الملك الناصر فاعتنقه، ثم جلس يُسارره، فنظروا إليه فإذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فأُسقط في أيديهم، فقالوا: الآن ينتقم منا، فقال له هذا الملك: ما تقول في هؤلاء الفقهاء؟ قال شيخ الإسلام: فعلمتُ أنه يريد أن ينتقم لنفسه، فعظمت عليه قتلهم، فأخرج أوراقاً، ورقاع فيها فتاوى بخطوطهم بقتلي، وحل دمي، فقلت له: أما أنا فهم في حل، وأما أنت فلا قيام لمملكتك إلا بهم.
فهذا من عظيم العفو، والصفح الذي كان يتحلى به شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولعله يأتي مناسبة نتحدث فيها عن هذا الموضوع بشيء من الاستفاضة بإذن الله .

والتاسع من أنواع الجود: الجود بالرئاسة:
الإنسان قد يكون له رئاسة أحياناً، ولكنه لا يشفع لأحد، ولا يتوسط لأحد، ولا يقف مع أحد، ولا يخفف مصيبةً نزلت على أحد، يخاف أن تهتز منزلته عند رئيسه، وعند من ولاه، فيكون سلبياً لا نفع فيه.
ومن عجيب ما يذكر في هذا الباب أنه كان بين غسان بن عبادة، وبين علي بن عيسى القُمي عداوة عظيمة، وكانوا أهل وزارة، وأهل غنى، وكان علي بن عيسى يتولى بعض الأعمال للمأمون، فنقصت عليه أربعون ألف دينار لا بد له من أدائها، فألح المأمون بطلبها إلى أن قال لحاجبه: أمهله ثلاثاً، فإن أحضر المال، وإلا فاضربه بالسياط حتى يؤدي المال، أو يتلف، فانصرف علي بن عيسى من دار المأمون آيساً من نفسه، وهو لا يدري إلى أين يتجه؟ فقال له كاتبه: لو عرجت على غسان بن عبادة، وعرفته خبرك لرجوت أن يعينك على أمرك، فقال: على ما بيني، وبينه من العداوة؟ فقال: نعم، فإن الرجل أريحيٌ كريم، فدخل عليه، وتلقاه غسان بالجميل، وأوفاه حقه بالخدمة، ثم قال له: الحال بيني، وبينك على حاله، يعني العداوة على حالها لكن تفضل، فإن دخولك على داري له حرمة توجب بلوغ ما رجوته مني، فاذكر إن كانت لك حاجة، فقص عليه القصة، فقال: أرجو أن يكفيكه الله تعالى، ولم يزد على ذلك.
فخرج علي بن عيسى من بيته نادماً على أنه جاءه، وقال لكاتبه: ما أفدتني بالدخول عليه غير تعجيل الشماتة، والهوان، فلم يصل علي بن عيسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان، ومعه البغال عليها المال، فبلغه سلامه، وقال: لقد حضر المال فتقدم، وسلمه للخليفة، وبكر غسان إلى دار المأمون فلما جاء علي بن عيسى وجد غسان عند المأمون، فقال غسان: يا أمير المؤمنين، وجلس يمدح علي بن عيسى، وهو من أعدائه، وطلب من المأمون أن يخفف عنه، فلم يزل يتلطف به إلى أن حط عنه النصف، واقتصر على عشرين ألف دينار، ثم سأل له أن يكرمه، يعني لا يبعده، ويطرده، وأخذ منه كتاباً على ذلك، وعهداً، فخرج علي بن عيسى من عند المأمون بالورقة، والتوقيع بالتخفيف، فما أن رجع إلى داره حتى حمل من المال عشرين ألفاً، وأرسلها إلى غسان، وشكره على فعله الجميل، فقال غسان لكاتبه: والله ما شفعت له عند أمير المؤمنين إلا لتوفر عليه، وينتفع بها فامضِ بها، فلما ردها إليه عرف قدره.
الآن هذا جاء يتوسط لرجل مطلوب من قبل الخليفة نقصت عليه أموال من بيت المال، وهي أربعون ألف دينار، وهو مبلغ كبير جداً، فما قال هذا الإنسان - مع أنه من أعدائه -: أنا لا أشفع فيه لألطخ سمعتي، ولتنحط مرتبتي عند المأمون، وهذا الإنسان بيني، وبينه ما الله به عليم من العداوة.

