الأربعاء 26 / ذو الحجة / 1445 - 03 / يوليو 2024
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] لما تقدم الثناء على المسئول - تبارك وتعالى - ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل[1]، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسئوله، ثم يسأل حاجته، وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله إليه؛ لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24]، وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسئول كقول ذي النون : لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء:87]".
في قول موسى : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [سورة القصص:24] هذا فيه تعريض بالمسألة هو يخبر عن فقره، وحاجته، فهو تعريض بالمسألة، أما ترك السؤال أصلاً فهذا ليس بمشروع، وما ورد فيه لا يصح، ولذلك فالله يحب من عبده أن يسأله، وأن يتقرب إليه، وأن ينطرح بين يديه، وأن ينكسر، فهذه من العبادات التي يحبها الله .

وجه الإتيان بصيغة الجمع في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهدِنَا:هذا المقام هو مقام إعلان العجز، والضعف، والافتقار، والعبودية لله وهذه النون في نعبد، ونستعين، واهدنا هي للجمع وليست لتعظيم المرء نفسه، إذ لا يصح في هذا المقام أن يعظم الإنسان نفسه، لذلك يقال: إن الإتيان بصيغة الجمع هنا كان لأمرين هما:
أولاً: لدفع العجب عن النفس وذلك من جهة أنه لا يجعل من نفسه أنه الذي يحقق العبودية وحده في قوله إياك أعبد وإياك أستعين، وإنما هو واحد من هؤلاء العباد.
الثاني: أن ذلك أبلغ في التعظيم لله حيث إن العابدين لله كثير، فإذا قال: إياك نعبد فهذا أبلغ من إياك عبدت؛ لأنك لو أردت أن تمدح ملكاً وقلت: أنا وحدي الذي أطيعك، وأنا وحدي الذي أحترمك، وأنا وحدي الذي أقوم على خدمتك، وطاعتك، والانقياد لما تأمر به؛ يكون هذا ذماً وليس مدحاً.وبعض العلماء فهم أن هذا تعبير عن حاله وعن حال غيره، وعلى كل حال سواء قلنا هذا الجواب أو غير هذا الجواب فهذا أسلوب عربي معروف، يعبِّر به الصغار والكبار، الفقير والغني، والكبير والمعظم لنفسه، والبائس المعترف بفقره وحاجته، كلهم يعبرون بهذه الطريقة، ولا يقصدون التعظيم إطلاقاً.

 

"وقد يكون بمجرد الثناء على المسئول كقول الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء


الهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا..".


قوله: "الهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق" الهداية تطلق على المعنيين، لكن قوله في هذه الآية: اهدِنَا الصِّرَاطَ [سورة الفاتحة:6] يشمل المعنيين جميعاً: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، فهداية الإرشاد يدخل فيها الهداية إلى سلوك طريق العلم، فالله لا يعبد إلا بما شرع، ويدخل فيه أيضاً أن يهديه الله للعلم الصحيح إذ إن الكثيرين لا يوفقون لطلب العلم أصلاً فهم بمنأى عنه، ومن يسلك طريق العلم منهم من يقال له: ليتك ثم ليتك ما عرفت؛ لأنه يدرس ويقرأ ويبحث، ويخرج بنتائج معكوسة، فما كل الناس يوفق إلى معرفة الحق، ولذلك العبد مطالب أن يدعو ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وإذا وفق إلى معرفة الحق فهو مطالب أن يدعو ربه أن يوفقه للعمل به، فكثير من الناس يعلمون لكنهم لا يعملون، ثم إذا عمل به هو بحاجة إلى تثبيت على هذا العمل؛ لأن الكثيرين يعملون فترةً ثم بعد ذلك يتركون العمل.

فعندنا هداية إلى العلم، والعلم لا شك أنه مخالف لداعية الهوى في نفس الإنسان؛ لأن العلم يحتاج إلى مشقة، تترك النوم، تتعنى، تتعب في الجلوس، وطلب العلم أيضاً فيه تواضع، وكثير من الناس لا يوفقون؛ لأنهم لا يريدون أن يراهم الناس وهم جالسون في مجلس العلم؛ لأن الواحد منهم يربأ بنفسه عن التعلم، والواقع أنه لا أحد كبير على العلم، وليس هناك درس تربوي عملي، وإنما الأفضل لتربية النفس أن يجلس الإنسان ليتعلم، فلا يوجد شيء أنفع للإنسان من العلم؛ فالمتعلم يعرف قدره، ويتعلم، ولن يخلو من فائدة، وتحفُّه الملائكة، ويعلم نفسه الأدب والتواضع، والعلم إنما يكون في الأرض كالمطر للأرض المطمئنة، وإلا:

فالعلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي

فالعبد بحاجة إلى هذا؛ لأن الهوى يدفعه إلى خلاف ذلك من الإخلاد إلى الراحة والكسل فيبقى جاهلاً، وتجد أن تلاميذ تلاميذه يخرجون أحسن منه أضعاف المرات، حيث تجد شاباً صغيراً عمره خمس عشرة سنة ما شاء الله قد أتقن القرآن، وحفظ بعض المتون، ويعرف من المسائل والعلم ما لا يعرفها أستاذه الذي هو أكبر منه بكثير.
فالناس يحتاجون إلى هذه الهداية، ويحتاجون إلى هداية من ناحية العمل بالعلم، فكثير من الناس ليست مشكلتهم الجهل في تركهم الصلوات، وإنما المشكلة أنهم لا يعملون، ثم إنهم بحاجة إلى التثبيت على العمل أيضاً حتى يختم لهم بهذا، وهكذا يحتاجون إلى ألوان هدايات أخرى، وهناك أشياء أخرى ليست داخلة في هذا وإنما تدخل في عموم سؤال العبد ربه الهداية لغير هذا المقام، وهي الهدايات الأخروية عند سؤال الملكين، وعند الحساب بحيث يُلهَم حجته، وكذلك حينما يكون على الصراط بحيث يهدى إلى الجنة، ويهدى إلى منزله في الجنة، نسأل الله الهداية والتوفيق.

"وقد تعدَّى الهداية بنفسها كما هنا: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ فتضمّن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا".
التضمين كما سبق هو على نوعين: تضمين الحرف معنى الحرف - أعني حروف الجر -، وتضمين الفعل أو ما يقوم مقامه فعلاً آخر، أو معنى فعلٍ آخر، مثل هنا: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ فمعناها إذا عديت بنفسها ألهمنا، ووفقنا، وما أشبه ذلك، وهذا أبلغ، وهو داخلٌ تحت عموم قولنا: إن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

"وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10] أي بيَّنا له الخير والشر".
هداية الإرشاد تكون بـ"إلى" أي هديناه إلى الصراط المستقيم، وهنا لما قال: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ معناه ألهمنا أي وفقنا وارزقنا سلوكه واتباعه.

وقد تعدى بـ"إلى" كقوله تعالى: اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة النحل:21]، وقال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:23] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة، وكذلك قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وقد تُعدَّى باللام كقول أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [سورة الأعراف:43]، أي وفقنا لهذا، وجعلنا له أهلاً".

هذه ثلاثة ألوان في تعدية فعل الهداية، إما بنفسه فهو مضمنٌ معنى وفقنا، وإما بـ"إلى" فهو بمعنى الدلالة، وإما باللام فهو بمعنى التوفيق.وبعض العلماء يذكر معاني أخرى مع هذه التعديات المختلفة، والقاعدة في هذا الباب هي أن الفعل الذي تتعدد تعديته يكون له مع كل حرفٍ معنى يناسب ذلك الحرف، فمثلاً في قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [سورة الإنسان:6] نجد أن الباء في بِهَا ضمن معنى "من" أي عيناً يشرب منها، والأبلغ في ذلك أن يكون الفعل يشرب بمعنى يرتوي ويلتذّ وما أشبه ذلك وتبقى الباء على حالها.وليعلم أنه حتى على القول بأن الحرف ضمِّن معنى حرف آخر فإنه يبقى من الحرف الأول شيئاً من معناه، أي أن معناه الأصلي لا يزول بالكلية، وهذا ستأتي له أمثلة إن شاء الله.

 

"وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوجَّ الموارد مستقيم


قال: والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل".

 

يعني أن الأصل في استعمال الصراط أن يكون للطريق المستقيم الواضح، والمستقيم هو أقرب خط يربط بين نقطتين كما يقولون، فالقوس أبعد؛ لأنه متعرج، وأما المستقيم فهو أقرب هذه الخطوط للربط بين هاتين النقطتين.

وعلى كل حال إذا قلنا: إن الصراط بمعنى الطريق الواضح المستقيم، بمعنى إذا راعينا فيه أصل الإطلاق في المعنى فتكون المستقيم صفة كاشفة فقط لا تقيده؛ لأن الصفات منها ما تكون مقيدةٍ مثل قولك: رجلٌ طويل، فإنه قد خرج الرجل المتوسط، والقصير، وكقولك: رجلٌ مسلم، يخرج جميع أصناف الكفار، فهذه صفات مقيدة، وأما الصفة الكاشفة فهي التي تبين حقيقة الأمر من حيث هو لا أن تضيف إليه قيداً جديداً كقوله تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38]، فلا يوجد طائر يطير بغير جناحيه، وهذا بغض النظر عن المعاني البلاغية التي تذكر هنا، ومن ذلك قوله تعالى: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79]، وقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167].

لكن إذا قلنا: إن الصراط هنا يشمل في استعمال العرب المعوج والمستقيم فهنا تكون المستقيم صفة، يخرج بها الصراط المعوج.

وعلى كل حال فإن بعض أهل العلم يذكر أموراً لا بد أن تتوفر حتى يطلق على الشيء أنه صراط، وفي بعض هذه الأمور التي يذكرها نظر، فابن القيم - رحمه الله - مثلاً يقول: الصراط لا بد فيه من السعة، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن الصراط المنصوب على متن جهنم دقيق جداً.
"قال: ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول، وعمل، ووصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه، والمراد به الإسلام".الصراط المستقيم هو الإسلام، وهو القرآن، وكل ما ذكره السلف فيه فهو صادقٌ عليه؛ فهذا من اختلاف التنوع، والحاصل أن هذا الذي ذكره ابن جرير - رحمه الله - من استعمال العرب له في المعوج، وغير المعوج يكون ذلك على سبيل التوسع، فالعرب يتوسعون، فالجَلْد قيل في أصله: إنه الضرب بالجلود، ثم توسعوا فيه وصار يطلق على الضرب بكل شيء سواء كان بالعصا، أو بالسوط أو غير ذلك.

وكذلك اليمين فهو يطلق على الحلف حيث كان الواحد - من العرب - يأخذ بيمين صاحبه توثيقاً لهذا الحلف، ثم توسعوا فيه فصار يطلق على كل حلف، ولو لم يكن فيه هذا الوصف.
"روى الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان عن رسول الله ﷺ قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم[2] فإن قيل: فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك، فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟"

هذا هو السؤال الذي أجبت عليه قبل قليل، وكثير من العلماء يقولون: إن المقصود بذلك التثبيت، يعني اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ أي ثبتنا على الصراط المستقيم، وقد سبق بيان أن الهداية أوسع من هذا، فإذا عرف العبد الحق، وهُدي إلى العلم الصحيح، وعرف الصواب؛ فإنه بحاجة أيضاً إلى معرفة الأفضل في العمل في غير الفروض، وللأسف فإن كثيراً من الناس يقضي عمره القصير في أمورٍ مفضولة، فقد يجلس الإنسان في مثل هذه الساعة مثلاً وهو يقول: أنا أريد أن أذكر الله فأيهما أفضل أن يذكر ربه أم يشتغل بالعلم؟
قطعاً بلا تردد أن الأفضل له أن يشتغل بالعلم.
ومن الأمور المتفاضلة على سبيل المثال أن يتردد الإنسان بين أن يعتكف في المسجد يوماً أم يذهب في ذلك اليوم لإعانة فلان المسكين، أو فلانة الأرملة، فالأفضل بلا شك هو أن يذهب لإعانة المحتاجين، ومثال ذلك أيضاً أن يتردد بين أن يقرأ القرآن، أو يعود مريضاً، فعيادة المريض أيضاً أفضل، وأفضل الأعمال إذا أذّن المؤذن هو الذهاب إلى الصلاة.

