الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
تأملات في سورة الحشر (2) من قوله تعالى: " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٣٣
التحميل: 6159
مرات الإستماع: 11238

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال حديثنا عن سورة النضير سورة الحشر، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [سورة الحشر:3]، عرفنا أن النبي ﷺ أخرجهم من المدينة، وأن الله تمدحهم بذلك بقوله: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2]، فالجلاء هو إخراج خاص، وليس كل إخراج يقال له: جلاء، فالجلاء عادة يكون بالأهل والولد، ويكون للجماعة ولا يكون للواحد، أجلي هؤلاء من بلادهم، أُجلوا من ديارهم، فهو إخراج للجمع للأهل والولد، وهو خروج بلا عودة، أُجلوا رحلوا من هذا المكان وأخرجوا منه، تحولوا، هذا يقولون في تفسيره في كلام العرب: هو الخروج من الوطن بالأهل والولد من غير رجوع إليه، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ ومعلوم أن وَلَوْلَا تفيد الامتناع للوجود، امتناع أمر، لم يحصل التعذيب؛ لأن الله كتب عليهم الجلاء، يعني: لوجود هذه الكتابة من الله وهي كتابة أزلية، كتب الله أن هؤلاء يُجلون، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فظاهره أن ثبوت الجلاء هذا الذي كتبه الله يلزم منه نفي التعذيب، أن الله لم يعذبهم لأنه كتب عليهم الجلاء، مع أن إخراجهم بهذه الصفة من ديارهم -يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وأهل كل ثلاثة بيوت يخرجون على بعير واحد- هذا تعذيب، والله قد قرن بين قتل النفوس والإخراج من الديار، ولما ذكر معايب بني إسرائيل قال: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] يعني: يقتل بعضكم بعضاً، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ يقول: أنتم تتناقضون؛ اليهودي لا يقتل اليهودي ومع ذلك تقتلون بعضكم؛ لأن بعضهم كان حليفاً للأوس والبعض كان حليفاً للخزرج فتحصل المعارك بين الأوس والخزرج، فاليهودي يقتل أخاه اليهودي؛ لأنه في الفريق المعادي له.

ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، يقول: وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ يعني: أنتم كتب عليكم أشياء منها فك الأسير، وألّا يقتل اليهودي اليهودي، وألا يخرجه من بلده، يقول: فأنتم تقتلونهم وتخرجونهم ولكنكم تطلقونهم إذا كانوا أسارى، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.

فالشاهد: أن هذه الآية قد يَفهم منها بعضُ من قرأها أن الله لم يعذبهم: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فامتنع التعذيب؛ لأن الله كتب الجلاء، والجلاء تعذيب، ولكن المقصود هنا بالتعذيب المنتفي هو تعذيب خاص بالقتل والأسر كما وقع لقريظة، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ أما الجلاء فإن أبدانهم ما مُست بشيء لا بقتل ولا بجراح ولا بضرب ولكنه تعذيب وجداني، كون الإنسان يخرج من بلده هذه نكبة مصيبة، ولكن ليست كالقتل والأسر؛ ولهذا قال: لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَاوأثبت لهم عذاب الآخرة فقال: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ فانتفى عنهم القتل والأسر؛ لأن الله لم يكتب عليهم ذلك لا لمكانة لهم عنده، وإنما لحكمة علمها، ولعل من ذلك توفير قوى المسلمين لمعارك يستقبلونها، فإنهم لو دخلوا في حرب معهم سيصيب المسلمين ما يصيبهم من قتل أو جراح أو نحو ذلك، وقد عادوا حديثاً من رباط طويل على الخندق، وأصابهم ما أصابهم من الإنهاك والتعب، وبلغت القلوب الحناجر من الرعب والإرجاف، فكفاهم الله مؤنة هؤلاء اليهود.

وبعض أهل السير يذكر في صفة خروج بني النضير، وهذا وإن لم يعول عليه من جهة الرواية كما هو معلوم من حال المرويات في السير لكن يُذكر للفائدة والعبرة، وإن كان لا يعتمد، فهم يقولون: إنهم حينما خرجوا حملوا النساء والذرية، وأظهروا تجلداً عظيماً فخرجوا في طريقهم وقد عرفنا موقعهم في المدينة في جنوبها الشرقي، خرجوا وجاءوا من أجل أن يتجهوا إلى ناحية الشمال، أن يتجهوا إلى خيبر، وبعضهم خرج إلى أطراف الشام كما سبق، فمروا على بعض منازل الأنصار مثل أبي الحارث من الخزرج، ثم مروا على نواحٍ كالجبيلة والجسر حتى مروا بالمصلى قريباً من مسجد النبي ﷺ، ثم شقوا المدينة وجعلوا النساء في الهوادج، وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز، وحلي الذهب والفضة والمعصفر، ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحقيق ورفع جلد جمل وقال: هذا مما نعده لخفض الأرض ورفعها، فإن تكن النخل قد تركناها فإنا نقدم على نخل بخيبر، -يريد أن يتجلد، ومروا يقال: إنهم كانوا يحملون الدفوف ومعهم القيان يعزفن خلفهم تجلداً، حفلة، وهم قد أخرجوا بهذا الإخراج المذل المهين، وصفّ لهم الناس ينظرون ويتفرجون؛ لأنه يوم يفرح به أهل الإيمان، فجعلوا يمرون قطاراً في إثر قطار، مجموعات الإبل يربط بعضها ببعض فتكون مقطورة، ويتجهون في خط واحد، فتحملوا على ستمائة بعير، كل مجموعة من الإبل مربوط بعضها ببعض، وفي هذا الأثناء ظهر على المنافقين الحزن والكآبة والأسى؛ لخروج هؤلاء اليهود كما يدافع بعض المنافقين الآن عن اليهود، ويحامي عنهم، وينتصر لليهود على إخوانه المسلمين.