وأما العاشر: فهو الجود بالعفاف، وقطع الطمع عما في أيدي الناس:
يقول ابن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل، نظر المنذر بن أبي سبرة إلى أبي الأسود الدؤلي - رحمه الله - وعليه قميصٌ مرقع، فقال: ما أصبرك على هذا القميص؟ قال: رب مملولٍ لا يستطاع فراقه، يعني ما عندي سوى هذا القميص، فبعث إليه بتختٍ من الثياب، فقال أبو الأسود:

كساني ولم أستكسه فحمدته أخوٌ لك يعطيك الجزيل وناصرُ
وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ولكن من يعطي بغير سؤال

فأبو الأسود لم يسأل، ولم يعرض بالحاجة، وإنما أُعطي من غير مسألة.
ورأس ذلك جميعاً هو أن يعلق القلب نفسه بالله فيؤمل العطاء منه لا من المخلوق، وإذا أعطى يؤمل الثواب من الله، ولا ينتظر العائدة، والجزاء من المخلوق، ويقدم للناس ألوان المنافع بالبدن، والمال، والوقت، والعلم، وغير ذلك، ولسانُ حاله، ومقاله: 
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء، وَلَا شُكُورًا [الإنسان:9] فهمه رضا المعبود، ولا يهمه رضا الناس، وما يقوله الناس عنه، فهو كما قيل:

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بين وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق الترابِ ترابُ

النوع الأخير من أنواع الجود: وهو الجود بالخلق، والبشر، والطلاقة:
والله يقول: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى [البقرة:263] ويقول: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعني الوالدين، والأقربين، والمحتاجين من أبناء السبيل، والفقراء، وغيرهم وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [الإسراء:263].

إلا تكن، ورقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي، وإما حسنِ مردودِ

والنبي ﷺ يقول: والكلمة الطيبة صدقة[15]، ويقول: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة[16]

  1. أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع (ج 9/ص10) (2394)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم(2544).
  2. أخرجه البخاري في (ج 5 / ص 270)(1351)، ومسلم في كتاب الزكاة باب في المنفق، والممسك (ج 5 / ص 182) (1678).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب: اتقوا النار، ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (ج 5/ص230)(1328)، كتاب الأدب باب: طيب الكلام (ج 18 / ص 445)(5564)، وفي كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب (ج20/ص 205)( 6058)، وفي باب صفة الجنة، والنار (ج20/ص 227)( 6078)، ومسلم، كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة، ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار (ج 5 / ص 196)( 1689).
  4. أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب: قول الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ، وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] (ج12/ص157)(3514)، وفي كتاب تفسير القرآن باب: قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ (ج15/ص160)(4510).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب: حق السائل (ج4/ص477)(1419)، والترمذي في كتاب الزكاة باب: ما جاء في حق السائل(ج3 /ص 75)( 601)، والنسائي في كتاب الزكاة تفسير المسكين (ج8/ص361) (2527 )، وأحمد (ج 55/ص128) (25898)، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:1440.
  6. هذه الرواية مصححة في صحيح الترغيب، والترهيب(ج1/ص215) (884).
  7. أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب باب: تحريم الظلم (ج12/ص459)(4678).
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب: الوضوء بماء البحر (ج1/ص118)( 76)، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور(ج1/ص 117) (64)، والنسائي في كتاب الطهارة باب: ماء البحر (ج1/ص107)(59)، وفي كتاب المياه الوضوء بماء البحر (ج2/ص42) (330)، وابن ماجه، كتاب الطهارة، وسننها، باب الوضوء بماء البحر (ج1/ص467)(380)، وأحمد (ج17/ص422)(8380)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ج1/ص161)، وفي غيره.
  9. صحيح مسلم كتاب البر، والصلة، والآداب باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (ج13/ص69)(4760).
  10. (حسن لغيره) صحيح الترغيب، والترهيب (ج3/ص9)(2661).
  11. أخرجه ابن أبي شيبة (ج6/ص90)(18)، وقال الألباني: (حسن لغيره) انظر صحيح الترغيب، والترهيب(ج3/ص9)(2661).
  12. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير باب: من أخذ بالركاب، ونحوه (ج10/ص163)(2767).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب الحذر من الغضب (ج19/ص72) (5649)، ومسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب (ج13/ص19)( 4723).
  14. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب: من كظم غيظاً (ج12/ص 397) (4147)، وابن ماجه في كتاب الزهد باب: الحلم (ج12/ص225) (4176)، وأحمد (ج31/ص236) (15084)، وقال الألباني: "حسن" في ابن ماجه (4186)، وصحيح الجامع الصغير (6518).
  15. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير، باب من أخذ بالركاب، ونحوه (ج10/ص163)(2767).
  16. أخرجه الترمذي في كتاب البر، والصلة، باب ما جاء في صنائع المعروف (ج7/ص213) (1879).