فهكذا فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية المتمثلة في معرفة الأفضل، فالعمر قصير، والأعمال كثيرة، وشرائع الإسلام متنوعة، فإذا دخل في بابٍ فربما استغرق وقته، وجهده، ولذلك يحتاج أن يوفق للعمل الفاضل، والمقصود أن كل هذه هداياتٌ العبدُ بحاجة إليها.
"فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلاً ونهاراً إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها".الهداية ليست محصورة في الثبات عليها؛ فالإنسان تعرض عليه في كل ساعة أشياء وأشياء، وتحدث أمور كثيرة قد يضطرب فيها كثير من الناس، ويتقلبون، ويتلونون، وتتغير أحوالهم، فالعبد بحاجة إلى هداية في كل هذه الأمور، وأن يعرف الحق، ويتبصر به؛ إضافةً إلى ثباته على هذا الحق.
"فإن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة، والثبات، والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله، فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولاسيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل، وأطراف النهار، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ... الآية [سورة النساء:136]، فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان، وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات، والاستمرار، والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم".في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ ليس المقصود بذلك الثبات فقط، فالثبات أحد المعاني الداخلة تحته، ولكن شرائع الإيمان كثيرة، والأعمال الصالحة كثيرة، فالصلاة إيمان قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، ولهذا لما ذكر الله كفارة الظهار قال بعدها: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة المجادلة:4]، فلزوم حدود الله ، ومنعه من مس هذه الزوجة - مع أن نفسه تطلبها - حتى يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً - على الخلاف في الإطعام - كل هذا من الإيمان، وإخراج الكفارة من الإيمان؛ وإلا فكيف يعرف الناس عنه أنه أخرج كفارة أو لم يخرج كفارة، فقد لا يعلم به أحد أصلاً أنه ظاهر من امرأته، فالمقصود أن ذلك كله من الإيمان، من تصديق الحكم، والإقرار به، والانقياد بالتوقف عن الاستمتاع بهذه المرأة أو مجامعتها - على الخلاف في هذا - كل هذا من الإيمان، ولذلك قال بعده: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بعد الكفارة.

فشرائع الإيمان كثيرة، إذ إن الله أول ما فرض عليهم من الإيمان: التوحيد، ثم فرض عليهم الصلاة، ثم فرض عليهم الزكاة - كما في حديث ابن عباس -، فلما أقروا بذلك زادهم إيماناً وهكذا إلى آخره، فكل هذه الأشياء داخلة في الإيمان، وكل شيء مما شرعه الله يجب على الإنسان أن ينقاد له، ويسلم به، وأن يعمل به إن كان واجباً، وهذا من الإيمان، فانقياده، وتسليمه إيمان، والعمل بالحكم إيمان.

"وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يقولوا: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [سورة آل عمران:8]، فمعنى قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ استمر بنا عليه، ولا تعدل بنا إلى غيره صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7]..".قول ابن كثير: "استمر بنا عليه، ولا تعدل بنا إلى غيره" هذا معنى ثبِّتنا، وهو نوعٌ منها يقوله من استكمل جميع أنواع الهدايات السابقة، ولا يمكن للعبد أن يستكملها؛ لأنه بيَّن أمورٍ هو بصددها، وبيَّن أمورٍ يستقبلها أصلاً، فمثلاً هؤلاء الناس الذين يسألون عن مساهمات، وأشياء؛ أليسوا بحاجة إلى هداية حتى يعرفواالصواب في هذه المسائل بحيث يدخلون فيها أو لا يدخلون؟

وكذلك من يعرض له خوف وطمع في هذه الأمور وما أشبه ذلك هو بحاجة إلى هداية، فلا يمكن للعبد أن يستكمل هذه الأشياء، لكن لو فرضنا أن إنساناً قد استكملها من أولها إلى آخرها، وحققها ظاهراً وباطناً؛ فعندئذٍ يقال: ما بقي عليه إلا شيء واحد وهو التثبيت.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395) (ج 1 / ص 296).
  2. أخرجه أحمد (17671) (ج 4 / ص 182) والحاكم (245) (ج 1 / ص 144) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح وهذا إسناد حسن.

مرات الإستماع: 0

"الفائدة الثاني عشر: اهْدِنَا [الفاتحة:6] دعاء بالهُدى، فإن قيل: كيف يطلب المؤمنون الهُدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب: أن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه، فإن الارتقاء في المقامات لا نهاية له".

هذا الجواب عن هذا السؤال يذكره كثير من المفسرين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يقولون: أي: ثبتنا، والواقع أن هذا أحد المعاني الداخلة تحته، وإلا فإن سؤال الهداية يتضمن ذلك، ويتضمن غيره من أنواع الهدايات الكثيرة، فالهداية - كما نعلم - نوعان: هداية إرشاد، وهداية توفيق، فقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  هذا طلب للهدايتين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بمعنى دُلنا وأرشدنا، فهداية الإرشاد كقوله - تبارك وتعالى -: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه: 128] يهدي لهم، يعني: يتبين لهم وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [الأنعام: 97] يعني: تسترشدوا بها، وتستدلوا بها، فهذه هداية إرشاد، فهداية الإرشاد: الله - تبارك وتعالى - هدى عباده، بمعنى أرشدهم إلى محابه، ومراضيه، وعبادته، فهذه هداية عامة.

فالله - تبارك وتعالى - هادٍ بهذا الاعتبار، قد بين لعباده كل ما يحتاجون إليه، ومن ذلك قوله - تبارك وتعالى - في هذا المعنى هداية الإرشاد: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] هذه ليست هداية توفيق لو كانت هداية توفيق لآمنوا، ولكنها هداية إرشاد إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] يعني: دللناه، وأرشدناه وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] فهذا كله في الهداية العامة بهذا المعنى، والرُسل هداة بهذا الاعتبار وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43] وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19] قول موسى ﷺ لفرعون: أهديك، يعني: الإرشاد، والبيان، وهكذا في أتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 38]. 

أما النوع الثاني: التي هي هداية التوفيق، فهذه التي لا يملكها إلا الله فالرُسل عليهم الصلاة والسلام يُرشدون، ويُبينون الحق، ولكن الموفق، والهادي هو الله وقد جاءت هذه الهداية في مثل قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] هنا نفى عنه الهداية، وهناك أثبتها، فتلك التي أثبتها هي هداية الإرشاد، وهذه التي نفها هي هداية التوفيق وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] يعني: يوفق لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272] التوفيق للهدى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] ولاحظ اجتماع هاتين الهدايتين في قوله - تبارك وتعالى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] الهُدى هنا يشمل الإرشاد، ويشمل التوفيق.

وهكذا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يشمل الهدايتين، وفعل الهداية إذا عُدي بحرف؛ فإنه يُفهم يتعين معناه، ويتخصص بحسب هذه التعدية، وهذا أمر معلوم في لغة العرب بأن الأفعال تُفهم معانيها على ضوء ما تتعدى به، وهذه قاعدة من قواعد التفسير: "تُفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به"، كما ذكرنا في نظر فإذا عُدي بنفسه فهو بمعنى الانتظار، وإذا عُدي بإلى فهو النظر بالأبصار، وإذا عُدي بفي نظر في كذا نظرت في أمرك، فهو بمعنى التفكر، والاعتبار.

فالهداية إذا عُدي هذا الفعل هدى إلى كذا، فهذا يتضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، وإذا عُدي باللام، هداه لكذا، اهتديت لكذا، فهذا يتضمن الاختصاص، والتعيين، فإذا عُدي بنفسه مثل هذا الموضع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] ما قال إلى الصراط، وما قال في الصراط، فهذا يشمل جميع ما سبق الهداية إلى الغاية المطلوبة.

وكذلك ما يكون مُعداً باللام مما يتضمن الاختصاص، والتعيين، يعني: بين لنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ودلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، وألهمنا، ووفقنا، وثبتنا عليه، فيدخل بهذه الهداية المذكورة بهذا الاعتبار هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، اهدنا إليه، واهدنا له يدخل أنواع الهدايات، فهداية الإرشاد يدخل فيها هداية العلم، والبيان للحق، فقد لا يصل إلى الإنسان الدليل، أو العلم، أو الحق، فيكون جاهلاً به.

وكذلك أيضاً قد يختلف الناس فيحتاج العبد إلى هداية لمعرفة الحق الذي اختلفوا فيه اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون، اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك [1].

فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية، فكيف يقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا فقط؟ ثم أيضاً العبد في كل حين، وفي كل لحظة بحاجة إلى هداية لمعرفة مُراد الله منه، ما هو واجب الوقت، فيحتاج إلى هذه الهداية أن يهديه الله - تبارك وتعالى -.

ثم أيضاً هذه الأعمال على كثرتها وسعة شرائع الإسلام، بحيث إن العبد لو بقي العُمر وهو يعمل في باب من الأبواب لاستغرق ذلك عمره كله، فهو بحاجة إلى هداية للأفضل من الأعمال، يعني: غير الواجبات؛ لأنه ما تقرب العبد إلى الله - تبارك وتعالى - بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، لكن في غير الواجبات هذا ميدان واسع، وهذه تجارة مع الله والأعمار قصيرة، فيحتاج العبد إلى معرفة الأفضل، وهذا يحتاج إلى هداية، ما هو الأفضل إن اشتغل بهذا، أو اشتغل بهذا؟

فهناك أعمال قد تكون هي الأفضل من حيث هي، ولكن الأفضل لهذا المعين قد يكون هو المفضول، وهذا يحتاج إلى فقه، وقد يقضي الإنسان دهراً في عمل مفضول، ويغفل عن الفاضل، فيفوته خير كثير، فهو بحاجة إلى هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] فهذا كله داخل في هداية الإرشاد، كثير من الناس قد يُحرم هذا النوع من الهداية من أصله، فلا يُهدى إلى الإسلام، وهذا السؤال الذي يرد الله هدانا للإسلام، فلماذا نسأل الهداية؟

هو ليست فقط هذه، هذه واحدة الهداية إلى الإسلام، وكم من مليارات من البشر لا يعرفون الله، ولا يعرفون صراطه المستقيم، ولا يعبدونه، ولا يوحدونه، حرموا هذه الهداية من أصلها، لكن من وفق إليها، وأُرشد إليها اجتمع له الهدايتان يبقى في تفاصيلها يحتاج إلى هداية، فالإنسان قد لا يوفق، ولا تنهض همته إلى طلب العلم، ولا يرفع بذلك رأساً، فيحتاج إلى هداية للعلم، وقد تنهض همته، ولكنه قد لا يوفق للصواب، وقد يوفق للصواب، ولكنه لا يوفق للهداية الأخرى التي هي هداية التوفيق بالعمل بما علم، فهذه هداية أخرى أن يقُدره الله  عليه، وأن يجعله مُريداً له، وأن يجعله فاعلاً له، بعض الناس لا تسمو همته للعمل أصلاً، يعلم أن لديه معلومات، يعلم أن الصلاة واجبة، وأن الحج واجب على الفور، ولكن لا تنهض همته، فلا يريد هذا العمل، فهذا حُرم هذه الهداية، يعني: حصلت له هداية الإرشاد، ولكنه لم تحصل له هداية التوفيق، فيحتاج العبد إلى هذه الهداية أن يجعله الله مُريداً لهذا، وفاعلاً له.

وكذلك أيضاً أن يُثبته عليه، فقد يستقيم مدة، ثم بعد ذلك يتراجع، وكذلك أيضاً أن يصرف عنه الصوارف، والعوائق، والموانع التي تحول بينه وبين لزوم الحق.

وكذلك أيضاً أن يهديه في الصراط إلى أمور كثيرة مما يتصل بالقلب، واللسان والجوارح، من الناس من يعمل، ويُطيع، ونحو ذلك، لكن يبقى له التفات إلى نفسه، وإلى عمله، وإلى عبادته، وطاعته، أو علمه، أو ما أشبه ذلك، وهذه أمور قد تُبطل هذا العمل، وقد يكون علمه وبالاً عليه بهذا الاعتبار، هذه كله من الهدايات الداخلة تحته إلى الممات، أن يُثبت عند الموت.

وهناك هدايات لا تدخل هنا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]؛ لأنه قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فهو الصراط الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، لكن هناك هدايات أخرى، وإن لم تكن داخلة في هذا من سورة الفاتحة، هناك هدايات بعد الموت، عند سؤال الملكين أن يُهدى للجواب.

وكذلك أيضاً أن يُهدى عند الحساب، بينه، وبينه تُرجمان، وكذلك هو بحاجة إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جهنم، وبحاجة إلى أن يُهدى على الصراط فلا تزل قدمه، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى باب الجنة، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى منزله في الجنة، لاحظ إلى أن يصل منزله، وهو بحاجة إلى هداية الله فالعبد لا غنى له بحال من الأحوال؛ ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فإذا قام ذلك في قلب العبد؛ فإنه يستشعر حاجته الماسة إلى الهداية، فلا يُعرض عن الموعظة، والذكر ومجالس الذكر، وما يكون فيه نفعه، ولا يؤخر العمل، والطاعة، وإنما يكون مُبادراً فيجتمع للعبد بهذا هداية العلم، وهداية العمل، فيكون قد عرف الحق، وعمل به، وبقدر ما يتحقق له من ذلك يكون كماله، وبهذا يتفاضل الناس في الدنيا، والآخرة، وأكمل الناس في ذلك هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويتفاوت من دونهم، فمنهم من يكون كماله في الجانب الأول هداية العلم، ولكنه في الجانب الآخر ضعيف.

والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] فكل هذا العبد بحاجة إليه، وحاجته إلى هذا أعظم من حاجته إلى الطعام، والشراب.

وابن جرير الطبري - رحمه الله - ذكر في معنى هذه الآية: "أن في مسألته الهداية هنا، فهذا يشمل التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق، والصواب فيما أمره به، ونهاه، فيما يستقبل من عمره"[2].