وهناك أشياء حدثت لبني قريظة من التجلد، مثل ما وقع للزبير بن باق حيث مَنّ في الجاهلية في حروب بعاث على ثابت بن قيس ، فجاءه ثابت بن قيس يعرض عليه المكافأة على تلك المنة السابقة، فقال له: هل تعرفني؟ فقال له: وهل يجهل مثلك مثلي؟ قال ثابت: إن لك يداً عندي، وذكر له قدرته على أن يجزيه بها، فقال الزبير هذا ابن باق اليهودي: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليك اليوم، فجاء ثابت للنبي ﷺ وطلب منه أن يهب له هذا اليهودي، فأعطاه إياه، فجاء إليه وأخبره أن النبي ﷺ قد وهبه له، فقال له الزبير هذا: شيخ كبير لا أهل لي ولا مال بيثرب ما أصنع بالحياة؟ يعني: كأنه يريد ماله وولده، فاستوهبهم ثابت بن قيس من النبي ﷺ، فوهبهم له، فرجع إليه وقال: إن النبي ﷺ وهبني ذلك، فقال له: يا ثابت أما أنت فقد كافأتني، وقد قضيت الذي عليك، ثم قال: يا ثابت ما فُعل بالذي كأن وجهه مرآة صينية تتراءى عذارى الحي في وجهه، يعني: لشدة جماله، وهو كعب بن أسد سيد قريظة؟ قال: قُتل، قال: فما فعل المجلسان، أي: بنو كعب بن قريظة وبنو عمرو بن قريظة؟ قال: قتلوا، قال: يا ثابت ما في العيش خير بعد هؤلاء، أرجعُ إلى دار قد كانوا حلولاً فيها، فأخلد فيها بعدهم، لا حاجة لي في ذلك، ولكن يا ثابت انظر إلى امرأتي، وولدي فإنهم جزعوا من الموت، فاطلب إلى صاحبك فيهم أن يطلقهم وأن يرد أموالهم، فطلب لهم ذلك ثابت بن قيس وأعطاه ما طلب إلا السلاح، قال الزبير هذا اليهودي: يا ثابت أسألك بيدي التي كانت عندك إلا ألحقتني بالقوم، يعني: اقتلني، فما أنا بسائر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة، يقول: ما هو إلا وقت يسير -لمجرد ما يستخرج الدلو من البئر ويصب ما فيه ثم يرجع- حتى ألقى الأحبة وهو كعب بن أسد، ومن قتل من اليهود كالمجلسين ونحوهما، فقدم وضربت عنقه، وفي بعض الروايات: أن ثابت قال له: ما كنت لأقتلك بيدي، فقال: لا أبالي من قتلني، فقتله الزبير بن العوام ، وجاء: أن أبا بكر الصديق لما بلغه قوله: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالداً مخلداً.

وهكذا حيي بن أخطب لما جيء به عليه حلة قد شققها في كل ناحية قدر أنملة، من أجل ألا يستفيد منها أحد، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى النبي  ﷺ قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يَخذل اللهُ يُخذل، يعني: الذي خذله الله لابد أن يقع له الخذلان، ثم أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.

حيي بن أخطب لما جيء به عليه حلة قد شققها في كل ناحية قدر أنملة، من أجل ألا يستفيد منها أحد، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى النبي ﷺ قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يَخذل اللهُ يُخذل، يعني: الذي خذله الله لابد أن يقع له الخذلان، ثم أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.

ولو صحت لكان لنا أن نعتبر، فنقول: إذا كان هؤلاء الكفرة شرار الخلق قد يحصل عند الواحد منهم بعض التجلد فإن أهل الإيمان أولى بالتجلد.

وأظهر إخواننا في غزة تجلداً لا نظير له، ما عرفناه في تاريخنا المعاصر، رجل يحمل طفلته تنزف من الدماء ولا تسمع منه إلا الرضا عن الله ، هذا أمر عجيب، ولم يتكدسوا على حدود ولا غير ذلك كما يجري عادة في الحروب، ما صارت أزمة إنسانية على الحدود وكما يحصل عادة.

ويقول الله -تبارك وتعالى- معللاً كل ما سبق: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الحشر:4]، فوقع لهم هذا الإخراج، وتخريب البيوت، وأخذ الأموال، وقذف الرعب، والعذاب في الآخرة كل هذا بأنهم شاقوا الله ورسوله، والباء للتعليل، بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، والمشاقة هي المخاصمة والمعاداة، مأخوذة من الشق، كأن هذا في شق وهذا في شق، مثل المحادة كأن هذا في حد وهذا في حد، والعداوة كأن هذا في عدوة وهذا في عدوة.

ثم جاء بالحكم العام: وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الذي وقع لهم بسبب المشاقة، ولو وقف هنا لفهمنا من ذلك التعميم بالعلة، بمعنى: أن الذي وقع لهم بسبب المشاقة، فكل من شاق فهو مستحق لهذه العقوبة، ولكن الله قد صرح بذلك تصريحاً في قوله: وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فهذا الأمر لا يختص بيهود بني النضير لمعنى يختص بهم، وإنما ذلك يعم كل من وقع في هذه المشاقة، كل من شاق الله ورسوله فإن العذاب ينتظره، وهذا أمر يجب أن يكون منا على بال، فهؤلاء الكفار بجميع طوائفهم هم مشاقون لله، ورسوله ﷺ، ولن يغني عنهم ما يملكون من القوى، والإمكانات والقُدر والأسلحة التي يرهبون بها الناس، ويذكرون التصريحات والأرقام، فإن ذلك يتلاشى جميعاً إذا جاء أمر الله وكان أهل الإيمان بحال يرضاها الله -تبارك وتعالى- عنهم من التوكل عليه، والثقة به وإعداد ما يستطيعون من القوة، ولن يستطيع أحد أن يقهرهم أو أن يغلبهم؛ لأن الذين يشاقون الله ورسوله هم يعادون الله، ومن يعادِ الله فلن يتمالك، ولن يستطيع أن يصمد إطلاقاً، دعك مما يقع في قلبه من الرعب الذي يزلزله، فهو يفر بمجرد ما يسمع التكبير.

أهل غزة لو كان عندهم طائرات وصواريخ وغواصات ودبابات ماذا سيفعل اليهود ليس الذين في فلسطين فحسب بل الذين في العالم؟ يمكن أن يقبروا أنفسهم وهم أحياء، وربما تأتيه جلطة فيموت، رعب وهلع من أُناس عُزَّل، ما استطاعوا أن يدخلوا عليهم، ولا استطاعوا أن يواجهوهم، ولا يقاتلوهم، حرب ثلاثة أيام تتحول إلى ثلاثة أسابيع أو أكثر، فهذا أمر فيه عبرة عظيمة.

ثم يقول الله -تبارك وتعالى: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [سورة الحشر:5]، اللينة هي النخلة، على قول عامة أهل العلم، ولا يلتفت إلى غير ذلك من الأقوال، مع صرف النظر عن هذه النخلة هل ذلك يقال لعموم النخل أو يقال لنخل خاص، كما يقول بعضهم: إنه في جميع النخل إلا العجوة، هذا قال به كثير من المفسرين، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري –رحمه الله، وهو قول الخليل بن أحمد وطائفة من أئمة اللغة والتفسير، وبعضهم يعمم ذلك في جميع النخيل، وبعضهم يخصه في كرام النخل، وبعضهم يقول غير هذا، لكن المقصود هنا: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أي: من نخلة.

أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا يعني: لم تقطعوها، يعني: قائمة على ساقها، يعني: جذعها.

فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ علاقة هذه القضية أنه في وقت الحصار لبني النضير كانت لهم حوائط خارج القرية المحصنة، حوائط في الخارج، وهذه الحوائط يعني: المزارع فيها النخيل كما هو معلوم، وكان بنو قريظة أهل نخيل، وأهل زرع وحرث، ومعلوم أن أهل النخيل يحبون النخل محبة لربما تعدل محبة الأولاد، وقد تزيد عند بعضهم، وهذا النوع من التعلق يوجد عند بعض الناس إلى يومنا هذا، وقد ذكر الألوسي -رحمه الله- صاحب تفسير روح المعاني -وهو من أهل العراق، والعراق من أكثر البلاد زراعة للنخيل- عن بعض من سمع منه من أهل النخيل: أنه يود لو أن إبهامه شقت ولا يشق عسيب نخلة، يعني: يخاف على عسيب النخلة أعظم مما يخاف على يده وأطرافها من شدة محبته له، ولو نظرتم في حال بعض الذين يعتنون بها عناية كبيرة فإنك تجد عندهم مثل هذا، يحصيها ويعرف ماذا حصل لها من نقص في كل يوم، ومن قطع، فحصل في وقت الحصار أن بعض النخيل -وهو عدد قليل جداً- قطعت؛ من أجل الضغط على اليهود، فهم يرون من فوق الحصون، وهذه من أعز الأموال تعبوا فيها وفي سقيها في كل يوم، فيرونها تقطع، فمن أجل الضغط عليهم قد تكون قطعت في ناحية من أجل توسيع معابر أو للحاجة إلى جذوع من أجل التسلق على الحيطان والقلاع والحصون.

وقد يكون من أجل إيقادٍ ونحو ذلك، المهم أنه قطعت بعض النخيل وهي قليلة من تلك المزارع الواسعة التي كانت تعرف بالبويرة، وفي بعض المرويات في السير: أنه أحرقت بعض النخيل؛ إغاظة لهم، وفي هذا يقول حسان بن ثابت يذكر ما وقع للمشركين حينما انطلقوا راجعين إلى مكة وتركوا اليهود يواجهون مصيرهم المحتوم:

تفاقدَ معشرٌ نصروا قريشاً  وليس لهم ببلدتهم نصيرُ

يقصد النضير.

وهان على سَراة بني لؤي حريقٌ بالبُويرة مستطيرُ.

فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:

أدام الله ذلك من صنيعٍ وحرّق في نواحيها السعيرُ
ستعلم أينا منها بنُزْه وتعلم أيَّ أراضينا تضيرُ

يقول: نحن في مكة بعداء عن هذا، والحريق هو في أطراف بلدتكم ومدينتكم وفي نواحيكم، فأنتم الذين تتضررون من هذا ونحن متنزهون عنه.

فهذه الآية: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فلما حصل هذا التقطيع أرجف اليهود، استخدموا سلاح الإعلام وقالوا: أنت يا محمد تدعو إلى الصلاح والإصلاح، وقطع النخيل من الإفساد في الأرض، فالقرآن يعالج هذه القضايا على طريقته الفذة، فرد عليهم بأن الصحابة اختلفوا في قطع النخيل: بعضهم قطع، وبعضهم امتنع، بل منع من ذلك، وقالوا: إن هذه ستصير إلى المسلمين، والذين قطعوها يرون أن ذلك لم يحصل للمسلمين بعدُ وأنهم لا زالوا في الحصار وأن ذلك فيه نكاية للعدو، فاختلفوا، واليهود أرجفوا وغاظهم هذا الفعل، فنزلت هذه الآية تعالج هذا الموقف، وترد على اليهود: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ معالجة رفيعة جداً، ولم يجعل اللوم على المسلمين وإنما قال: فَبِإِذْنِ اللَّهِ.

كما قال الله -تبارك وتعالى- في نظائره لما قتل ابن الحضرمي في الوقعة المعروفة في السيرة في أول ليلة من الأشهر الحرم وكان الصحابة لم يعلموا بدخول الشهر الحرام، فأرجف المشركون فقالوا: هذا يقول على دين إبراهيم ويدعو إلى ملة إبراهيم وهم ينتهكون الشهر الحرام، فرد الله عليهم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [سورة البقرة:217]، ثم قال رداً على المشركين: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ وهي الكفر، أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ القضية التي تتعلق بالمسلمين من انتهاك حرمة الشهر الحرام رد عليها بكلمتين: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ لم تتحول إلى شناعة استُغرقت فيها كل الجهود والإمكانات، لكن أفعالكم، فأنتم تكفرون بالله وتصدون عن المسجد الحرام وما إلى ذلك، هذه الطريقة الصحيحة في المعالجة للقضايا التي يثيرها أعداء الإسلام على المسلمين.

يتهمون المسلمين بالإرهاب وهم من يأتي ويرمي الأطنان على رءوس النساء والأطفال، ويرمون المواد المشعة، والمواد الحارقة، وأنواع الأسلحة التي تجرب على رءوس المساكين، ويهدمون عليهم بيوتهم، ويجعلون المساجد قاعاً صفصفاً، وهم أهل ذلك وأخص به وأولى، فالمسلمون ينبغي أن يستفيدوا من طريقة القرآن لمعالجة هذه القضايا لا أن الكفار يجرونهم ويستفزونهم ويستخفونهم ليقعوا فيما أراد الكفار لهم أن يقعوا به، فيتحول كل التفكير والجهد الذهني والبدني إلى اشتغال بعضهم ببعض، فلا نصدق ما يصموننا به وينسبوننا إليه، ثم بعد ذلك نحن نشتغل بأنفسنا.

وهذا الرد: فَبِإِذْنِ اللَّهِ الإذن هنا يحتمل أن يكون الإذن الشرعي، وإذا كان هذا الإذن الشرعي استنبط منه الفقهاء كالإمام مالك -رحمه الله- أنه في حال الحصار مع العدو في الحرب يجوز للمسلمين أن يخربوا المرافق الحيوية للعدو، وما كان فيه نكاية وإغاظة، وهذا في حال الحصار والحرب مع المشركين، فلا يتوهمه بعض الناس الآن من أنه يريد أن يضرب المصالح الفلانية، ويضرب المصالح هنا وهناك، فينقل الحرب إلى بلاد المسلمين، فهذا جهل وضرره وفساده عائد إلى المسلمين، والكفار يجيدون الفرص في مثل هذه التصرفات لمزيد من التسلط، وهذا الذي وقع، لكن حينما تكون حرب قائمة بين المسلمين والكفار، وحاصروا بلداً من بلاد الكفار يجوز لهم أن يضربوا المرافق الحيوية للكفار، من طرقات ومحطات كهرباء، إلى غير ذلك من أجل شل حركة العدو، وهذا الذي يفعله الناس في الحصار إلى يومنا هذا، ففي الحروب تضرب المرافق، وتنطفئ الكهرباء، وتضرب المياه، ويضرب كل شيء.