 

لطريق إلى الجود

وأما سادساً: فهو الطريق إلى الجود:
وذلك بأمورٍ متعددة منها: صدق المحبة لله  وكلما عظمت المحبة في قلب العبد كلما ازداد بذله طلباً لمرضات ربه .
ومنها: الرغبة في مكارم الأخلاق، وأشرافها، وبغض الأخلاق الرذيلة، والله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها، وقد كان النبي ﷺ يعطي، ويعطي، ويعطي، ويقول: 
يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل[1]، أو كما قال ﷺ
وقد قيل: كفى بالبخل عاراً أنه اسمه لم يقع في حمدٍ قط، وكفى بالجود مجداً أن اسمه لم يقع في ذمٍ قط.
والأمر كما قيل:

لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرفُ
وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلفوا

يعني أن الإنسان يحمد بسبب هذا الجود، يحمده الله  ويحمده أهل الإيمان.
ومن الأمور التي تكون جاذبة له: التعود، والتطبع، والتخلق، وقد قال النبي ﷺ  
إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2] ومن أبرز ما يعين على ذلك: هو أن تجعل الأخلاق لك عادة، وبذلك فإنها تكون راسخة فيك حتى لو أردت أن تترك شيئاً منها لم تستطع ذلك.

تعودَ بسطَ الكف حتى لو أنه أراد انقباض لم تطعه أنامله
ولو لم يجد في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

ومنها: تعظيم الحقوق، الله جعل عليك حقوقاً في بدنك، ومالك، ونفسك، وعلمك، وغير ذلك مما أعطاك الله من القدر، والإمكانات، والله يقول: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ۝ لِّلسَّائِلِ، وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24، 25].
ومن ذلك أيضاً: حسن الظن بالله مع التوكل عليه.

ولم يفتقر يوماً وإن كان معدماً جوادٌ ولم يستغنِ قطُ بخيلُ

ولا ينقص مالٌ من صدقة[3] يقول أبو سليمان الداراني - رحمه الله -: من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم، وسخت نفسه في نفقته، وقلت وساوسه في صلاته.

أنفق ولا تخش إقلالاً فقد قسمت على العباد من الرحمن أرزاقُ
لا ينفعُ البخلُ مع دنيا موليةٍ ولا يضر مع الإقبال إنفاقُ

كتب رجلٌ من البخلاء إلى رجلٍ من الأسخياء يأمره بالإبقاء على ماله، ويخوفه الفقر، فرد عليه: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268] قال: وإني أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمرٍ لعله لا يقع، يقول: أكره أن أترك الجود، والإنفاق لأمرٍ - وهو خشية الفقر - لعله لا يقع.
ولما قال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي، وهو من الأجواد: أنت متلاف، قال: منع الجود سوء ظنٍ بالمعبود.
وقد قال محمد الوراق:

من ظن بالله خيراً جاد مبتدئاً والبخل من سوء ظن المرء بالله

وهكذا هو.
والسادس من الأمور الجالبة للجود:
أن تعلم أن مالك إنما هو ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، كما أخبر النبي ﷺ وأما سواه فليس لك إنما تتركه لوارث، وقد قال أبو ذر : إن لك في مالك شريكين، الحدثان يعني العوارض، والحوادث التي تصيب المال، فلربما افتقر الإنسان، والوارث، فإن استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل، يعني إن استطعت أن تنتفع بهذا المال بأكبر قدر بالصدقة في سبيل الله لئلا يذهب إلى هذا الوارث، وأنت لم تتصدق منه، أو تأتي جائحة فيذهب هذا المال، فإن استطعت ذلك فافعل.

يعنى البخيل بجمع المال مدته وللحوادث والوراث ما يدعُ
كدودة القز ما تبنيه يهدمها وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ

يقول الحسن : بئس الرفيق الدينار، والدرهم لا ينفعان حتى يفارقان.
ورأى الأحنف بن قيس في يد رجلاً درهماً فقال: لمن هذا؟ قال: لي، قال الأحنف: ليس هو لك حتى تخرجه في أجرٍ، أو اكتساب شكر، وتمثل بهذا البيت:

أنت للمال إذا أمسكته وإذا أنفقته فالمال لك

وقد قال بعض الحكماء: من كان بخيلاً ورث ماله عدوه، وكما قيل:

وهبني جمعت المال ثم خزنته وحانت، وفاتي هل أزاد به عمراً
إذا خزن المال البخيلُ فإنه سيورثه غماً ويعقبه وزراً

وكان سعيد بن العاص - رحمه الله - يقول على المنبر: من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً، وجهراً حتى يكون أسعد الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إما لمصلح فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد فلا يبقى له شيء.