هذه العبارة القصيرة التي قالها ابن جرير جمع فيها بين النوعين: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن من فسر الهداية هنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بدوام الهداية، يعني: الثبات، فإن هذا كلام من لا يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله  به، وذكر شيئاً مما ذكرته آنفاً بأن الهداية في حقيقتها أن يفعل العبد في وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم، وعمل، ولا يفعل ما نُهي عنه يقول، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم، ويعمل ما أُمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور.

فهذا العلم المُفصل، والإرادة المُفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم، والإرادات ما يهتدي به في ذلك إلى الصراط المستقيم، يقول: نعم حصل له هدى مُجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، فهذا حق، لكن هذا المُجمل لا يغنيه إن لم يحصل له الهدى المُفصل في كل ما يأتيه، ويذره من الجُزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى، والشهوات، أكثر العقول لغلبة ذلك عليهم.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - في عدد من كتبه ذكر أشياء من هذا كثير حاصلها ما ذكرته، وأن الفلاح لا يتحقق إلا بهاتين الهدايتين، هداية التوفيق، وهداية الإرشاد، هداية التوفيق بأن يُلهمه الله ذلك، ويكون فاعلاً له، وما إلى ذلك، مما ذكرناه.

وهكذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحم الله الجميع - وكذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.

"الفائدة الثالثة عشر: قُدم الحمد والثناء على الدعاء؛ لأن تلك السنة في الدعاء، وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قُدم الرحمن على ملك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قُدم إياك نعبد على إياك نستعين؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة".

لاحظ هذه الأمور التي ذكرها مُنبهاً على وجه تقديمها على غيرها، فهنا قدم الحمد والثناء على الدعاء هذا من آداب الدعاء الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 2 - 6] فالمشروع أن يُقدم الثناء على الله - تبارك وتعالى - أولاً قبل السؤال، والدعاء؛ فإن ذلك أدعى للإجابة. 

"وشأن الطلب: أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قدم الرحمن على مالك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه".

ولهذا قالوا: بأن ذكر الرحمة هنا بين الربوبية، والمُلك، يعني: يقولون: كان المُتبادر أن يقال: الحمد لله هنا ذكر الإلهية، رب العالمين ذكر الربوبية بعدها رب العالمين، مالك يوم الدين فيذكر الملك؛ لأن الرب هو السيد المتصرف في خلقه، المُدبر لهم، وهذا معنى المُلك، فهو التصرف المُطلق والتدبير، لكنه جاء بالرحمن الرحيم بينهما، فهذا يدل على أن ربوبيته، وملكه مبنيان على الرحمة، فرحمة الله سبقت غضبه، انظروا إلى كثرة جنايات الخلق مع كثرة عطائه، وإنعامه، وحِلمه - تبارك وتعالى - يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب، ويُغدق عليهم ألوان النِعم، فملكه وربوبيته مبناهما على الرحمة.

يقول: "وكذلك قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة"، الحاجة هي الاستعانة فما الطريق إلى تحقيق المطالب التي أعلاها دخول الجنة، ورضا المعبود والنظر إلى وجهه الكريم؟ هو تحقيق العبودية، تحقيق العبودية يحصل به سعادة الدارين وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] فلا يُنال ما عند الله - تبارك وتعالى - إلا بعبادته.

فهنا أيضًا في ذكر الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة فإن العبادة كما ذكرنا تشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، فمن الأعمال القلبية: الاستعانة بالله فهي عبادة له فأفردت بالذكر فهذا من باب ذكر الخاص بعد العام وهو يدل على أهميته، وآكديته.

وتقديم العبادة تقديم للغاية على الوسيلة؛ لأن العبادة هي الغاية، وما هو الطريق إلى تحقيق العبادة؟ إنما يكون بالاستعانة؛ لأن قلنا: معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نستعين بك على المطالب الدينية، والمطالب الدنيوية، فهذه الاستعانة هي وسيلة، فقُدمت الغاية.

ولو نظرنا أيضًا إلى الأشرف منهما فإن العبادة التي هي الغاية أشرف من الوسيلة فقُدم الأهم، ثم إن العبادة، والاستعانة بينهما ملازمة فلا تتحقق العبادة إلا بعون الله - تبارك وتعالى - ولا يحصل العون من الله - تبارك وتعالى - للعبد إلا بعبادته، وطلب العون منه، وبهذا يتحقق الإيمان الصحيح، والتوكل على الله - تبارك وتعالى - ويخرج العبد من حوله، وقوته، ويكون قلبه متوجهًا إلى ربه، ويعمل بجوارحه، بطاعته وبهذا تحصل سعادته، ونجاته، ثم أيضًا لاحظ أن العبادة تتعلق بحق الرب، وقلنا: إن الشق الأول هو المتعلق بحق الرب، وأن هذه الآية جاءت بالوسط. فهي كما قال الله في الحديث القدسي: هذه بيني وبين عبدي فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ : هذا متعلق بالشق الذي قبله فكان المناسب أن يُقدم؛ لتكون المتعلقات بحق الرب متتابعة دون أن يفصل بينها شيء من حق العبد، فلو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد. لدخل حق، أو ما يتعلق بالعبد بما يتصل بالرب - تبارك وتعالى -.

ثم أيضًا لاحظ الترتيب في الأسماء الحسنى المذكورة في أول هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فالعبادة متعلقة بإلهيته، وإلهيته هي الصفة المضمنة بهذا الاسم الكريم (الله) فإنه مضمن معنى صفة الإلهية؛ لأن التأله هو التعبد، تألهه القلوب محبة، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاء، فأول ما ذُكر هو هذا الاسم الكريم الذي تذكر سائر الأسماء الحسنى بعده، فذكر هنا العبادة قبل الاستعانة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ متعلق بهذا الاسم الكريم (الله) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلق بالربوبية؛ لأن الإعانة من معاني الربوبية، فالرب ذُكر بعد لفظ الجلالة (الله) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فجاءت الاستعانة بعد ذلك، كذلك أيضًا مما يمكن أن يقال بأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فقُدم الأشمل، والأعم، فلو قُدمت الاستعانة لم يكن ذلك المعنى متحققًا، ومناسبًا في الترتيب، فكل من حقق العبودية لله لا بد أن يكون محققًا للاستعانة دون عكس، العبودية الحقة، وإلا فالعبد قد يستعين، لكن قد يستعين على المعاصي، والشهوات ونحو هذا كما هو معلوم، بل قد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله -: أن بعض المجرمين من قطاع الطرق، ونحو ذلك أن عندهم من التوكل ما لا يوجد عند بعض العُباد. فتجد أنه يركب الأخطار متوكلًا على الله لكن فيما يسخطه الله وأيضًا الاستعانة: طلب من الله كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - والعبادة: طلب له، تقرب إليه.

فما كان له يكون أشرف، وأكمل، ولا تكون إلا من المخلص، وأما الاستعانة فتكون من المخلص، ومن غيره فقُدمت العبادة، وكذلك أيضًا العبادة حق لله على عبادة، وهذا شكر منهم على نعمه وإفضاله، فإن شكر المنعم يقتضي أن يعبد وحده، ولذلك كان الشرك أعظم الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] باعتبار أنه صرف للعبادة في غير من خلق، ومن يستحق ومن أنعم، ومن أعطى، وتفضل، إلى غير ذلك من الوجوه، والمعاني التي يذكرها أهل العلم، والمقصود أن العبد بقدر تحقيقه للعبودية يحصل له من عون الله فهذه العبادة محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها، وإعانة أيضًا بعدها على عبودية أخرى.

وكذلك إعانة على النفس؛ لئلا يحصل أدنى التفات، وعُجب، أو مَن وأذى في الصدقات، والإحسان إلى الناس، وما أشبه ذلك، الإنسان نفسه تنازعه تطلب حظوظها العاجلة المتقضية، تحتاج إلى إعانة، إعانة إلى هذه النفس تخلد إلى الراحة، يحتاج إلى إعانة للقيام بمحاب الله، وطاعته، فإذا قام بها بدأ هنا يتسلل إليها طلب الحظوظ الدنيوية من الجاه، وثناء الناس، والمدح، وما إلى ذلك، أو ما يقايضهم به مما يطلب عائدة منهم على هذا الإحسان، ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يُعان على نفسه حتى يلقى الله - تبارك وتعالى -.

"الفائدة الرابعة عشر: ذُكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يُسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه، فصار من أهل الحضور، فناداه".

الالتفات في كلام أهل التفسير، وكذلك في البلاغة، يعني: تحويل الكلام، وهذا يشمل صوراً متعددة كالتحويل من تحويل وجه الكلام من الغيبة إلى الخطاب، والعكس.

وكذلك أيضاً يدخل فيه صور أخرى من تلوين الخطاب، قد يُخاطب الواحد، ثم يكون الخطاب للجماعة، والعكس فهذا فيه تنشيط للسامع في الجُملة، يعني: عموماً أياً كان الموضع، أو السياق، وفي كل موضع يتلمس العلماء له وجهاً جاء هذا الالتفات من أجل التنبيه عليه.

فهنا يقول: أنه في أول السورة جاء بطريق الغيبة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ  يعني: هو رب بضمير الغائب، هو رب العالمين، الرحمن هو الرحمن الرحيم، مالك هو مالكِ يوم الدين، كل هذا بالغيبة، ثم قال: إِيَّاكَ ، فهذا بمضير المُخاطب يُسمى التفات التفت من الغيبة إلى الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقد مضى الكلام على الالتفات في القضايا البلاغية.

يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور" يعني: يقول كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته، وأثنى عليه بعد أن حمده، ومجده بعد ذلك كأنه قد حضر بين يديه فوجه الخطاب إليه مباشرة، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.

عبارة المؤلف هنا يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه" هذه العبارة قد يستعملها الصوفية، ولكن العبارة التي قد تكون أدق هي من باب التقريب يقال: كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته كأنه حضر بين يديه، فوجه الخطاب إليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قال الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21] ربهم هذا في بالغيبة، قال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان: 22] فخاطبهم بذلك، لما ذكر إنعامه، وإكرامه وجه إليهم الخطاب بأن هذا جزاء لهم على أعمالهم الصالحة، وعبادتهم، وإيمانهم، فهذا من الغيبة إلى الخطاب، عكسه من الخطاب إلى الغيبة حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] ما قال وجرينا بكم وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يونس: 22].

لاحظ كل هذا بالغيبة، فهذا يكون على كل حال في كل موضع بحسبه مما يُلتمس في ذلك الموضع، وهذه قضايا ليست قطعية، وإنما هي من الأمور البلاغية التي تحتمل هذا غاية ما هُنالك، فهنا في قوله:  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ  كما قلنا كأنه قد اقترب من ربه بعد أثنى عليه فوجه الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وبعضهم يقول: بأنه لما ذكر الحقيق بالمدح، والثناء، وذكر أوصافه العِظام؛ تعلق المعلوم بموصوف عظيم هو الإله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك، والمالك، فوجه الخطاب إليه بعد أن تميزت أوصافه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يعني: يا من هذه صفاته نتوجه إليك بالعبادة وحدك، وبالاستعانة دون ما سواك. 

"الفائدة الخامسة عشرة: (الصِّرَاطَ) في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير، والشر - وفي نسخة خطية: من الخير، أو الشر - ومعنى (الْمُسْتَقِيمَ): القويم الذي لا عوج فيه، فـ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : الإسلام، وقيل: القرآن، والمعنيان متقاربان؛ لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ وقرئ (الصراط) بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي، وقد قيل: إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادًا لموافقة الطاء في الاستعلاء، والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر."

قوله بأن: "الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يُمشى عليه، ثم اُستعير للطريق الذي يكون عليه الإنسان من الخير، أو الشر"، هذا كما ذكرنا في الكلام على الغريب بأن كثيراً من تلك الألفاظ هي تكون في أمور حسية، وأمور معنوية، فالصراط يقال للطريق المحسوس، ويقال أيضاً للطريق المعنوي.

يقول: "ومعنى المستقيم القويم الذي لا اعوجاج فيه فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل: القرآن والمعنيان متقاربان" هذا من قبيل اختلاف التنوع.

يقول: "لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ".

تفسير الصراط المستقيم بالإسلام عن النبي ﷺ هو الحديث المشهور، حديث النواس : ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق  الصراط، فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم[3] والحديث صحيح، ومشهور.

أما تفسيره بالقرآن، فهذا جاء من حديث علي  أنه سمع النبي ﷺ يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم ...[4] ففسره بالصراط المستقيم، لكن الحديث لا يصح.

أما من جهة المعنى فلا شك أن الصراط المستقيم، يعني: اتباع القرآن، فالقرآن يشرح الصراط المستقيم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123] فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] فهداه هو القرآن، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ، فهذا من اختلاف التنوع، لا يُحتاج معه إلى الترجيح بين الأقوال، فإذا عُبر عنه كما مضى في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فذكر ذلك مثالاً على اختلاف التنوع.