فاستنبط منه الإمام مالك -رحمه الله- وبعض أهل العلم هذا المعنى في حال الحصار، وما كان فيه نكاية بالعدو، وإذا كان الإذن هو من قبيل الإذن الكوني، والإذن الكوني أن هذا أمر وقع قدره الله وقضاه فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وهذا أمر لو شاء الله لم يكن، والأقرب -والله أعلم- أن الإذن في هذه الآية يشمل هذا وهذا، فهو إذن شرعي؛ لأنه لو لم يأذن الله به لبين حكمه وأنكره، وبما أنه واقع فقد حصل فيه الإذن الكوني، فاجتمع فيه الإذن الكوني والإذن الشرعي.

ثم ذكر تعليلاً قال: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ليذلهم فيحصل به من إغاظتهم وكسر نفوسهم وإيلامهم، وهذا الفسق المقصود به الفسق الأكبر وهو الكفر بالله ، وهذا يدل على أن هذا الإذن إذن شرعي؛ لأن الشارع قصده وأراده شرعاً، قال: وَلِيُخْزِيَ أي: من أجل أن يخزي الفاسقين، فما يحصل به إغاظتهم فإن الله  يحبه ويأذن به لكن بضوابطه الشرعية.

وسورة الحشر موضوعها الرئيس الذي تتحدث عنه هو وقعة النضير، وما يذكر بعد ذلك ففي غالبه ومجمله مما يتصل بها؛ ولهذا نستطيع أن نقول: إن موضوع هذه السورة هو وقعة النضير وما نتج عنها وما يرتبط بها؛ ولهذا جاء الحديث عن الفيء؛ لأن هذا الفيء هو أول مال صار إلى المسلمين من غير قتال، الغنائم التي حصلت للمسلمين في وقعة بدر ذكر الله حكمها في سورة الأنفال: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [سورة الأنفال:41]، فجعل أربعة أخماس الغنيمة للمقاتلين، هذا في الغنائم، والخمس: جعله على خمسة أقسام، وهي هذه التي ذكرها الله فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ سهم الله، وسهم رسوله ﷺ واحد، وأما الفيء فإن حكمه يختلف عن حكم الغنيمة، فالله ذكر في الآية الأولى قال: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة الحشر:6]، والضمير في قوله: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يرجع هنا إلى يهود النضير، وإن كان ذلك ليس بقاطع، وهو يحتمل "منهم" يعني من الكفار من أعدائكم من أعداء الإسلام يحتمل، ولكن الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والذي ذكر قبل ذلك هم يهود النضير، فهذه الآية: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الفيء فيه كلام طويل وتفاصيل كثيرة لأهل العلم، والأرجح أنه يختلف عن مال الغنيمة، وأن مال الغنيمة يقسم كما في آية الأنفال، وأما الفيء فهو المذكور هنا، فاء إلى المسلمين يعني: انتقل إليهم من عدوهم، فاء: تقول: فاء الظل، والفيء هو انتقال الظل من ناحية إلى ناحية، وإذا انتقل بعد الزوال يقال له: فيء، وإذا صار إلى الناحية الأخرى، فهذا المال انتقل من الكفار إلى المسلمين من غير قتال، وهذا هو الفيء، والغنيمة ما حصل عليه المسلمون من أموال الكفار بالقوة بالقتال.

وفي هذه الآية الله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ والإيجاف هو الإسراع، وهو نوع من المشي، أو نوع من الإسراع، يقال: وجف الفرس إذا أسرع بإيقاع، فهو السير السريع بإيقاع، فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الخيل معروفة، والركاب المقصود بها الإبل التي أعدت للركوب، ولا زال الناس يطلقون عليها هذا إلى اليوم، والخيل -والله تعالى أعلم- ترمز إلى شيء، والركاب ترمز إلى شيء آخر، فالخيل ترمز إلى الإغارة على العدو؛ لأنها تستعمل في الإغارة، وفي قصة أُحد حين أمر النبي ﷺ عليًّا أن يتبع المشركين وينظر فإن جنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة، يعني ركبوا الإبل، وإن ركبوا الخيل فهم يريدون المدينة، فالخيل للهجوم والإغارة؛ لأنها تحسن الكر والفر، وأما الركاب فتستعمل للسفر الطويل، وإذا أدركنا هذا المعنى نستخلص ونخرج بنتيجة وبمعنى: كأن الله يقول لهم: هذا المال الذي حصل لم يحصل بكدكم ولا تعبكم، فإنه لم يحصل بإغارتكم على عدو ولا بسفر طويل قطعتموه حتى حصل لكم ذلك، لم تبذلوا فيه تعباً.

فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ يعني: لم تقطعوا عليه أو إليه شُقة، ولا لقيتم حرباً ولا مشقة، كأن هذا تمهيد لبيان حكم هذا الفيء أنه ليس كالغنيمة، فلا تنتظروا شيئاً في الفيء، فإنه يختلف عما عهدتم وعرفتم من أحكام الغنائم.

ومن أهل العلم من يقول في قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: إنها خاصة ببني النضير؛ لأن الله قال: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ من بني النضير، فالحكم يختص ببني النضير فقط، فهي لرسول الله ﷺ؛ ولهذا قال: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء ليس لكم منها شيء؛ ولهذا فالنبي ﷺ قسمها بين المهاجرين، إذاً لم يراعِ فيها: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [سورة الحشر:7]، فمن أهل العلم من يقول: هذه الآية لا تتعلق بموضوع الفيء وأحكام الفيء، وإنما هي خاصة ببني النضير؛ لأن الله قال لهم: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ فجعلها لرسول الله ﷺ خاصة؛ ولهذا لم يعط الأنصار، لم يقسمها بين الأنصار قيل: قسمها بين المهاجرين، وقيل: إنه أعطى ثلاثة من الأنصار لحاجة، وإنه أعطى سعدَ بن معاذ سيفَ بن أبي الحقيق.