حتى متى تسقى النفوس بكأسها ريب المنون وأنت لاهٍ ترتعُ
أفقد رضيت بأن تعلل بالمنى وإلى المنية كل يومٍ تدفعُ
أحلام نومٍ أو كظلٍ زائلِ إن اللبيب بمثلها لا يخدعُ
فتزودن ليوم فقرك دائماً واجمع لنفسك لا لغيرك تجمعُ

مضى إبراهيم بن بشار مع إبراهيم بن أدهم في مدينة يقال لها: طرابلس، ومعه رغيفان، فعرض لهم سائل، وفقير، فقال إبراهيم بن أدهم لإبراهيم بن بشار: ادفعه إليه، فقال: ليس معنا سواه، فقال: ادفعه، ثم قال إبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق إنك تلقى غداً ما لم تلقه قط، واعلم أنك تلقى ما أسلفت، ولا تلقى ما خلفت، فمهد لنفسك فإنك لا تدري متى يفاجئك أمرٌ، وتلقى الله  يقول: فأبكاني كلامه، وهون علي الدنيا، فلما نظر إلي بكى، وقال: هكذا فكن.

هبِ الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصار ذاك إلى انتقال؟
وما دنياكم إلا مثل فيءٍ أظلك ثم آذن بالزوال

والأمر السابع من الأمور الجالبة للجود: توقي عذاب الله :
أن يتذكر الإنسان أنه يحاسب، ويؤاخذ على هذه القُدَر، النبي ﷺ  قال: اتقوا النار، ولو بشق تمرة[4] ويقول ﷺ في الحديث الصحيح: ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية، يقال لها: شجاع يتلمظ فيطوق به[5] يتلمظ مثل الذي يأكل، ثم يحرك لسانه في أسنانه فيصدر صوتاً بذلك، وقد حسن هذا الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -.
ومن ذلك أيضاً، وهو الثامن: استحضار الجزاء من الله :
فسلعة الله غالية.

يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً بل أنت غالية على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينالك في الألف واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ عند الأراذل سفلة الحيوانِ

وعن عائشة - رضي الله عنها - أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي ﷺ  ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها[6] وهو حديثٌ صحيح.
والله يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر، وهو خير الرازقين، يقول يحيى بن معاذ: ما أعرف حبةً تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة، وقال الحسن: من أيقن بالخف جاد بالعطية، وكان يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - يقول: عجبت ممن يبقى معه مال، وهو يسمع قوله تعالى: 
إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17].
والتاسع: مما يجلب هذه الخصلة، والصفة العظيمة: أن تتذكر أن الدنيا هي محلٌ للابتلاء:
فإذا جاءك هذا السائل فقد ابتليت به، وابتليت بهذا المال، والعطاء الذي أعطاك الله إياه، ويقول الحسن البصري: لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض كما قال الله وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165] فجعل الناس أغنياء، وفقراء، وعلماء، وجهلة، وجعل منهم أيضاً أقوياء، وضعفاء، وأصحاء، ومرضى ليبلوا الناس بما أعطاهم.
ومن ذلك، وهو العاشر: استحضار أن مواضع الحاجة فرصٌ قد لا تعود، وقد لا تتكرر:
فالأمر كما قيل:

ليس في كل حالةٍ، وأوان تتهيأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها حذراً من تعذر الإمكان