يقول: "وقُرئ بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي"، إلى آخر ما ذكر في القراءة، و"أل" هذه التي دخلت على الصراط للعهد، العلمي  الذهني، الصراط المعهود الذي وصفه الله - تبارك وتعالى - وبين معالمه، وحددها بياناً لا يلتبس بغيره اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] المعلوم المعهود، وذلك أن "أل" إذا دخلت على موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، فهذا مقام طلب ،ودعاء، فيحتاج إلى تحديد، تحديد المطلوب، فجيء به مُعرفاً، الصراط، وأما مجيئهم مُنكراً فهذا في مقام الإخبار وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح: 2] وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87] إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 161] فهذا في مقام الإخبار يأتي مُنكراً، مقام الطلب، والسؤال يأتي مُعرفاً، فكأن الله - تبارك وتعالى - حينما عرف بهذا الصراط أنه مستقيم في مقام الإخبار، فسأل العبد أن يهديه ربه - تبارك وتعالى - إليه، فجاء به مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وهذه القراءة التي أشار إليها المؤلف بالسين هي قراءة ابن كثير قراءة متواترة في جميع القرآن، والتي تكون بين السين والزاي بالإشمام، فهذه قراءة حمزة، والجمهور من القراء بالصاد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] الصراط هو الطريق المسلوك، والسبيل الواضح، يقولون: بأنه مأخوذ من الاصتراط، والاصتراط ما المقصود به؟

ابتلاع الشيء، فكأنه يبتلع المارة الطريق كأنه يبتلع المارة من يمشي عليه، ولاحظ بأن الصراط إنما يقال للطريق المستقيم، ولا يقال للمعوج، وبهذا الاعتبار، فإن ذكر هذا الوصف بعده القيد بالاستقامة الصراط المستقيم تكون المستقيم من قبيل الصفة الكاشفة، يعني: التي لا تُقيد الموصوف، فإذا قلت رجل ذكر هو الرجل لا يكون إلا ذكراً وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] هو الطائر لا يطير إلا بجناحين، فهذه صفة كاشفة تفيد التأكيد، وقال بفيه، كتب بيده، مشى برجله، هذه صفة كاشفة تفيد التوكيد، بخلاف الصفة المُقيدة، تقول: رجل مؤمن، رجل طويل، امرأة صالحة، لكن حينما تقول امرأة أُنثى هي المرأة لا تكون إلا أُنثى، فهذه يسمونها صفة كاشفة، فإذا قيل بأن أصلاً لفظة الصراط لا تقال إلا على ما كان موصوفاً بالاستقامة؛ فإن المستقيم هي زيادة توكيد، يقولون: المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، يعني: المُعتدل المستوي لا اعوجاج فيه، ولا الالتواء، الطريق الواضح وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153].

وكما قال الله : قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] قصد السبيل قصد هنا صفة أُضيفت إلى الموصوف قصد السبيل، قصد يعني: الطريق المُعتدل الذي لا اعوجاج فيه، السبيل القاصد، يعني: المستقيم المُعتدل قصد السبيل، فالله هو الذي يهدي إليه وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9].

يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقا للمقصود، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب، والضلال يستلزم تعينه طريقا"[5].

ولا يقال: بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقول بعض الصوفية، فهو على كل حال الطريق التي رسمها الله لعباده من أجل سلوكها الإيمان، والعمل الصالح، والدين الصحيح، فيكون ذلك بما جاء مُفصلاً في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهو يتضمن العلم، والعمل مع الإخلاص، والمتابعة فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].

"الفائدة السادسة عشر: الذين أنعمت عليهم، قال ابن عباس: هم النبيئون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يُغيروا، والأول أرجح؛ لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]".

هذه الرواية عن ابن عباس - ا - هم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وإن لم تصح من جهة الإسناد، إلا أن المعنى صحيح دل عليه القرآن، فالصراط المستقيم، قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهذا أيضاً وصف آخر له يُميزه، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم من ذكر الله وخير ما يُفسر به القرآن القرآن فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] فهذا تفسير للمُنعم عليهم.

فقوله هنا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الصراط هنا بدل كل من صراط المستقيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؛ لأنه لا يوجد غير هذا أصلاً، فهو بدل كل من كل، أو أنه عطف بيان، والفرق بين البدل، وعطف البيان هما متقاربان غاية المقاربة، لكن يقولون: إذا كان الثاني أوضح من الأول، فهذا عطف بيان، عطف عليه ما هو أبين، وأوضح، يمثلون لهذا يقولون: قال أبو حفص عمر، فعمر عطف بيان؛ لأنه أشهر من الكُنية من أبي حفص اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6 - 7] فإذا قلت أن هذا أوضح في صفته فيكون عطف بيان، وإذا قلت بأنه يُكافئه فهذا بدل منه، يعني: كأنه يقول: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا يدل على التوكيد، والإيضاح، والبيان، ففسره بذلك كله، وحينما يقول بأنه صراط الذين أنعم عليهم هذا آكد، وأبين، وأوضح في استقامته، فهؤلاء المُنعم عليهم من النبيين، ونحو ذلك كانوا على الاستقامة الكاملة.

ولاحظ أنه هنا جاء به مُنكراً، وفي الموضع الأول مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لكنه تعرف هنا بالإضافة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا على كل حال يدل إفراده على أنه الصراط واحد، وأن الطريق إلى الله واحد، وأن الحق واحد، فالحق لا يتعدد، وغاية ما هُنالك أنه في باب العلم، قد يُعبر عن الشيء بعبارات، أو يُفسر بما يقاربه، أو بجزئه، أو بالمثال، ويرجع ذلك إلى شيء واحد، هذا الذي نُسميه باختلاف التنوع.

ولكن الاختلاف الحقيقي اختلاف التضاد، هذا يقول: هذا حلال وهذا حرام، الحق عند الله واحد، لكن اختلاف التنوع سواء كان ذلك في عبارة أهل العلم، أو كان ذلك في عبارات الشارع، مثل صيغ التشهد، وصيغ الأذان الثابتة، ونحو ذلك، فإذا جاء بهذا، أو هذا، أو هذا، فلا إشكال في ذلك.

وكذلك في الأعمال، الأمور العملية، مثلاً: صفات صلاة الخوف ونحو هذا، على الوجه الذي جاء عن النبي ﷺ بصفات متعددة، فكل هذا مشروع، وكذلك في صلاة الجنازة، وعدد التكبيرات، فيكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع، ولا يحتاج إلى ترجيح، ليس من قبيل اختلاف التضاد.

لكن الاختلاف الحقيقي: اختلاف التضاد هنا لا مجال الحق عند الله واحد، فإذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، والمُقلد العامي إذا سأل من يثق بدينه، وعلمه من غير أن يكون طالباً لما يوافق هواه، فيسأل من يعتقد أن جوابه يتفق مع رغباته؛ فإن الذمة لا تبرأ بهذا، لكن إذا سأل وتحرى من يثق بدينه، وعلمه، فأجابه ولو أخطأ المُجيب، فإن هذا الإنسان معذور؛ لأنه فعل ما وجب عليه فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والحمد لله.

لكن الإشكال هو أن ينظر إلى القولين - أعني العامي - فيأخذ ما يوافق هواه، ويقول أفتى به عالم، أو يقول هذه المسألة خلافية، فيحتج بالخلاف، ويأخذ ما يُريد، فهنا يقال الحق عند الله واحد، فيجب التحري، ولذلك قال الشاطبي - رحمه الله -: بأنه إذا اتفق له قولان، يعني: العامي وقف على قولين، ولم يترجح عنده أحد القائلين، يعني: بعلم، أو ورع، كلاهما سواء، فإنه ينظر إلى هواه، فيُخالف الهوى؛ لأن الشريعة إنما جاءت لإخراج المُكلف من داعية هواه[6].

بخلاف ما يقوله كثير من الناس الآن، ويظنونه، ويبحثون عن ما يوافق أهواءهم، ويقولون المسألة خلافية، ويُقدمون أحياناً لهذا في سؤالهم، هل يوجد خلاف في هذه المسألة؟

ووجود الخلاف لا يسوغ للمُكلف أن يفعل ما يُريد، ولا يصح الاحتجاج بالخلاف، والله يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] فيأتي دائماً مُفرداً والسُبل مجموعة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] الظلمات كثير إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] فالنور واحد، وهو الصراط المستقيم، وحديث النواس الذي أشرت إليه قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه هذه الضلالات، قال: فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المُفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم.

فإذا دعت النفس إلى شيء، وخلا الإنسان؛ فإنه يتذكر نظر الله إليه ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] والإنعام هو إيصال النعمة، وهي الحالة التي يستلذها الإنسان، لين العِيش، والخفض، والدعة، والمال، ونحو هذا، هذا في الأصل إطلاق النعمة على ذلك، وهي جنس يصدق على القليل، والكثير، وإذا أُضيفت إلى معرفة دلت على الإنعام المُطلق، ولاحظ هنا أُضيفت صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] أي على عموم النعم الدينية، والأخروية، أنعمت أُضيفت إلى تاء الخطاب.

والله يقول: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ [المائدة: 11] هنا أضافه إلى الاسم الظاهر، أي: نِعم الله عليكم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] يعني: نِعم الله.

وعلى كل حال الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] هم الذين وفقوا لسلوك الصراط المستقيم، وفقوا للدين الحق، والهدى الكامل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33] وهو العلم النافع والعمل الصالح، الإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ وهذه أجل الِنعمن وأعظمها، وإن كانت النعم تتنوع وتتفاوت، فالأرزاق الدارة نِعم، الصحة نعمة، الولد نعمة، الأمن نعمة، وغير ذلك، هذا الهواء، والماء البارد، كل هذه نِعم من الله - تبارك وتعالى -.

لكن أعظم هذه النِعم هو الهداية إلى الصراط المستقيم، والله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68].

هنا قوله: "هم النبيون، والصديقون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة". المعنى: أعم من هذا، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يغيروا، وهذا لا يصح أن يُفسر به اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يعني: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وهم قوم موسى، وعيسى، يعني: كأنه يقول اسلك بنا سبيل المُهتدين قبلنا، لكن المعنى أعم من ذلك، وهم الأنبياء، والصديقون، والصالحون، والشُهداء، ويدخل في ذلك جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومن وصف من أتباعهم عموماً.

"الفائدة السابعة عشرة: إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى عن معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال"

إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ؛ لأن قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى على معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال.

(غير): هنا صفة للاسم الموصول الذين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فـ (غير) صفة له صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إما مبينة، أو مقيدة، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم جمعوا أنهم حصلوا النعمة المطلقة بلزوم الحق، وأيضًا مجانبة ما يخالفه من الضلال.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ : سلموا من الغضب والضلال، ويحتمل أن يكون بدلًا من الاسم الموصول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ باعتبار أن المُنعم عليهم هم الذين سَلِموا من الغضب، والضلال، ولاحظوا أن الأول أوضح في المعنى، وأحسن، وأكمل من هذا يعني غير صراط المغضوب عليهم، والضالين، فكونه صفة أوضح، فيكون بهذا الاعتبار صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اهْدِنَا الصِّرَاطَ فوصفه بالاستقامة، وأنه طريق المنعم عليهم، وأنه مجانب لطريق أهل الضلال، فهذه أوصاف له تحدده، وتميزه - والله أعلم -.

و(غير) هنا من جهة الإعراب كما أشار المؤلف مضاف، والمغضوب مضاف إليه، وعليهم متعلق بالمغضوب. لاحظ فهذا الوصف لصراط المنعم عليهم بغير المغضوب عليهم، ولا الضالين هذا فيه تأكيد كمال صراط المنعم عليهم، وكما ذكرنا في النفي، واقتضائه لكمال ضده، فهنا حينما يقول: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فهذا يعني أنه طريق أهل الرضا، والإنعام، والهداية الكاملة، الذين سَلِموا من الغضب، ومن الضلال.

لاحظ أنه جيء بالفعل مبنيًا للمجهول، وفي الإنعام جاء مبنيًا للمعلوم، العلماء يقولون: هذا من باب الأدب في الألفاظ.

فالشر لا يُنسب إلى الله - تبارك وتعالى - تأدبًا: والشر ليس إليك[7] مع أن الله خالق الخير، والشر، فهنا في الإنعام أضافه إلى الله صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ وفي الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مثل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله.

ومثل قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] فنسب العيب إليه، وفي الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82].

وكذلك قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 3] قالوا: كلمة قلى فلم يُضفها إليه، ما قال وما قلاك، وعلى كل حال هذا فيه إثبات صفة الغضب لله - تبارك وتعالى - على ما يليق بجلاله، وعظمته، وهؤلاء الذين غضب عليهم المغضوب عليهم هم من حصل لهم العدول عن الحق بعد معرفته، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، كما فسره به النبي ﷺ كما في حديث عدي بن حاتم : سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: هم اليهود وَلا الضَّالِّينَ قال: هم النصارى[8].