ويحتمل أن تكون هذه الآية خاصة، وقد صحت بعض الروايات التي تدل على أن النبي ﷺ لم يقسمها، والطريقة التي ذكرها الله في الآية التي بعدها، فهذا يؤيد أن هذه الآية خاصة ببني النضير، جعلها الله لرسوله ﷺ يتصرف فيها كما شاء، ويحتمل أن يكون ذلك توطئة لما يذكر بعده، فأراد أن يروض نفوسهم لأجل ألا يتطلعوا إلى شيء من هذا الفيء، فقال: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء ثم بين حكمها بعد ذلك أنها ليست بحق للمقاتلين وإنما لها طريق آخر في القسمة، وهي الآية التي بعدها، قال: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى هناك قال: "منهم"، وهنا: مِنْ أَهْلِ الْقُرَى هنا يبين حكم الفيء عموماً، ثم ذكر الأصناف الخمسة المذكورة في خُمس الغنيمة، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، والعلماء -رحمهم الله- تكلموا كثيراً على هذه الآية، أولاً: هل هي متعلقة بالآية التي قبلها أو هذا ابتداء كلام جديد؟ فهناك عطف بالواو: وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، وهنا قال: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، فذكر أهل القرى ولم يقل: منهم، ولم يأت بالواو، وقالوا: هذا ابتداء كلام جديد، هكذا قال طائفة من أهل العلم؛ ولهذا اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً في أحكامها، وأحكام الفيء، وكيفية أن يقسَّم وما حقيقة الفيء؟، ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذه الآية مبينة لحكم الفيء، وأنه يختلف عن حكم الغنيمة لما ذكرت، فيقسم إلى أقسام خمسة ليس ذلك بحق مكتسب، كما يقال للمقاتلين، كما هو في الغنيمة لهم أربعة أخماس، هنا لا، جعلها الله في خمسة أقسام، والشافعي -رحمه الله- يقول: إن الآية السابقة وهذه الآية كل ذلك يتحدث عن الفيء وتلك مثل التوطئة لهذه، وبعضهم يقول: لا، تلك في بني النضير فقط، فجعلها الله لرسول الله ﷺ، وهذه تبين عموماً أحكام الفيء، والأمر في هذا يسير، لكن الإشكال في قول من يقول: إن الفيء هو الغنيمة، أو يقول: إن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال، أو يخص ذلك بالجزية أو الخراج فقط، فهذه الأقوال على كل حال فيها إشكال، الجمهور يقولون: هذه الآية غير متعلقة بالآية التي سبقت، لكن ما هي التفاصيل؟ يختلفون في ذلك اختلافاً كثيراً، وهذا الذي قال به مالك والأحناف، جعلوا الأولى في بني النضير خاصة، وهذه في أحكام الفيء عموماً أيًّا كانت، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى سهم الله وسهم النبي ﷺ واحد، فكان النبي ﷺ يأخذ نفقة أهله سنة، والباقي يجعله في الكراع والسلاح، يعني: في المراكب للحرب، يشترى به الخيل والإبل ليركب الناس عليها، والسلاح، ويمكن أن نقول الآن: يجعل في المصالح العامة للمسلمين، تُبنى به المستشفيات، والمدارس، وتشترى به الآلات الحربية، وتصنع منه الطرق، إلى غير ذلك من المصالح العامة، هذا سهم الله وسهم الرسول ﷺ، فهذا سهم واحد، وتبقى الأسهم الأخرى: وَلِذِي الْقُرْبَى المقصود بهم قرابة النبي ﷺ، وأهل العلم اختلفوا هل يختص ذلك بالفقراء منهم لأنهم حرموا من الزكاة؟، والأقرب أن ذلك لا يختص بالفقراء، وإن كان القائل بأن ذلك يختص بهم له حجة، وله مستند من النظر، ولكن لا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل، والأقرب أن الفيء يعطى منه الخمس لذوي القرابة، يعني قرابات النبي ﷺ وذوي القربى وإن لم يكونوا فقراء، واليتيم من فقد أباه وهو دون البلوغ، وهذا يختص بالفقراء منهم، وهو موضع إشكال، فهناك قلنا: يشمل الجميع، وهنا نقول: للفقراء، مع أن الله -تبارك وتعالى- أطلق ذوي القربى هناك وهنا، وهذه حجة من يقول: إذا قلتم ذوي القربى يختص بالفقراء فقولوا: إن القرابات أيضاً يُختص بفقرائهم.

فاليتامى الفقراء منهم، أما إذا كان اليتيم غنياً فلا يعطى، وأما المساكين فهم الفقراء؛ لأن الله أفردهم هنا، ومعلوم أن المسكين إذا ذُكر دخل فيه الفقير إلا إذا اجتمع الفقير والمسكين فيكون لكل واحد معنى.

وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع في سفره، فقدَ نفقته أو انتهت نفقته أو نحو ذلك، فإنه يعطى ما يكفيه حتى يرجع مما يصلح لمثله، وهذا يختلف باختلاف الناس، فقد يكون هذا في بلده من الأغنياء ويركب الطائرات، ولا يسكن إلا في فنادق على مستوى معين، ولا يأكل إلا طعاماً على مستوى معين، ومع ذلك فيعطى؛ لأنه لا يصلح لمثله أن يهان، فلا يقال له: نحن نعطيك ما يسد الرمق، وتركب في أي مركب يوصلك، لا، بل يعطى ما يصلح لمثله، فمن كانت عادته ركوب الحافلات يعطى تذكرة ركوب حافلة، ومن كانت عادته أن يسكن شققاً مفروشة متواضعة بسيطة يُعطى ما يصلح لمثله، ومن كان لا يسكن إلا بفنادق فخمة يُعطى ما يصلح لمثله، ولو كان غنياً في بلده بحيث لا يحتاج، ولا يكون ذلك على سبيل الإقرار، هذا إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى ماله، أما اليوم: البطاقات، والحوالات السريعة، فلا يعتبر هذا ابن سبيل إلا إذا تعذر وصوله إلى ماله، كأن يكون هذا الإنسان فقد كل شيء حتى بطاقته، والمعلومات التعريفية، حتى لو جاءت حوالة ستطلب منه هذه الأشياء، ولا يستطيع أن يأخذ من حسابه ولا غير ذلك مثلاً، فقدَ كل شيء، فالشاهد أنه يعطى ما يصلح لمثله.

ثم علل الله هذا التقسيم الذي لا يشترط فيه التساوي -على الأرجح- وإنما بحسب حاجاتهم، قد لا يوجد عندنا ابن سبيل ولكن عندنا أيتام كثر بعد الحرب، فهؤلاء من الممكن أن يأخذوا نصيب الأسد من هذه الأموال، وهكذا.

قال: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ والدُولة بالضم من التداول، فالشيء المتداول ذلك الذي يتداوله المتداولون يقال له: دُولة، والتداول هو التعاقد في التصرف بالشيء، وإن كان في عرف الاستعمال يقال ذلك في خصوص المال، المال الذي يتداوله الناس يقال له: دُولة.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ فالشارع يفتت الثروة والأموال لتصل إلى أوسع نطاق في المجتمع، فلا تبقى الأموال حكراً بيد الأغنياء فيزدادوا غنى ويزداد الفقراء بؤساً وفقراً؛ ولهذا تلاحظون حتى الميراث، والأموال الخاصة، والممتلكات إذا مات الميت ما تذهب إلى ولده الأكبر مثلاً، أو إلى أولاده فقط من صلبه، شيء يذهب للأم، وشيء يذهب للأب، وشيء يذهب للبنات والأولاد، وهكذا بالقسمة الشرعية المعروفة يفتت هذا المال ويتوزع، كل من مات يوزع ماله، وقل مثل ذلك فيما يجب من مال الركاز مثلاً، والأموال المشابهة التي تحصل للإنسان، فالشارع قصد أن يصل ذلك إلى آخرين من أجل ألا يبقى المال بأيد مخصوصة محدودة معينة تزداد ثراء والبقية يعيشون في الحرمان.