والحادي عشر هو: وجود الناصح الذي ينصح بالإحسان، والنفقة، والعطاء من صاحبٍ، وزوجةٍ، وغير ذلك:
هذا طلحة بن عبيد الله جاءه مالٌ كثيرٌ من حضرموت، فبات تلك الليلة، وهو يتململ، ويتقلل، فقالت له زوجته: على أي شيء؟ هل رابك منا شيء؟ فقال: لا، وإنما تذكرت هذا المال، وقلت: ما ظن رجلٍ بربه يبيت، وهذا المال في بيته، فقالت: أين أنت من بعض أخلاقك؟ قال: وما هو؟ قالت: إذا أصبحت دعوت بجفانٍ، وقصاع فقسمته على بيوت المهاجرين، والأنصار على قدر منازلهم، فلما أصبح فعل ذلك، وقال: إنك ما علمتُ موفقةً بنت موفق، وهي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم أجمعين - فهذه الزوجة أعانته على هذا الفعل الجميل.
ومن ذلك أيضاً التربية التي يتلقاها الإنسان في بيئته، وبيته بين أهله، وكان قيس بن عبادة كما سبق يستدين، ويطعم، فقال أبو بكر، وعمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه، فمشينا في الناس، فقام سعد عند النبي ﷺ وقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة، وابن الخطاب يبخلانِ عليَّ ابني.
وكانت له قصة عجيبة أختم بها هذا المجلس: بعث رسول الله ﷺ بعثاً مع أبي عبيدة، وكان قدرهم ثلاثمائة رجل من المهاجرين، والأنصار، وكان فيهم قيس بن سعد بن عبادة، فأصابهم جوعٌ شديد، فقال قيس بن سعد، ولم يكن معه مال: من يشتري مني تمراً بجزور - يعني بإبل - يوفيني الجزور هاهنا، وأوفيه التمر بالمدينة، فجعل عمر يقول: واعجباً لهذا الغلام لا مال له، ويتزين في مال غيره، فوجد رجلاً من جهينة يعطيه ما سأل، وقال: والله ما أعرفك من أنت؟ فقال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقال الجهني: ما أعرفني بنسبك - يعني أنا أعرفك جيداً بهذا النسب - فابتاع منه خمس جزائر كل جزور بوسقين من تمر، فقال الجهني: أشهد، فقال قيس: أشهد من تحب، فكن ممن استشهد عمر بن الخطاب فقال: لا أشهد على هذا بدينٍ، ولا مال له، المال ليس له إنما المال لأبيه، فقال الجهني: والله ما كان سعد ليخني بابنه في سفةٍ من تمر، وأرى وجهاً حسناً، وفعالاً شريفاً، وأخذ قيس الإبل فنحرها في مواطن ثلاثاً، في كل يومٍ بعير، فلما كان الرابع نهاه أميره أبو عبيدة، فقال: أتريد أن تخرب ذمتك، ولا مال لك؟ قال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت - يعني والده - وهو يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة لا يقضي عني سفة من تمر لقومٍ مجاهدين في سبيل الله، فبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة، فقال: إن يكن سعد كما أعرف فسوف ينحر لهم - هذا ظنه بابنه؛ لأنه رباه على ذلك - فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابتهم؟ فقال: نحرتُ لهم، فقال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نُهيت، قال: من نهاك؟ قال: نهاني أميري، قال: ولمَ؟ قال: زعم أنه لا مال لي إنما المال لك، فقلتُ: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة أفلا يصنع هذا لي؟ فقال سعد: لك أربع حوائط - أربع بساتين - فكتب له بذلك كتاباً، وجاء بالكتاب إلى أبي عبيدة فشهد فيه، وكان أدنى حائط من هذه الحوائط يَجّدُ خمسين وسقاً، وقدم مع قيس هذا الجهني فأوفاه هذا التمر، وحمله، وكساه، فقال الأعرابي لسعد: يا أبا ثابت، والله ما مثل ابنك ضيعت، ولا تركت بغير مال، فابنك سيد من سادات قومه، نهاني الأمير أن أبيعه، وقال: لا مال له، فلما انتسب إليك عرفته، فتقدمت إليه لما أعلم من سموك إلى معالي الأخلاق، وجزيلها.
أعتذر من الإطالة إليكم، وإنما هو موضوعٌ ذو شجون، والحديث عنه متفرع، بقي فيه قضية واحدة، وهي آثار الجود أغفلها، وأسأل الله أن يبارك فيما ذكرت، ففيه الخير، والبركة، والكفاية، وأسأل الله أن ينفعني، وإياكم بذلك، وأن يجعلنا، وإياكم هداةً مهتدين، وأن يرزقنا، وإياكم محاسن الأخلاق، وإن يقينا سيئها.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه. 

  1. أخرجه أحمد (ج22/ص 245)(10700)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب(ج1/ص206)(844).
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ج20/ص258)(1762)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 2328.
  3. أخرجه أحمد (ج4/ص96)( 1584)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب (ج2/ص322)( 2462).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب اتقوا النار، ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (ج 5/ص230)(1328)، وفي كتاب الأدب، باب طيب الكلام (ج 18 / ص 445)(5564)، وفي كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب (ج20/ص 205)( 6058)، وفي باب صفة الجنة، والنار (ج20/ص 227)( 6078)، ومسلم في كتاب الزكاة باب: الحث على الصدقة، ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار (ج 5 / ص 196)( 1689).
  5. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ج2/ص469)(2293)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب(ج1/ص218)(896).
  6. أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع (ج 9/ص10) (2394)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم(2544).

 

مواد ذات صلة