وكذلك جاء في حديث أبي ذر بنحوه، أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فهو يصدق عن اليهود قطعاً، وهذا تفسير نبوي، وإن كان ذلك يشمل كل من عرف الحق ولم يتبعه، فيكون استحقاقه من هذا الحكم، يعني: الغضب بقدر ما تحقق فيه من الوصف؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون عند العبد من الإعراض عن الحق بعد ما عرفه يكون نصيبه من الغضب، واليهود الله - تبارك وتعالى - وصفهم بهذا: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61] وقال أيضاً: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14].

فهؤلاء عرفوا الحق، وتركوه وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]

وفي خبر عمرو بن زيد بن نُفيل الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر " أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم"[9].  هذا الحديث مُخرج في الصحيح في البخاري.

على كل حال، قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] يعني: ولا صراط الضالين، فالواو عاطفة بعضهم يقول: إن لا هذه زائدة إعراباً كما يقوله البصريون تفيد التوكيد لمعنى النفي المفهوم من غير، وليدل على أن هذا مسلك، وهذا مسلك، فلا يتوهم أحد أن الضالين وصف للمغضوب عليهم.

يعني: لو قال غير المغضوب عليهم، ما قال ولا الضالين، لو قال غير المغضوب عليهم والضالين فيكون يحتمل أنه وصف لطائفة واحدة جمعوا بين الغضب، والضلال، لكن لما قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7].

فدل على أن هؤلاء طائفة، وهؤلاء طائفة أخرى، هذا لا يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى طائفة واحدة، والكوفيون مذهبهم أسهل في النحو كما هو معروف، يقولون: بأن لا هذه بمعنى غير وهي تفيد التوكيد، وقد جاء في قراءة غير متواترة قراءة عمر : غير المغضوب عليهم، وغير الضالين.

والضالون هؤلاء أهل الجهل، والعمى، الذين تركوا الحق لجهلهم حصل لهم الانحراف بسبب جهلهم، فعدلوا عن الصراط المستقيم، وهم النصارى، هذا أولى من يصدق عليه هذا الوصف كما فسره به النبي ﷺ وهو يصدق على كل من لم يلزم الحق بسبب جهله، وعماه.

لكن النصارى في الواقع بعد مبعث النبي ﷺ عرفوا صدقه، فجمعوا بهذا بين الضلال، والغضب، فهم مغضوب عليهم، وكذلك هم أهل ضلال.

يقول الله - تبارك وتعالى -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] وتفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق، لكن كما سبق أن المعنى أيضاً يشمل هذا، وغيره ممن يُشاكله، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أن الضاد، والظاء هنا غير المغضوب، يعني: لو قال غير المغظوب عليهم ولا الظالين يقول: بأنه يُتسامح في هذا لقُرب المخرج، فقال: "والصحيح من مذاهب العلماء : أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد، والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك - والله أعلم -"[10].

لاحظ هنا: أنه قدم المغضوب عليهم على الضالين، وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وجوهاً في هذا التقديم، ومنها: أن اليهود متقدمون تاريخياً على النصارى، فقدموا ما يتعلق بهم، ومنها: أن اليهود كانوا يجاورون المسلمين، والنصارى كانوا أبعد كانوا في الشام، وفي نجران فقُدم، ومنها: أن الغضب أغلظ، يعني: حال اليهود عرفوا الحق، ولم يتبعوه، فهم أشد في جُرمهم، فقُدم ذلك، كذلك أيضاً أنه لما ذكر المُنعم عليهم، فالذي يُقابل الإنعام الغضب، فناسب أن يُذكر الغضب بعد الإنعام صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فذكر الشيء، وما يُقابله[11].

"الفائدة الثامنة عشر: أُسند أنعمت عليهم إلى الله، والغضب لما لم يُسمى فاعله، وفي نُسخة خطية إلى ما لم يُسمى فاعله، على وجه التأدب كقوله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وعليهم الأول في موضع نصب، والثاني في موضع رفع".

هذا سبق التنبيه عليه، وهو ما يتعلق بالتأدب في مثل هذا التعبير، وذكرت نظائره.

قال: "وعليهم الأول في موضع نصب" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فالإنعام واقع عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ المغضوب هنا مبني للمجهول، فيكون الرفع؛ لأنه حُذف الفاعل، نعم الفائدة التاسعة عشر.

"الفائدة التاسعة عشر: المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي ﷺ وقيل: ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه: روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر ولا في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ [البقرة:90] والضلالة صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم ولقول الله فيه - وفي نُسخة - ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]".

قوله هنا: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، و (الضَّالِّينَ): النصارى، قاله ابن عباس. هذا ثابت عن ابن عباس - ا -. قال: وابن مسعود. وفي الهامش قال المعلق: أخرجه الطبري بإسناد جيد. هنا يتحدث عن أثر ابن مسعود وليس عن أثر ابن عباس.

قال: وقد روي ذلك عن النبي ﷺ هذا من حديث عدي بن حاتم السابق أن النبي ﷺ قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[12].

وحديث أيضًا أبي ذر لما سأل النبي ﷺ وكلاهما ثابت صحيح. يقول: وقيل: ذلك عام. وبينا وجه هذا.

قال: والأول أرجح لأربعة أوجه؛ روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر (ولا) في قوله: وَلَا الضَّالِّينَ دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: يعني هذه أوجه في ترجيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى.

قال: والضلال صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم : وعمومًا هم أهل جهل.

قال: ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].

هذه الأوجه ذكرها في ترجيح هذه المعنى المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وكما سبق أن ذلك لا ينفي هذا الوصف عمن عرف الحق، وتركه من أي طائفة كان لكن هؤلاء أحق بذلك غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وتفسيره باليهود يكون من قبيل العام المراد به الخصوص، وكذلك: الضَّالِّينَ لكن حينما يقال: إن هذا هو الأولى بهذا الوصف، فهم أحق من يدخل فيه فهو يصدق عليهم، وهم مقصودون بذلك، ولا ينفي عما عداهم. هذا أفضل - والله تعالى أعلم - ولهذا قالوا: بأن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى.

"الفائدة الموفية عشرين: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه، فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى تعلم ذلك، فالإلهيات حاصلة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والدار الآخرة في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والعبادات كلها من الاعتقادات، والأحكام التي تقتضيها الأوامر، والنواهي في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ والشريعة كلها في قوله: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ والأنبياء، وغيرهم في قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر طوائف الكفار في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

هنا قال: فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى: الباب الثالث من المقدمة الأولى في المعاني، والعلوم التي تضمنها القرآن، هذه من المهم أن تكون حاضرة في الأذهان، فإذا قرأت في هذا التفسير فإنه سيراعي ذلك فيما يقرره، ويذكره، وهذا هنا في سورة الفاتحة يشير إليه، استحضار هذه المقدمات، ومراجعتها أمر في غاية الأهمية، وهنا ذكر جملًا تدل على هذا أن الفاتحة مشتملة على معاني القرآن، فمعاني القرآن ترجع إليها، وهذا ذكره جمع من أهل العلم، وذلك أنها تتضمن حمد الله، والثناء عليه، وتمجيده، وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، والربوبية، والأسماء، والصفات.

وفيها أيضًا الترغيب، والترهيب، ووعد، ووعيد، إثبات البعث، والجزاء، والعمل يعني: العمل وجزاءه، والعامل وعمله، وإرشاد الخلق إلى حمد الله، والثناء عليه كما قلنا: إن هذا تعليم من الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وإرشاد لهم إلى عبادته، والاستعانة به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في جميع أمورهم الدينية، والدنيوية، وإخلاص العمل لله (إياك)، وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم؛ الذي يؤدي بسالكه إلى سعادة الدارين، وفيها أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم، وهم الذين هداهم الله هداية العلم، وهداية العمل، وأهل الغضب حصل لهم العلم من غير العمل، وأهل الضلال الذين - نسأل الله العافية - لا علم، ولا عمل صحيح.

وفيها إثبات الرسل، والرسالات، والوحي، فكيف يُحمد الله - تبارك وتعالى - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ وكيف يُعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ ؟ إلا بما شرع، وكيف نعرف ما شرع، ونعرف صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ونحذر من طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، ونبتعد عن هذا كله إلا من طريق الوحي، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهذا في إثبات الرسل، والرسالات، والكتب المنزلة، ثم كيف يجازون عن هذا؟ ويحاسبون على الأعمال إلا بعد البيان، وإقامة الحجة بإرسال الرسل، وإنزال الكتب رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] كما تضمنت هذه السورة كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: الرد على جميع المبطلين، وطوائف البدع، والضلال، والإلحاد؛ لأنهم لا يخرجون عن هذين الوصفين: أهل غضب، أو ضلال، فاشتملت على أهم المطالب، وتضمنتها فعرفت بالمعبود بهذه الأسماء الثلاثة التي إليها ترجع الأسماء، والصفات، وتدور عليها (الله) و (الرب) و (الرحمن)[13].

يقول في موضع آخر: بأنها بُنيت على الإلهية، والربوبية، والرحمة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبني على الإلهية وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم صفة الرحمة، فمن - رحمه الله - هداه ووفقه، والحمد يتضمن هذه الأمور الثلاثة: فهو محمود بإلهيته، وربوبيته ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده، وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بالأعمال: الحسن، والسيء، وتفرد الرب بالحكم بين الخلائق، وأن هذا الحكم بالعدل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، والحساب[14].

وذكر في مواضع أخرى أيضًا القوة النظرية العلمية، والقوة العملية الإرادية للإنسان، وإن السعادة موقوفة على استكمال هاتين القوتين، فاستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة الخالق - - معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الموصل إليه، ومعرفة آفات هذه الطريق، ومعرفة النفس وعيوبها، وبهذه المعارف تحصل كمال القوة العلمية، وأن أعلم الناس هو أعرفهم بها، وأن أفقههم هو الذي يدرك ذلك إدراكًا صحيحًا، وأن استكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بالقيام بوظائف العبودية، ومراعاة حق المعبود - - والإخلاص، والمتابعة، واستحضار المنة، وشهود التقصير في حقه فهو على كل حال يستحي من ربه - تبارك وتعالى - وهذا لا يتحقق للعبد يعني هذه المعرفة القوة العلمية، والقوة العملية إلا بمعونة الله فالعبد مضطرٌ إلى ذلك، وإلى هدايته إلى الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وأن يجنبه الخروج عنه، فيقع في حال من الغضب، أو الضلال، فلا تتم السعادة إلا بمجموع هذه الأمور التي تضمنتها سورة الفاتحة، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : هذا كله يتضمن الأصل الأول الذي يتعلق بالقوة العلمية، معرفة الرب ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وكذلك أيضًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذا يتضمن معرفة الطريق الموصل إليه، وهي عبادته وحده، والاستعانة به على عبادته اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يتبين أنه لا سبيل إلى الوصول إليه، والسعادة، ونيل ما عنده إلا بالاستقامة على صراطه المستقيم، وهذا لا يتحقق إلا بهداية الرب - تبارك وتعالى - كما أنه لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته، فلا سبيل إلى الاستقامة على صراطه إلا بهدايته.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ: هذا يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم فساد العلم، والاعتقاد، وكذلك أيضًا فساد القصد، والعمل.

يقول: فأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمته، ورحمته، والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا، وذلك من موجبات إلهيته، فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون، فمتى تحقق بمعاني الفاتحة علمًا، ومعرفة، وعملًا، وحالًا؛ فقد فاز من كماله بأوفر الحظ، والنصيبـ وصارت عبوديته عبودية خاصة[15] وكذلك ذكر شيئًا من هذه المعاني الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.

"خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: (آمين) اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر."

يقول: أُمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ آمين يعني استجب، فهو اسم فعل بهذا الاعتبار، وأما القول بأنه من أسماء الله فهذا لا يثبت، فليس من أسمائه آمين.

يقول: ويجوز فيه مد الهمزة: آمين. ويجوز القصر: أمين. ولا يجوز تشديد الميم: آمّين يعني قاصدين، وهذا قال بعه بعضهم لكنه غير صحيح، آمّين يعني قاصدين الله بالعبادة، والاستعانة.

قال:  وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر: يعني المأموم هل يجهر، أو لا؟ تعرفون مذهب أبي حنيفة أنه لا يجهر[16] ومذهب الجمهور أنه يجهر[17] وهذا هو الصحيح، وقد دل على هذا أدلة، وأن المأموم يجهر كما جاء في حديث أبي هريرة حتى يرتج بها المسجد.

فهذه هي السنة الجهر بالتأمين خلف الإمام، ويدل عليه الحديث أيضًا: إذا أمن القارئ فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[18].