ثم قال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [سورة الحشر:7] والسياق هنا في العطاء المالي، وهنا يريد أن يروض نفوسهم ويقول لهم: لا تطلبوا شيئاً ليس لكم، أو تطمح نفوسكم في أموال قد لا تصل إليكم، وإنما ما جاءكم من غير استشراف فخذوه، والأدلة على هذا كثيرة.

فالسياق في قوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ يعني: ما أعطاكم من المال، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ يعني: من المال، ويدخل في ذلك ما آتاكم من التشريع والأمر والهدايات فخذوه؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وأن الله -تبارك وتعالى- قال: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا فقابله بالنهي، فكأنه يقول: ما أمركم به فافعلوا، تلقوه عنه بالقبول، خذوه، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوافالآية سياقها في الأموال، وهي صادقة على هذا المعنى في العطاء المالي، وتشمل أيضاً ما آتاكم من الأمر، والهدايات، والتشريع، وما أشبه ذلك فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا؛ ولهذا يقول النبي ﷺ: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم[1]، ومما يدل على صحة هذا الفهم الحديث المخرج في الصحيح حديث ابن مسعود لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والنامصات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله...[2] إلى آخره، فجاءت امرأة يقال لها: أم يعقوب فذكرت أنها قرأت المصحف ولم تجد ذلك فيه، فقال لها: أما إنك لو قرأتيه لوجدتيه، ثم ذكر لها هذه الآية: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، فهذا في قضايا التشريع، فهكذا فهم ابن مسعود .

ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ كما هي العادة في القرآن حينما يبين لهم أحكام التشريع يذكر لهم ما يحصل به لزوم تلك الأحكام من التذكير بالله ، وما عنده من الثواب، وما عنده من العقاب لتوجد الرقابة الذاتية في نفوسهم، ومن أجل تحقيق الانقياد، والقبول لأمر الله، وأمر رسوله ﷺ.

ثم بعد ذلك قال: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر:8]، هذه الآية الأرجح أنها تتعلق بأحكام الفيء، فكما أن الفيء يوزع على هذه الأقسام، فكذلك أيضاً يبين مَن أولى الناس به، ومن أحق الناس به؟ أولائك الذين هاجروا إلى الله ورسوله ﷺ وتركوا وراءهم كل شيء، كان الرجل يأتي ليس عليه إلا إزار، ما عنده شيء، ترك كل شيء الوطن والأهل والعشيرة والمال، وقد يكون صاحب ثروة، فهؤلاء أولى الناس أن يعوضوا، وأن يعطوا من هذه الأموال التي تصير إلى المسلمين فقال: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فخروجهم كان بتسلل وخفية وإلا فإن الكفار لا يريدون منهم الخروج بل يريدون اضطهادهم من أجل ألا ينتشر الإسلام، لكن لما اضطرهم الكفار إلى الخروج كان ذلك بمنزلة الإخراج، فهم الذين تسببوا فيه؛ ولهذا قال الله يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [سورة الممتحنة:1]، مع أن النبي ﷺ خرج خفية، فجعلهم هم الذين أخرجوه؛ لأنهم تسببوا في هذا الإخراج بالتضييق الذي فرضوه على المسلمين.

أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ والديار هي مكان القبيلة أو مكان تسكن فيه القبيلة، أو القرية التي يسكنها الناس، أو نحو ذلك، أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والآيات تتعلق بها جملة من الأحكام، مثل أرض مكة هل تُملك البيوت فيها؛ لأن الله قال: أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ فنسب الديار إليهم؟، إلى غير ذلك من الأدلة التي يستدل بها.

قال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وهذه شهادة من الله لهم بصحة مقاصدهم وسلامة نياتهم، وأن هجرتهم هذه يريدون بها ما عند الله ، لم يهاجروا من أجل دنيا، والنبي ﷺ يقول: ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه[3]، هؤلاء شهد الله لهم بسلامة مقاصدهم وحسن نياتهم، وأنهم يريدون ما عنده، قال: وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

ثم قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ جاء باسم الإشارة للبعيد، وجاء بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام، وهذا يشعر بالحصر، كأنه حصر صفة الصدق بهم، كأنه لا صادق إلا هؤلاء، وهذا فيه من الثناء على المهاجرين ، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة .

ثم قال الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] الآية، هذا ثناء على الطائفة الثانية وهم الأنصار، فالمجتمع في المدينة كان ينقسم إلى مهاجرين وإلى أنصار، فالذين تبوءوا الدار والإيمان، التبوء بمعنى: النزول والسكنى، تبوءوا الدار، يعني: سكنوا الدار واستوطنوها، لكن هنا يرد إشكال: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ إذا قلنا: إن الإيمان معطوف على الدار فهل الإيمان يُسكن؟ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ فالدار تسكن، لكن الإيمان ليس وطناً فيُسكن، فكثير من أهل العلم يقولون: هنا محذوف مقدر، والذين تبوءوا الدار واعتقدوا الإيمان، والعرب تحذف من الكلام ما يفهم من السياق، وبعضهم يقول: تبوءوا الدار ولزموا الإيمان، فلفظة لزموا هذه يدل عليها التبوء، السكنى، فكأنهم لزموا الدار ولزموا الإيمان، كما قال الله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ [سورة يونس:71] أي: وادعوا شركاءكم، والشاعر يقول:

ورأيت زوجَك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً

التقلد للسيف معروف، العرب تربط السيف برباط بالعنق، قلادة يعني يلبس كالقلادة، والعجم يضعونه في السير الذي في الوسط، الحزام الذي في الوسط، هذه طريقة الأعاجم، لكن الرمح ما يُتقلد وإنما يحمل، ورأيت زوجك في الوغى، يعني: في الحرب، متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً، ففيه مقدر محذوف، والعرب تفهم ذلك مِن خطاب مَن خاطبها.

والتبوء في قوله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ هو النزول والاستقرار والتمكن، وأصله من اتخاذ المباءة وهي المكان أو البقعة التي يبوء إليها صاحبها، يعني: يرجع بعد انتشاره في حاجاته، والمعنى: أنهم آمنوا قبل مجيء المهاجرين إليهم، وهذا يجيب على سؤال معروف أن الله قال عن الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ومعروف أن المهاجرين أسلموا قبل الأنصار، أليس كذلك؟

ثم انتقل الإسلام المدينة، وبعث إليهم النبي ﷺ مصعب بن عمير ، فالمراد بقوله تعالى: مِن قَبْلِهِمْ هو مجموع الأمرين: سكنى المدينة مع الإيمان، كان ذلك قبل المهاجرين، تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ، المقصود بالدار المدينة، وقد اعتبر أهل العلم من أسماء المدينة: طيبة وطابة والدار والمدينة، وأصل الدار تطلق على البلاد أو موضع، في أصلها موضع القبيلة من الأرض، وصارت تطلق على القرية أو المدينة أو نحو ذلك.