أما القول بأنه لا يجهر باعتبار أن ذلك دعاء بمعنى استجب، وأن الدعاء لا يُشرع فيه الجهر؟ فهذا ليس على إطلاقه، فالجهر في الذكر، والدعاء يطلب حيث شُرع، وإنما يكون ذلك باتباع الدليل، فيستحب للقارئ أن يسكت سكتة لطيفة بعد قراءة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ثم يقول: آمين. سواء كان في الصلاة، أو خارج الصلاة، يعني لو قرأ الفاتحة خارج الصلاة فيستحب له أن يقول: آمين. فضلًا عن حال الصلاة، وهي ليست من الفاتحة بالإجماع، ولهذا لم تثبت في المصاحف، وفيها اللغتان على كل حال بالمد آمين على وزن فاعيل، وأمين على وزن فعيل، والقصر هو الأصل، فإذا قال الناس آمين مدوا الألف فهذا صحيح، وإذا قصروا فهذا أيضًا صحيح، كله صحيح، على كل حال هذه عشرون مسألة في الفاتحة.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (770).
  2.  تفسير الطبري (1/166).
  3.  أخرجه أحمد، رقم: (17634) .
  4. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم: (2906)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (1788)، والدارمي في سننه، رقم: (3374)، وقال الألباني: ضعيف جدا. مشكاة المصابيح (1/ 659).
  5.  مدارج السالكين (1/33 - 34).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (771).
  7.  الموافقات (2/264).
  8.  صحيح ابن حبان، رقم: (6246)، المعجم الأوسط، رقم: (3813)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/42).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: (3827).
  10.  تفسير ابن كثير (1/143).
  11.  انظر: بدائع الفوائد (2/33).
  12. أخرجه أحمد، رقم: (19381)، وابن حبان، رقم: (6246)، والطبراني في المعجم الكبير، رقم: (237).
  13. مدارج السالكين (1/81).
  14.  المصدر السابق (1/31).
  15.  انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 18 - 20).
  16.  البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/320)، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 97)، النهر الفائق شرح كنز الدقائق (1/201).
  17.  مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص: 72)، المغني لابن قدامة (1/353)، المجموع شرح المهذب (1/67)، تفسير القرطبي (1/127).
  18.  أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التأمين، رقم: (6402)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع، والتحميد، والتأمين، رقم: (410).

مرات الإستماع: 0

قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يقول ذلك تعليمًا لعباده كيف يقولون؟ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا وثبتنا، فكل ذلك داخل في سؤال الهداية هنا، كما سيتبين -إن شاء الله تعالى.

دلنا إلى الصراط، ووفقنا إلى الطريق المستقيم الذي رسمته لعبادك من أجل سلوكه، وثبتنا عليه حتى نلقاك، وهو الإسلام الذي هو الطريق الواضح، الموصل إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وإلى جنته، وهو الذي دل عليه النبي ﷺ ودل عليه الأنبياء قبله، فلا سبيل إلى الفلاح والسعادة والنجح إلا بلزومه وسلوكه، والاستقامة عليه، فهذا معنى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

نُلاحظ أن هذه الآية نقرأها في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وذلك والله أعلم أنها تضمنت أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله[1] فإن الله -تبارك وتعالى- إذا هدى العبد إلى الصراط المستقيم أعانه على طاعته، وترك معصيته، فسلم من الشرور في الدنيا والآخرة، وحصلت له السلامة، وحصل له الفوز والنعيم والراحة والروح، وحصلت له الحياة الكاملة بحسب لزومه لهذا الصراط المستقيم، فأعظم الدعاء أن يدعو العبد ربه أن يهديه صراطه المستقيم.

ولاحظوا هذا الفعل (اهدنا) هو فعل أمر، ولكن العلماء -رحمهم الله- يقولون: إذا صدر فعل الأمر من الأدنى إلى الأعلى، فإنه يكون من قبيل الالتماس والدعاء، فالعبد لا يأمر ربه، وإنما يدعوه بذلك، فيقول: ربي اغفر لي، ربي ارحمني، ربي اجبرني، فليس هذا بأمر لله وإنما هو دعاء، وإذا صدر ذلك إلى من دونه، فهذا أمر، كما يقول الرجل لولده: افعل كذا، أو يقول الرب لعبده: أقم الصلاة، أو نحو ذلك.

ثم لاحظوا أيضًا هذا الفعل (اهدنا) كيف عُدي بنفسه، يعني لم يُعد بحرف الجر، مع أنه يمكن أن يُقال: اهدنا إلى الصراط، اهدنا إلى كذا، ويمكن أن يُقال: اهدنا في الصراط، أو اهدنا على الصراط، والفعل يُفهم معناه بحسب تعديته، كما قال ذلك أهل العلم، لا سيما فقهاء النُحاة من البصريين، فهذا الفعل هنا لم يُعد بحرف، فلم يقل الله: اهدنا إلى الصراط المستقيم، وإنما عداه بنفسه اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وذلك -والله أعلم- من أجل أن يتضمن هذا الدعاء أنواع الهداية، كل الهداية التي تريدها تدخل فيه، فهل نتبصر بما نقول؟!

والهداية على نوعين:

النوع الأول: هداية العلم والإرشاد.

والنوع الثاني: هداية التوفيق، وهداية العلم، وأن يعرف العبد الحق، وأن يُميز بين معدن الحق ومعدن الشبهات، وكذا هداية العلم وهي أن يُميز العبد الأعمال فيعرف فاضلها من مفضولها إلى غير ذلك من أنواع الهدايات.

وما كل من هُدي إلى العلم الصحيح يُهدى إلى العمل بمُقتضاه، فكثيرون يعلمون من حقائق الدين والشرع أشياء كثيرة، ولكنهم عن القيام بها وتحقيقها بمعزِل، فالخلق جميعًا يحتاجون إلى هداية أخرى وهي هداية التوفيق: الكفار، والفراعنة، وغير الفراعنة، ماذا قال الله عنهم؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] تكبرًا، وهكذا اليهود: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] ولم يقل: كما يعرفون أنفسهم؛ لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد مدة من ولادته، لكن هو يعرف أولاده مُباشرة، الشبه هو الشبه، لا يُخطئه يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة:146] ومع ذلك أقل الناس دخولاً في الإسلام هم اليهود، منذ بُعث النبي ﷺ ؛ لأنهم معدن الكِبر والحسد، وقتلة الأنبياء، ونقضة العهود، ومن ثَم -أيها الأحبة- نجد أن الكثيرين ما تبعوا ﷺ مع معرفتهم بصدق ما جاء به، فهذا عمه أبو طالب الذي دافع عنه، ووقف معه، وبذل في نُصرته ما لم يبذله أكثر المسلمين، من منا قدم ودافع عن الإسلام وأهله كما قدم أبو طالب، ومع ذلك كان يقول:

ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية دينا[2].

في قصيدة مشهورة معروفة ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه.

فلم يُسلم، لكنه كان يُحاذر الملامة من قومه، والمسبة الذي يتوهم لحوقها به؛ ولذلك لما مات وكان النبي ﷺ يدعوه إلى الدخول في الإسلام كلمة أُحاج لك بها عند الله[3] قال: هو يموت على دين عبد المطلب، يقول ذلك، ويموت عليه، فلاحظ فعل الهداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ ففعل الهداية هذا - كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله[4]: متى عُدي بـ(إلى) تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، فـ(إلى) تُفيد الغاية، ومتى عُدي باللام: اهدنا للصراط، أو هديت فلانًا لكذا، تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، فيكون خاصًا، وإذا عُدي بنفسه اهْدِنَا الصِّرَاطَ تضمن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعرف على الصراط، والبيان والإلهام الذي هو التوفيق أن يُلهم اتباع هذا الصراط، أن يشرح الله صدره لذلك، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فهو بقوله هذا ودعائه يطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يُعرفه هذا الصراط، وأن يُبينه له، وأن يُلهمه إياه، فيوفق إلى سلوكه، ويُعان، وتكون أحواله مهيأة، وقدرته حاصلة لاتباعه ولزومه، والسير عليه، فيجعل الله علم هذا الصراط في قلبه، ويبعث قلبه على طلبه وإرادته مع القدرة عليه.

فجُرد هذا الفعل (اهدنا) من الحرف، فلا يُعدى بشيء من الحروف؛ ليتضمن هذه المراتب جميعًا، فيكون ذلك سؤالاً للهداية بجميع أنواعها، وسنبين بعد قليل - إن شاء الله - هذه الهدايات الداخلة تحت هذا الدعاء.

وأيضًا من هُدي في هذه الدار إلى الصراط المستقيم الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، هُدي هناك إلى الصراط المُستقيم، الموصل إلى جنته، ودار ثوابه، فالجزاء من جنس العمل، كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: على قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ليكون طريقًا لهم يسلكونه؛ يكون ثبوت قدمه هناك على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، فمنهم من يمر كالبرق[5] لأنه في الدنيا كان يمشي على الصراط كالبرق، يُسارع في الخيرات، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المُسلم، ومنهم المُكردس في النار.

فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا الصراط، حذو القُذة بالقذة، جزاء وفاقًا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فينظر العبد في حاله وإقباله على الطاعات، ومراقبته لربه -تبارك وتعالى- وصلاح العمل والحال والنية والقصد والقلب، وحفظ الجوارح عن مساخط الله -تبارك وتعالى- والقيام بوظائف العبودية، فيجد ويجتهد ليكون سيره هناك جادًا حثيثًا، وتكون مرتبته عند الله -تبارك وتعالى- في أعلى المراتب، إن الذي يزرع الشوك لا يُرجي أن يحصد العِنب، والذي يشتغل في دنياه بالمعاصي والآثام يحمل قلبًا مُظلمًا، فما الذي يُرجيه في الآخرة إن لم يتداركه الله -تبارك وتعالى- برحمته وعفوه وألطافه. 

والله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة يذكر فيها أن ذلك يكون بحسب الأعمال يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ۝ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۝ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [سورة القيامة: 13 - 15] فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ۝ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى ۝ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ۝ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ۝ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۝ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ۝ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [سورة النازعات:34- 41].

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ۝ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ۝ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:19- 22] جزاء على ماذا؟ على الفجور! على الآثام؟! الجزاء على الأعمال الصالحة، وكان سعيكم، أي سعي؟ السعي في طاعة الله فالدنيا معبر تمضي على الصحيح والمريض والغني والفقير، ولكن الحياة هناك، والراحة هناك، والشقاء هناك، فالعاقل من سخر أنفاسه في استجلاب تلك الراحة والنعيم؛ ليكون من هؤلاء الذين وصف الله -تبارك وتعالى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:22].

هذا الصراط هو الطريق المُحدد المُعتدل الذي يصل بسالكه إلى مطلوبه بأقرب وأسرع ما يكون.

والله -تبارك وتعالى- ذكر صراطه المُستقيم في غير موضع، ويُسميه بالصراط، ولم يُسم الله -تبارك وتعالى- طريق الشيطان بالصراط، وإنما يُسميه سُبلاً وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153] فهذا يُقال لصراط الله التي رسمها لعباده.

ووصفه بالاستقامة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] مع أن أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقولون: إن الصراط لا يكون كذلك إلا إذا كان مُستقيمًا[6] فلا بد فيه من استجماع شروط:

أن يكون مُتسعًا للمارة، وأن يكون موصوفًا بالاستقامة، فإذا كان الصراط يعني الاستقامة، فلماذا وصفه بالاستقامة؟ يُقال: هذه صفة كاشفة، وليست مُقيدة، يعني: لو كان هناك صراط مستقيم وصراط آخر غير مُستقيم، تكون هذه صفة مُقيدة، كما تقول: رجل طويل؛ لأنه يوجد رجل غير طويل، لكن حينما تقول: رجل ذكر، فهذه يُقال لها: صفة كاشفة تكشف الحقيقة فقط، ولا تُقيد الموصوف، لكن حينما تقول: رجل مؤمن، يوجد رجل غير مؤمن.

فهذه صفة كاشفة، وكقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:21] فهل يوجد أحد يقتل نبي بحق؟ لا، إذًا هذه صفة كاشفة، تكون للتأكيد، ولبيان شناعة هذا الفعل في هذا الموضع، وكذلك: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117] فهل يوجد أحد يمكن أن يدعو مع الله إلهًا آخر، له به بُرهان ودليل؟ لا يوجد، لكنه ذكر ذلك توكيدًا وإبرازًا لهذا المعنى، وأن أولئك الذين يدعون مع الله آلهة أخرى هؤلاء في الواقع لا بُرهان لهم بذلك، ولا علم لهم به.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [سورة الأنعام:38] ولا يوجد طائر يطير برجليه مثلاً، فذكر الجناحين، فهذا للتوكيد، وليس المقصود ما قد يستعمله العرب من ذكر الإسراع بالطيران، تقول: طاروا إليه زرافات ووحِدانا، لكن هنا وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ الطائر الحقيقي يطير بجناحيه، وفي هذا آية كيف يُحلق هذا الطائر، فذلك من آيات الله -تبارك وتعالى- صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [سورة الملك:19] يعني: للأجنحة، وهذا في نظائر من كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] مع أن الإنسان لا يقول إلا بفيه.

وكقوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] والإنسان إنما يكتب بيده، لكن هذا لتسجيل ذلك عليهم، وفي ذكر الأفواه أنه قول لا يتجاوز الأفواه، أو لتسجيل هذا الجُرم عليهم: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [سورة النور:15] لأنه قول لا حقيقة له في الواقع، إنما هو قول لا يتجاوز تلك الأفواه المتفوه به.

وهنا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فأضافه إلى الاستقامة وعرفه؛ لأنه معروف لدى المُخاطب، وفي موضع آخر يقول: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [سورة الفتح:2] جاء به مُنكرًا (صراطًا) فلما عرّفه أنه يهديه صراطًا علمه كيف يدعو، اهدنا الصراط الذي أخبرتنا عنه، ووعدتنا بالهداية إليه، كما قال الله في مكة البلد الحرام في دعاء إبراهيم : اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [سورة البقرة:126] لم يكن بلد، ولم تكن مكة بلدًا حينما قال إبراهيم ذلك، جاء إلى وادٍ غير ذي زرع، فوضع هاجر -رحمها الله- في هذا المكان، مع ابنها إسماعيل فلما صار بلدًا قال الله -تبارك وتعالى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم:35] فهذا لما وجد البلد، وهكذا.

ثم أيضًا هذا الصراط أضافه -تبارك وتعالى- في بعض المواضع إلى نفسه صِرَاطِ اللَّهِ [سورة الشورى:53] باعتبار أنه هو الذي رسمه، وأمر بسلوكه، وفي بعض المواضع أضافه إلى السالكين صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] لأنهم أهل سلوكه، فتارة يُضاف إلى من رسمه وسنه، وهدى إليه، وأمر بلزومه وسلوكه، وهو الله -تبارك وتعالى- وتارة يُنسب إلى السالكين، وفي موضع آخر أخبر بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52] باعتبار أن النبي ﷺ يُرشد، فالهداية المنسوبة إلى النبي ﷺ هي هداية العلم والإرشاد والتعليم.

فالصراط المستقيم -أيها الأحبة- هو طريق أهل الإيمان واليقين، وطريق أهل الهدى والفلاح، ودونه مفاوز ومطالب، ومُتطلبات من المُجاهدات والمُكابدة ومشقات تحتاج إلى صبر، وفي الحديث: لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها، وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها [7]فالكسب الحرام، واللذة الحرام، والشهوات المحرمة، والأصوات المحرمة، والصور المحرمة، وأنواع المُتع المحرمة، هذا هو الطُعم إلى النار، كل طُعم يدعو إلى ما بعده، ويجذبه حتى يصل إلى النار.

ثم لما خلق الجنة أرسل جبريل فنظر إليها بما فيها من البهجة والنعيم والسرور وأنواع اللذات، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره الصبر بأنواعه، والقيام بالطاعات وترك المعاصي فحفها بالمكاره فنظر إليها جبريل فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد.

فهذا الصراط المستقيم هو طريق أهل الفلاح وهو محفوف بالمكاره، ودونه مفاوز تحتاج إلى مُجاهدات، فإذا صبر العبد فإنه بذلك ينال تاج النِعم، ويصل إلى المُعسكر الآمن الذي لا يجد بعده ألمًا ولا همًا ولا حُزنًا ولا صُداعًا ولا مرضًا ولا خوفًا ولا كدرًا، بأي نوع من أنواع الأكدار، وإنما اللذات الكاملة، في الحياة الدائمة الأبدية السرمدية، تلك الحياة التي تستحق أن يُضحى من أجلها بشهوات مُتقضية مُتكدرة في هذه الحياة الدنيا، فينبغي للعاقل أن يفتح بصيرته، ويسعى إلى ذلك، وأن يُكثر من الدعاء واللهج أن يهديه ربه إلى الصراط المستقيم.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] في كل ركعة يتبين شدة الحاجة إلى الهداية إلى هذا الصراط، أعظم من الحاجة إلى الرزق أو النصر، بل لا نسبة بين الهداية إلى الصراط المستقيم، وتحصيل الأرزاق والأقوات، وما إلى ذلك؛ لأنه إذا حصلت له الهداية، فلا تسأل عن حاله، لا تسأل عن حاله وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3].

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96].

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة:66] لا قلق من شُح في الأموال والأرزاق ومشكلات اقتصادية وقلة في الأمطار، أو تنزل الأمطار، ولا تُخرج الأرض الزروع والثمار لنزع البركات، فإذا وجدت التقوى ساق الله ألطافه إلى هؤلاء المتقين.

ولذلك لما مُنع الكفار من المجيء إلى الحرم، ودخول البلد الحرام، ونودي على ذلك في الموسم في السنة التاسعة للهجرة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يعني: فقرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [سورة التوبة:28] وعد بالإغناء، لماذا؟ لأن المشركين كانوا يأتون من أطراف البلاد، ومعهم التجارات فتقوم سوق حافلة في مكة ونواحيها وما جاورها، فخافوا أن يُسبب لهم ذلك مشكلة اقتصادية، حينما يُمنع المشركون من المجيء إلى الحرم في موسم الحج، وتكون تلك الأسواق كاسدة، فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ [سورة التوبة:28] لا تقلق من هذا الجانب، فالذي وضع لك وأنت في بطن أمك حبل السُرة يصل إليك الغذاء، بلا عمل إنسان، ولا عمل يديك، واليد مُعطلة هكذا، هو الذي خلقنا سيوصل إلينا الأرزاق، ولن يُضيعنا، لكن الكلام على الهداية، فإن ركوب الضلالة هو سبب للمشكلات والعُسر والشدائد في الدنيا والآخرة.

وهذه الآية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] هي خُلاصة المُقدمات التي قبلها من الحمد، والثناء، والتمجيد، وذكر العبادة، والاستعانة بالله -تبارك وتعالى- فهذا ثمرة تلك الخُلاصة، تلك الهداية التي تملأ قلب العبد، فيكون في جنة في الدنيا، قبل جنة الآخرة. 

أختم الحديث بما يُستخرج من الهدايات في قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] فهذا الدعاء الذي علمنا الله -تبارك وتعالى- إياه في هذه السورة الكريمة، وشرع لنا أن نُردده في كل ركعة، يدل على أهميته، وشدة الحاجة إليه، ومن عرف حقيقة الهداية، فإنه لا يعجب من مثل هذا الأمر، وكثرة طلبه، فإن العبد يحتاج في كل لحظة إلى هداية من الله -تبارك وتعالى- يهدي بها قلبه ولسانه وجوارحه، وما حصل له من الهدايات، فإن ذلك لا يعني أنه قد استوفى الهداية بجميع صورها وأنواعها وأحوالها، فهو في كل وقت وحين بحاجة إلى هداية جديدة.

وتأملوا معي -أيها الأحبة- إذا كان السؤال الذي قد يقوله بعضنا: قد هدانا الله إلى الإسلام، فلماذا ندعو ونُردد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]؟ والصراط المستقيم هو الإسلام، فقد هُدينا إلى الإسلام، فما الحاجة إلى هذا الدعاء؟

فالجواب: أن العبد بحاجة إلى الهداية في كل حالاته، هو بحاجة إلى هداية إلى الإسلام أن يعرفه، وهداية إلى الإسلام أن يدخل فيه، وهذا لمن لم يدخل فيه، ولكن حينما يدخل في الإسلام فهو بحاجة إلى هدايات كثيرة، مع كل نفس من أنفاسه؛ وذلك أن هذه الشريعة -كما قال شيخ الإسلام: "شريعة واسعة، بمنزلة الشرائع المُتعددة".

فمعرفة تفاصيل الصراط المستقيم الذي جاءت هذه الشريعة شارحة له، ومُبينة لمعالمه، فهذا يحتاج إلى علم، ويحتاج إلى معرفة بهذه التفاصيل، فكثير من الناس لا يُهدى أصلاً إلى طريق العلم، فهو لا يحضر مجالسه، ولا يتعاطى أسبابه، ثم أيضًا إذا هُدي إلى تطلبه فإنه قد لا يُهدى إلى الصواب والحق، فإن الإنسان قد يقرأ ويُراجع ويبحث ولكنه يخرج بنتيجة غير موفقة، فيحتاج إلى هداية إلى الحق، واختلاف الناس في هذا مُشاهد، وكلما بعُد العهد بشمس النبوة قلّ العلم وكثُر الاختلاف، وكثُرت الفتن والافتراق، وكل يدعي أنه على الحق، فيحتاج العبد إلى معرفة الحق من بين ذلك كله، فيقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم [8] فذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة: الموكل بالوحي الذي به قِوام الأرواح وهو جبرائيل ، وميكائيل هو الملك الموكل بالأرزاق التي بها قِوام الأبدان، وإسرافيل وهو الملك الموكل بالنفخ في الصور، فيرجع الناس أحياء بعد موتهم وفنائهم، فالله -تبارك وتعالى- رب هؤلاء، الذين وكِلوا بهذه الأمور العِظام، وهو القادر على هداية العبد للحق، فيدعو بهذا الدعاء.

وكما كان يقول شيخ الإسلام -رحمه الله: "اللهم يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سُليمان فهمني"[9] وكان يقرأ في الآية الواحدة ربما مائة تفسير، ويذهب إلى بعض المساجد الخرِبة المهجورة في دمشق، ويُمرغ وجهه في التُراب والغُبار، ويدعو بهذا الدعاء "اللهم يا مُعلم إبراهيم علمني، ويا مُفهم سُليمان فهمني" وهو جبل في العلم، وإمام له قدم راسخة، فماذا يقول غيره ممن لا يقرأ إلا تغريدات قليلة، ثم بعد ذلك يظن أنه قد حصَّل علوم الأوليين والآخرين، بل جِماع العلم يرجع إلى عقله ونظره وفكره ورأيه، وهو يريد أن تُعرض نصوص الكتاب والسنة (الوحي) على عقله حتى يقبلها أو يردها.

فهذا كيف يُهدى من كان ينظر إلى نفسه بهذه النظرة، وهو أبعد ما يكون عن الاستعانة بالله -تبارك وتعالى- مع ضعف في تحقيق العبادة، ويرى أنه ليس بحاجة؛ ولذلك بعض من قلَّ بصره، وضعُف عقله إذا دُعي له بالهداية غضب؛ لأنه يرى أنه قد حقق الهداية وكمّلها، فالعبد بحاجة إلى هذه الهدايات أن يُهدى لما اُختلف فيه من الحق، فهذه الاختلافات الكثيرة: الحق مع من؟ جدل كثير، وآراء وتفرق تناحر، وكل طائفة تقول الحق معي.

ثم أيضًا إذا هُدي إلى معرفة الصواب، فإن هذه الشريعة على سعتها -كما سبق- فيها من غير الفرائض أعمال وأبواب واسعة، تفنى الأعمار، وتنقضي في بابٍ منها، والعمر قصير، وهذه تجارة مع الله -تبارك وتعالى- فقد يشتغل بأعمال مفضولة عن الأعمال الفاضلة، فتكون تجارته ليست بذات ربح كبير، وغيره قد يكون مُحصلاً للأرباح العظيمة، فيقدم على الله -تبارك وتعالى- ويُحصل أعلى الدرجات.

الناس في الدنيا يتنافسون على الأرباح والتجارات والسِلع التي يجنون من ورائها الأرباح الكبيرة من المُساهمات، وما إلى ذلك التي يعتقدون أنها أوفر ربحًا، وهكذا التجارة مع الله من باب أولى، فيحتاج العبد إلى أن يُهدى، إلى ما هو الأفضل في حقه، ويُهدى في أحواله كلها، ابتداء من تعلمه ودراسته واشتغاله بعد ذلك في الأعمال، في أي مجال أدرس؟ في أي مجال أتخصص؟ الحياة قصيرة، والإمكانيات محدودة، والوقت محدود، وماذا يعمل في أي مجال يمكن أن يقضي هذه الأوقات؟ هل حضور مجالس الذكر تضييع للأوقات يُقدَّم عليه غيره؟! هل يكون بذل الأوقات والجهود في الأعمال الإغاثية؟ هل يكون بذل الأوقات والجهود في تعليم الناس؟ هل يكون بذل الوقت والجهد في الإصلاح بين الناس في أمورهم وخصوماتهم، وما إلى ذلك؟ هذه أعمال.

وهل يكون ذلك في الاشتغال بالعلم والتعلم، وطلب العلم، أو يكون هذا في الاشتغال بنوافل العبادات من صلاة وتلاوة وذكر وقراءة للقرآن، يستغرق بها الأوقات، فيختم كل ثلاثة أيام، يصوم يومًا، ويفطر يومًا، إذا كان ذلك يُضعفه عن القيام بأعمال أخرى، أو يصرف هذه الأوقات في عيادة المرضى، وزيارة المقابر، وتفقد المحتاجين، فهذه أعمال كثيرة جدًا ولا يستطيع الإنسان أن يُدرك ذلك كله، فيحتاج إلى هداية، ويحتاج إلى حُسن قصد، ونية صحيحة، ويحتاج إلى ضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يهديه، لا يكون حاله مع ربه -تبارك وتعالى- حال المُستغني عن هدايته، لا يكاد يسأل الهداية، من منا يُكثر ويُلح على ربه في الأسحار، وفي أوقات الإجابة: اهدني لما اختلف فيه من الحق، اهدني لأفضل الأعمال، اهدني لأحب الأعمال إليك، فيوفق.