المقصود بالدار المدينة، وقد اعتبر أهل العلم من أسماء المدينة: طيبة وطابة والدار والمدينة، وأصل الدار تطلق على البلاد أو موضع، في أصلها موضع القبيلة من الأرض، وصارت تطلق على القرية أو المدينة أو نحو ذلك.

فالأرجح أنها معطوفة على ما قبلها، فهؤلاء لهم حق في الفيء، وهذا الذي مشى عليه عمر بن الخطاب ، وإن لم يكن هذا محل اتفاق.

ثم أثنى النبي ﷺ على هؤلاء الأنصار بهذه الصفات العجيبة: تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ والعادة أن القبائل أو أهل القرى يكرهون نزوح الآخرين إلى ديارهم، وربما حصل قتال إذا نزحت قبيلة إلى ناحيتهم وإلى أرضهم، قاتلوهم على المرعى، وعلى الماء، وعلى مقاربة الديار التي يسكنونها، أما هؤلاء من الأنصار فكانوا يحبون من هاجر إليهم، وهذه شهادة من الله أن المسألة لم تكن عبارة عن مجاملات ومصانعة كاذبة أو نوع من التملق أو نحو ذلك، وبهذا نعرف ضيق العطاء عند كثير من الناس أصحاب النفوس الصغيرة الذين يضيقون ذرعاً بإخوانهم، لا يقولوا: الذين جاءوا من أجل أن يواسيهم إخوانهم ببعض ما في أيديهم، فأكثرهم جاءوا للعمل بعرق جبينهم، ويقدمون لهم أشياء تنفع المجتمع وتنفع الأمة، ومع ذلك تجد كثيراً من أصحاب النفوس الضيقة يتعامل مع هذه القضايا بأخلاق تدل على لؤم، كأنهم جاءوا ليأخذوا ما في يده، أو كأن رزقه سيتحول إليهم أو نحو ذلك، وللأسف هذه نفوس ما ارتاضت -كما ينبغي- بالإيمان، وما تربت هذه التربية الإيمانية القرآنية التي ذكرها الله   هنا، وينبغي على الإنسان أن يفتش نفسه هل هو كذلك؟، والناس في قراهم وفي أراضيهم وديارهم ومناطقهم ونحو ذلك لربما يتبرمون إذا جاء آخرون ونزحوا إليها من أماكن أخرى، هذا فضلاً عما لو جاءهم أحدٌ ممن نزلت به ضراء ومشكلة أو حرب أو مجاعة أو نحو ذلك فنزحوا إليهم كيف تكون أخلاقهم وحالهم وأعمالهم؟ والنفوس تحتاج إلى شيء من المراجعة، ولو قام أحد اليوم ببعض ما قام به الأنصار مع إخوانهم من المهاجرين لاتُّهم في عقله، واجلس مع نفسك وفكر قليلاً وانظر ستجد مصداق ذلك، الله يقول: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا هذه صفة أخرى مع المحبة، يحبون هؤلاء الذين جاءوا، ولم يقولوا: هؤلاء جاءوا ليضايقونا، ويضيقوا علينا، وقد صار المهاجرون أكثر من الأنصار في بعض الأوقات في المدينة، والمهاجرون ليسوا فقط هم أولائك الذين جاءوا من مكة، لا، هم الذين جاءوا من سائر النواحي من غير المدينة، بعضهم من الأعراب، وبعض هؤلاء من بني سليم، وبعض هؤلاء من جهينة، كل هؤلاء في عداد المهاجرين.

قال: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا الحاجة من الممكن هنا أن تكون بمعنى الحسد، لا يحسدون المهاجرين إذا اختصهم النبي ﷺ بشيء من العطاء، وهم بحاجة إلى تعويض، ذلك الذي تركوه، وفاتهم من أموالهم في ديارهم، فالأنصار لا يجدون في نفوسهم شيئاً من دوافع الغيرة أو الطمع، ولا تمتد نفوسهم، حتى لو أردنا أن نفسر الحاجة بمعناها المتبادر، الحاجة، بمعنى أنه يجد في نفسه تطلعاً وتطلباً لهذا الشيء الذي يُدفع للمهاجرين، لا يجدون في نفوسهم حاجة فضلاً عن الحسد.

مِّمَّا أُوتُوا يعني: مما أوتيه هؤلاء ممن هاجروا إلى المدينة.

وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] هذه صفة أخرى ثالثة، وإن شئت أن تقول رابعة إذا اعتبرت الأولى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ والإيثار هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية وهذا هو الأصل في الإيثار المحمود؛ ولهذا قال الله وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ في العطاء وفي الأموال وفي أرضهم وفي هذه الأشياء، وليس الإيثار بالطاعات؛ لأن ذلك يؤذن بالزهد بما عند الله ، والعلماء تكلموا على مسألة الإيثار هل يجوز للإنسان أن يؤثر الكبير كالعالم أو الوالد أو الإمام العادل أو نحو ذلك، كأن يقدمه للصف الأول، أو نحو ذلك هذا أمر ذكر النووي -رحمه الله- وبعض أهل العلم أنه سائغ لا إشكال فيه، ومن باب التوقير، لكن ما نفعله نحن أحياناً في أشياء غير مناسبة، فتجد أحياناً ناس فاتتهم الصلاة يريدون أن يصلوا وكل واحد يقول للثاني: تفضل صلِّ أنت، وأحياناً يتقدم إنسان لا يظهر عليه سيما التدين، يعني: تظهر عليه علامات المعاصي والمخالفات، وأحياناً هو الذي يتقدم في النهاية، كل واحد يقول للثاني تقدم أنت، والنبي ﷺ يقول: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..[4] إلى آخره، وإذا أراد الإنسان أن يدخل المسجد لا سيما يوم الجمعة كل واحد يقول للثاني: تفضل أنت،... يعني يؤثره بالدخول في قربة وطاعة، وفي الخروج يخرجه قبله على أن ذلك من قبيل الإكرام، وهذا ليس بهذه الصورة التي قد نتوهمها.