كثير منا يسير سادرًا، ولو كان على صلاح وخير، فتمضي الأوقات والأحوال والأعمال بحسب ما يسبق إليه منها، فأوقاته تُختطف، وأعماله مُشتتة، فيمضي هذا العمر القصير ولم يُحقق شيئًا يُذكر، لم يتميز في جانب من الجوانب، فتارة هنا، وتارة هناك، من غير أن يكون له هدف واضح مُحدد، فلا بد من ضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- في طلب الهداية لأفضل الأعمال، فهذه هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي: اهدني لأفضل الأعمال.

نحن نستخسر الوقت أحيانًا على ذكر الله، وعلى قراءة القرآن، وعلى التبكير للصلاة، وعلى طلب العلم، وحضور مجالس الذكر، وما أشبه ذلك، نرى أن هذا ممكن يُستغل بشيء آخر، بل ربما بعض الناس إذا رأى الشاب يحمل كتابًا ويذهب إلى درس في المسجد قال: خسارة، وإذا رأى المتفوق في ذكائه وعقله وفهمه ومداركه من الناشئة والتلاميذ ونحو ذلك وجهه إلى مجالات أخرى في علوم مادية دنيوية يقتات منها، وصرفه عن العلم الشريف، وهو العلم الشرعي، فإن انفلت من يديه، وذهب يطلب العلوم الشرعية، قال: خسارة، فهذا لم يعرف العلم، ولا حقائق ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولم يعرف هذه الشمس التي شعت على العالم، فأنرته من أنوار النبوة، يقتبس منها العلماء، فيستنير الناس بهم، بحسب ما يقتبسون من هذه الشمس، التي أضاءت هذا الكون، أنار الله بها القلوب.

فلذلك أقول -أيها الأحبة: هذه الهدايات لا تحصل لمن كان مُستغنيًا بلسان الحال، أو بلسان المقال عنها، ويرى أنه ليس بحاجة إلى شيء من هذا، وأن عقله وفهمه يُرشده، فهذا لا يرى أنه بحاجة لا للاستخارة، ولا يحتاج إلى استشارة، فهو يركب رأسه، حتى يُشدخ هذا الرأس مرة بعد مرة، وتُعلمه الأيام، ثم بعد ذلك يُدرك أنه خسر كثيرًا، لكن بعد فوات الأوان، وبعضهم لا يُدرك خسارته حتى يُدركه الموت، ولا يعرف كم ضيع مع تطاول الأيام عليه، وكثرة العِبر والعظات، التي تمر به في حياته؛ ولذلك انظروا في الاستخارة في الأعمال، يستخير الإنسان حتى في الأعمال الصالحة، بعض الناس يقول: العمل الصالح لا يُستخار فيه، يُستخار فيه؛ لأنه قد تتزاحم عنده مصالح: يحج أو يقوم على أبويه، يحج أو يقوم على أرامل وأيتام ومحاويج، أو نحو ذلك، يحج أو يقوم على مشاريع أخرى من الأضاحي أو التعليم، أو غير ذلك، فيحتاج إلى استخارة حتى في الطاعات، في غير الفرائض.

وكذلك أيضًا إذا هُدي العبد إلى الحق والأكمل من الأعمال فهو بحاجة إلى هداية أخرى، وهو أن يُهدى إلى النهوض بهذا العمل، وأن يوفق للقيام به، ونحن نعرف أشياء كثيرة جدًا، تعلمنا أشياء كثيرة جدًا، ولكن أين العمل؟ وأين التطبيق؟ ونعلم أن الغيبة حرام ونغتاب، ونعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ونجبُن عنه، وأقل ذلك في نظرنا وليس بقليل أن يُغتاب في مجالسنا، ولا ننهى هذا المُغتاب، أين العلم؟

نعلم أن التبكير للصلاة والصلاة أهم المُهمات، وأنها أفضل الأعمال، فإذا أذن المؤذن نتأخر ولا نأتي إلا على وقت الإقامة، وبعضنا لا يكاد يأتي إلا في الركعة الأخيرة، وبعضنا قد لا يُصلي إلا بعد خروج الوقت، لا سيما صلاة الصُبح، وهو يعلم، لكن لم يوفق للعمل والامتثال والتطبيق، ففي هداية وراء العلم، فبعض الناس لا يُهدى للعلم الصحيح أصلاً، وبعضهم هُدي إلى كثير من ذلك، وقد يكون عالمًا، ولكنه في العمل أبعد ما يكون عن مُقتضى هذا العلم، لا في أخلاقه، ولا تعاملاته، ولا ذمته المالية، ولا غير ذلك، هو بعيد، كأنه لم يتعلم، حال بعض العامة أفضل منه، وإنما زاده هذا العلم للأسف قسوة في القلب، ولجاجة وكِبرًا وصلفًا وترفعًا.

ثم أيضًا إذا هُدي العبد للعمل والامتثال والتطبيق، فهو يحتاج إلى هداية أخرى، وهو أن يُثبت.

فلو عددنا هذه الهدايات ربما تكون خمس أو ست، ومنها: التثبيت، فالعبد بحاجة إلى التثبيت على العمل المُعين، والتثبيت على الصراط أصلاً بالنظر الكُلي في سلوك الصراط المستقيم، وفي العمل المعين، فكثير من الناس يكون العمل عنده طفرة، كان يقوم الليل فترك قيام الليل، وكان يصوم الاثنين والخميس فترك صيام الاثنين والخميس، وكان له ورد من القرآن يختم في كل شهر، أو في عشرة أيام أو أسبوع، فترك ذلك، وكانت له عادة من صدقة، أو نحو هذا فقطعها، فهنا يحتاج العبد إلى تثبيت.

ثم إذا كان الإنسان عند الموت والاحتضار وحضره الشيطان، فإنه بحاجة إلى تثبيت من أجل أن يُختم له بخاتمة حسنة، أن يموت على لا إله إلا الله، والعبد كما أخبر النبي ﷺ: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة  [10] فالعبد يحتاج إلى هداية عند الممات، فالإنسان لا يدري يموت على ماذا؟ وفي هذه الأوقات التي كثُرت فيها الشرور والفتن أصبح الإنسان يغبط من يموت، وهو في حال من السلامة من هذه الشرور.

أنا إذا ذهبت لتعزية أحد من الناس أعرف أنه مات على الفطرة، ومات على سلامة، أقول: يُرجى له خير، فلا تبكوا على ميتكم، مات سالمًا من هذه الشرور، فالفِتن تتخطف الناس اليوم، من إلحاد - نسأل الله العافية - وشكوك، أصبح الناس يصلون عن طريق هذه الوسائل إلى شرور وعقائد وزندقة، امرأة تقول: بأن ولدها المُراهق لا يصوم رمضان، ويسب الأنبياء، ولا يعترف بالدين وغير ذلك من العظائم، من أين تلقى هذا؟ قالت: من الشبكة، يدخل في مواقع، فلم تعد القضية أن الولد ربما يتعاطى بعض المنكرات، بل إلحاد وكفر وزندقة، نسأل الله العافية.

فهذا باب من أبواب جهنم، وأبواب أخرى قد يدخل فيها الإنسان، ويلج من جهة طلب ما عند الله -تبارك وتعالى- بزعمه، فيدخل في ضلالات من الأهواء والبدع بأنواعها، ويتقرب إلى الله، وينقضي العُمر وربما ضحى بنفسه على ضلالة، وعلى غي، نسأل الله العافية، فيموت دونه، ويبذل كل الأنفاس في نُصرته، وهو على باطل، فيرى هذا الباطل كل من له بصيرة، ولكن هذا الإنسان يعمى عنه، ومهما يورد عليه من الحقائق، ومهما يرى من الشواهد، فإنه - نسأل الله العافية - لا يُبصر ذلك، ولا يرعوي، ولا يرجع عن هذا الغي، ففي ظل هذه الشرور الكثيرة يحتاج العبد إلى تثبيت أن يموت على الحق.

قد يُحرم العبد بعض هذه الهدايات لسبب أو لآخر إما لكِبر، أو لغير ذلك من الأمور، فإذا أخبت العبد إلى ربه، وتواضع وتعاطى الأسباب، وتضرع إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يُخيب ظنه ورجاءه، بل يُسدده ويهديه ويوفقه.

وهناك هدايات بعد ذلك، لكن هي لا تدخل في مثل هذا الدعاء؛ لأنه قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] يدل على أنه الصراط الذي شرعه الله ورسمه لعباده، وإلا فهناك هدايات أخرى حتى بعد الموت، فإذا جاءه الملكان يسألانه: من ربك؟ فيحتاج إلى هداية، فهذا السؤال لا يمكن أن يُجاب عنه بالحفظ والمعلومات.

وكذلك أيضًا حينما يُحاسب الرب -تبارك وتعالى- عبده يحتاج إلى هداية في الجواب عند الحساب، فهو حساب من لا يخفى عليه خافية، والحساب هناك والوزن بمثاقيل الذر، في لحظة كذا عملت كذا، وقدمت كذا ونظرت إلى كذا، ومست يدك كذا، ومشت رجلك إلى كذا، فكل ذلك مسطور، والشواهد موجودة، والأرض تنطق والجوارح تنطق، ولا مجال للإنكار، ولا ينفعه لا حلف ولا غيره، فيحتاج العبد إلى هداية عند الحساب.

ويحتاج إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جهنم، ويحتاج إلى هداية على الصراط؛ لأن الزلة هناك ليست كزلة الرجل هنا، هناك تحته نار تلظى، فالإنسان لو يمشي على جدار سطح، أو نحو ذلك، أو يمشي على جُرف جبل وليس تحته نار يشعر أن الدنيا تدور في رأسه، فيوشك أن يسقط، وإذا نظر إلى بئر عميقة ربما يشعر أنه سيتردى فيها بمجرد النظر، فكيف إذا كانت نار جهنم تحته تضطرم، وهو يمشي على هذا الصراط.

لو قيل للإنسان: تمشي على جُرف جبل أو طريق في جبل رُبع متر على قدر القدمين، وتقطع هذه المسافة التي هي مائة متر، وتحته هوة سحيقة، فلا يستطيع أكثر الناس أن يمشي على هذا، ولو قيل له: امش على الأرض لمشى، لكن لو خُيل إليه أن هذا الخط الذي يمشي عليه على الأرض أنه في الدور العاشر، أو الدور رقم ثلاثين، فهو لا يستطيع أن يمشي عليه مثل ما يمشي عليه من الأرض، فكيف إذا كان تحته نار جهنم؟! فيحتاج أن يُهدى على الصراط.

ثم يُهدى إلى باب الجنة، ثم يُهدى إلى منزله في الجنة، فالجنة ضخمة هائلة كبيرة عرضها السماوات، فلا تسأل عن الطول، فيحتاج أن يُهدى إلى منزله في الجنة، هذه هدايات آخرها أن يدخل منزله في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهل الجنة، ومن أهل الفردوس الأعلى، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

وبهذا نعرف أهمية هذا الدعاء، وما يدخل تحته، فحينما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] نستشعر هذه الهدايات، وأننا بحاجة في كل لحظة إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى.

ويمكن أن يكون من الهدايات أيضًا: أن يُهدى إلى الدعوة إلى ذلك، والصبر على ذلك، لكنه مُضمن فيما سبق فيما يتعلق بالتفاضل بين الأعمال، هل يشتغل بالدعوة إلى الله، أو يشتغل بعبادات قاصرة؟ مُضمن فيها، والصبر مُضمن في ذلك في التثبيت.

وهل يلزم أن يستحضر العبد هذه الهدايات جميعًا عند قراءتها؟

لا يجب، ولكنه حينما يستحضر هذه المعاني جميعًا، وهذه الهدايات يكون طلبه أوقع وأثر ذلك على نفسه، ولا شك أبلغ من إنسان يقول: لماذا نُردد هذا، وقد هدانا الله إلى الإسلام؟ شتان بين شخص يشعر أنه مع كل نفس بحاجة إلى هداية، فشرائع الدين كثيرة، والأعمال المُستجدة كثيرة، فهو في كل لحظة يحتاج إلى أن يُهدى ماذا يفعل فيما يواجهه؟

وفي إجابات أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين، أن العلماء كانوا إذا أراد أحدهم أن يُجيب ماذا كانوا يقولون؟ بعضهم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم يقول غير ذلك، وينتظرون، ويتمهلون، وبعضهم يظهر ذلك على وجهه، فيحتاج إلى هداية من أجل أن يُجيب صوابًا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "تعرض لي المسألة فأُكثر من الاستغفار، وأنا في السوق، أو في الطريق، أو في المدرسة، أو في أي مكان حتى يُفتح لي فيها"، فيُكثر من ذكر الله والاستغفار، ونحن على جفاف، وقلة صبر، وقلة علم، وأحيانًا قلة قصد، وضعف في النيات. 

  1.  الحسنة والسيئة (ص: 83).
  2.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب برقم: (3884). 
  3.  البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 56). 
  4.  بدائع الفوائد (2/ 22). 
  5.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 33). 
  6.  البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 56). 
  7. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة الجنة، باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات برقم: (2560) وقال الألباني: "حسن صحيح". 
  8.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم: (770). 
  9.  إعلام الموقعين (4/ 257)، (2/ 410). 
  10. أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر برقم: (4207).