فالإيثار المحمود هو الذي يكون في الحظوظ الدنيوية، أما الأمور الأخروية فلا إيثار فيها في الأصل، وحديث ابن عباس : لما تَلَّه النبي ﷺ ودفعه إليه فقال: لا أوثر بنصيبي منك أحداً[5]، فالأنصار وصفهم الله بهذه الصفة: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وقد حفظت لنا الروايات جملة من أخبارهم ، وخبر عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع لما هاجر، أولاً، احتاروا حينما يهاجر الواحد من المهاجرين إلى المدينة يختصم عليه الأنصار، كل واحد يقول عندي، فكان النبي ﷺ يقرع بينهم قرعة لحل المشكلة، وآخى النبي ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع لابن عوف: أغلى ما أملك زوجتان وأدنى ما أملك نعلاي، فانظر إلى أيهما شئت أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجها، وأدنى ما أملك نعلاي خذ واحدة وأنا واحدة، وما بين ذلك هو بيننا، الآن لو أعطى إنسان زميله سيارته ربما يُلام ويعاتب من قبل أهله، ولربما ينتسبون إلى التدين والخير والصلاح، ولو أن هذا الولد جاء من المدرسة وقال: إن المال الذي أُعطي من أجل أن يشتري به شيئاً في نهاره أو في مدرسته قسمه مع أحد زملائه ليس معه شيء ربما يلام ويعاتب، ولو أنه قسم ملابسه مع زميل فقير أو نحو ذلك أو دفع شيئاً، أو إنسان يملك أموالاً فجاء وقسمها مع رجل آخر فقير أو مع جار فقير أو نحو ذلك، أو عنده سيارتان فقال: هذه لك اختر واحدة وأنا واحدة وخذها وكذا، أو عندي أرضيتان خذ إحداهما وأنا الأخرى، عندي فلَّتان اختر واحدة وأنا أخرج منها وتسكن فيها، وأنا أسكن في الثانية، فمن فعل هذا الآن ربما يتهم في عقله، وإذا ذهب إنسان إلى معارض السيارات وقال لهم: هذه السيارة فيها العيب الفلاني والعيب الفلاني والعيب الفلاني، فيتغامزون عليه ويقولون إنه مغفل درويش يمكن أن يُضحك عليه، وما علموا أن الغفلة هم أولى بها وأحرى، وللأسف الشديد ضاعت كثير من هذه المعاني، فكيف بالإيثار؟! فالذي يبين العيبَ أصبح في نظر كثير من الناس اليوم نوعاً من الغفلة والدروشة وقلة الخبرة.

وقصة أبي طلحة في الصحيح، مع ضيف رسول الله ﷺ، الرجل الذي نزلت به حاجة وجاء للنبي ﷺ ولم يجد النبي ﷺ في بيت أزواجه شيئاً، فأخذه أبو طلحة الأنصاري ، فما وجد أبو طلحة إلا طعام الصبية، فأمر امرأته أن تنوّم الصبية، وأن تطفئ السراج إذا وضعت الطعام فيتظاهر بالأكل[6].

وفي الصحيح أيضاً: لما أراد النبي ﷺ أن يُقطع الأنصار أموالاً أو أرضاً في البحرين، -والبحرين المقصود بها هو الساحل، فأبوا وقالوا: إلا أن تُقطع إخواننا من المهاجرين[7].

بل جاء في بعض الروايات: أنه لما حصل مثل هذا الفيء جمع النبي ﷺ الأنصار وخيّرهم قال: هذه الأموال، هذا الفيء، إن شئتم خرج المهاجرون من أرضكم وقسمته بينهم دونكم، وإن شئتم بقوا في أرضكم وقسمته بينكم، قالوا: لا يا رسول الله بل يبقون في أرضنا، واقسمه بينهم دوننا، هذه أخلاق عالية في قمة الإيثار، الطمع خرج من النفوس، مع أن الأرض في الأصل هي أرض الأنصار.

ولما هاجر المهاجرون وقاسموهم أموالهم -قاسمهم الأنصار الأموال- النبي ﷺ ذكر للأنصار أن المهاجرين ليسوا بأهل زرع، ما يحسنون هذا، واقترح على الأنصار أن يمسكوا الأرض تبقى ملكاً للأنصار، ويبقى الثمر بينهم على أن يكون العمل للأنصار، فقبلوا، يعني ما قالوا: أصلاً هذه أرضنا والثمر كله لنا، قالوا: نحن قبلنا بهذا أن نكون نحن الذين نعمل ولا يقاسموننا الأرض في التملك يعني وإنما يقاسموننا الثمرة.

وفي فترة وجيزة لما كان الناس يتقاتلون على أتفه الأشياء أصبحوا وتحولوا إلى هذا المستوى، وعندئذ تتأهل الأمة للنصر، ولا زلنا نسمع الآن في أحداث غزة من يتكلم من منطلقات ضيقة جاهلية، ولربما بعضهم يتذكر أشياء حقيرة تافهة تدل على تفاهة تفكيره: أن فلاناً كان معلمٌ فلسطيني لطمه وهو في السنة الأولى الابتدائية، أو قرص أذنه أو نحو ذلك، والنفوس ينبغي أن تكون أكبر من هذا، فتجد هذا يُردد في المجالس ولربما قال بعضهم: أنا أتبرع لليهود ولا أتبرع لفلسطين، وبعضهم قال: أريد أن أتبرع بالدم لليهود، ما في مكان يتبرع بالدم لليهود؟، هذا نوع نفاق، والنفوس أحياناً تظهر بعض كوامنها في مثل هذه المقامات.

ويقول الله وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يعني: هم حينما يقاسمون ويفعلون هذه الأشياء ليس من كثرة مال عندهم بل يفعلون ذلك مع الحاجة، وهذا هو أفضل الصدقة، كما في الصحيح: أفضل الصدقة جهد المُقل، والخصاصة هي الحاجة التي تختل بها الحال، كأن هذا الإنسان قد اختص بحاجته وانفرد بها من بين الناس، وبعضهم يقول: خصاصة من خصاص الدار مثل السقف في السابق كان من الخشب ويظهر فيه شيء من أشعة الشمس في بعض المسام فهي فرجة يقال لها: خلّة، يعني فهنا هذا الرابط وهو الخلة، فهنا خلة بمعنى الحاجة والفقر والمعنى يرجع إلى شيء واحد، لو كان بهم خصاصة، أي: ولو كان بهم فقر وحاجة وشدة، وهذا هو حقيقة الإيثار، أنت حينما تأتي وتجلس في مكان فيه عشرة كراسي فارغة وتقول لإنسان: تعال تفضل اجلس أنا أوثرك بهذا المكان وتجلس على الكرسي الآخر بجانبه، هذا ليس بإيثار، عندك ماء كثير متوفر وتقول لإنسان: تفضل أنا أوثرك بهذا الماء الذي في يدي ثم تأخذ قارورة أخرى، هذا ليس بإيثار، هناك طعام كثير وتقول له: تفضل أنا أوثرك بهذا الطعام الذي استدنيتَه ثم تأخذ ما هو أكثر منه، فهذا ليس بإيثار، إنما الإيثار حيث وُجدت الحاجة، ما في إلا هذا الطعام، ما في إلا هذا الشراب أو نحو ذلك، فهذا هو حقيقة الإيثار، وكان المهاجرون  أهل إيثار أيضاً، وقد حفظت لنا سيرهم أشياء وأشياء من هذا القبيل لا أطول بذكرها.

ثم عقب الله ذلك بقوله: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر:9].

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك، برقم (1337).
  2. رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
  3. رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907).
  4. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة؟، برقم (673).
  5. رواه البخاري، كتاب المساقاة -الشرب، باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، برقم (2237)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ، برقم (2030).
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحشر، برقم (4607)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، برقم (2054).
  7. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ للأنصار: اصبروا حتى تلقوني على الحوض، برقم (3583).

مواد ذات صلة