السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

"وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] إلى آخرها أن الله يقول: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ [سورة الفاتحة:7] مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم".

عطف البيان والبدل حقيقتهما واحدة، لكن عطف البيان أوضح، أي إذا كان الثاني أوضح من الأول فهذا هو عطف البيان، وهذا في بدل الكل من الكل، ففي قوله تعالى: الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ وقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ يتضح أن الثاني أوضح؛ لأنه مقيد مفسر مبين لا يلتبس، وهكذا فمثل هذا يكون عطف بيان، وأما إذا كان دونه في الوضوح، أو مساوياً له فإنه يقال فيه: إنه بدل، فلو قلت مثلاً: جاء عبد الرحمن بن صخر أبو هريرة، يكون أبو هريرة عطف بيان لأنه أوضح، لكن إذا قلت: جاء أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، فإن عبد الرحمن يكون بدلاً لا عطف بيان؛ لأنه ليس أوضح من الأول.

"والذين أنعم الله عليهم المذكرون في سورة النساء حيث قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۝ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا [سورة النساء:69-70].
وقوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ المعنى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، والطاعة لله، ورسله، وامتثال أوامره، وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
وأكد الكلام بـ "لا" ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين وهما: طريقتا اليهود والنصارى ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق، والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الحق ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه".

قوله: "وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه" لمّا عرف النصارى أن الذي جاء به النبي ﷺ هو الحق تركوه، فصاروا من أهل الغضب إضافةً إلى ما عندهم من ألوان الضلال.

"لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة:60]، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:77] وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بيِّن.
روى الإمام أحمد عن عدي بن حاتم قال: "جاءت خيل رسول الله ﷺ فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله ﷺ صُفُّوا له، فقالت: يا رسول الله نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمُنَّ عليَّ منَّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله، قالت: فمُنَّ عليَّ، فلما رجع ورجلٌ إلى جنبه ترى أنه عليٌّ قال: سليه حملاناً، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها...".

قوله: "قال: فأتتني" أي عدي يقول: فأتتني يعني أختي.

قوله:"فقالت: لقد فعل" يعني النبي ﷺ.

قولها: "فعلة" يعني من الجود، والكرم، والإحسان.

قولها: "ما كان أبوك يفعلها" يعني حاتماً.

وفي بعض الكتب "لقد فعلت فعلة" فتكون محمولة على أن عديًّا فرَّ؛ لأنه ذهب إلى منتهى بلاد الإسلام كما جاء في بعض الروايات، فأخبرته بما وقع لها، وقالت له: اقدم عليه، وذكرت أنه قدِم عليه فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، وقدم فلان فأعطاه، فأطمعته بالقدوم على النبي ﷺ في حال الرضا أو السخط، فجاء من غير جوار.
"... لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة، وصبيَّان، وذكر قربهم من النبي ﷺ قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى، ولا قيصر، فقال: يا عدي ما أفرَّك؟ أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله؟ ما أفرَّك؟ أن يقال الله أكبر فهل شيء أكبر من الله ؟ قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[1] وذكر الحديث ورواه الترمذي وقال: حسن غريب"
هذا حسنه أيضاً بعض أهل العلم مثل الحافظ ابن حجر - رحمه الله -، والجملة الأخيرة منه: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى يوجد ما يشهد لها، وهو الحديث الثابت عن بعض أصحاب النبي ﷺ عنه أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى[2].

"وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته، وجانب عبادة الأوثان، ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود، ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا، ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه، آمن بما وجد من الوحي ".أصل هذه الرواية في البخاري، وهي أنه لقي حبراً من أحبار اليهود فسأله عن دينه، وأخبره أنه يرغب في الدخول في دينهم، فقال له هذا الكلام.

قال المفسر - رحمه الله تعالى -: "اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية - تبارك وتعالى -، وتنزيهه أن يكون له شريك، أو نظير، أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم، في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم: المغضوب عليهم، والضالون".فهذه المعاني التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مما اشتملت عليه سورة الفاتحة هي المعاني الظاهرة المتبادرة، وإلا فإن هذه السورة لو أردنا أن نستخرج منها المعاني التي دلت عليها بطرق الاستنباط المختلفة، وتوظيف ألوان الدلالة؛ فإن هذا أمرٌ سيطول، ومعلومٌ أن من أهل العلم من يستخرج من البسملة بمجردها ما يقرب من ثلاثين وجهاً من القضايا المتعلقة بالتوحيد، وبعضهم يزيد على هذا، وأما الفاتحة فحدّث ولا حرج، وتجد أن الموضوع الواحد يستخرج له من ألوان الدلالات من سورة الفاتحة ما يثبته، إما بطريق اللزوم، وإما بطريق التضمن أو غير ذلك.

فمثلاً يمكن أن يستخرج من سورة الفاتحة موضوع الإيمان باليوم الآخر وذلك من قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3]، ووجه ذلك أن رحمته - تبارك وتعالى - بخلقه تقتضي أن يثيب المحسن بإحسانه، وألا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه لا يترك الظالم يأخذ حق المظلوم، ويفوت ذلك؛ من غير اقتصاصٍ له، فكثير من الناس - كما نرى - يكون ظالماً في الدنيا بأخذ حقوق الناس، وبقتلهم وما أشبه ذلك، ثم يموت ولم يلق جزاءه بعد.

وإذا بدأت بالحمد فإن "أل" هذه تدل على الاستغراق، فالذي يوصف بالحمد المطلق من كل وجه يقتضي ثبوت ما يحمد عليه، ومن ذلك أنه يقيم داراً للناس يقيم فيها العدل التام، ويعطي كل ذي حقٍ حقه، ويجزي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته كما قال الله وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الزمر:75] أي في الآخرة.

وقل مثل ذلك في قوله: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] فإن ربوبيته أيضاً تقتضي إثبات اليوم الآخر، وكذلك الأمر صريح في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] فإنه يدل على ذلك بدلالة المطابقة.

ثم في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [سورة الفاتحة:5] فإنه إنما يعبد من أجل تحصيل رضاه، والظفر بدار النعيم في الآخرة.

وفي قوله: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] أي نطلب العون على كل مطلوب دنيوي أو أخروي، ثم اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يدل على ذلك أيضاً، فإنه صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهكذا.

وإذا أردت أن تثبت قضية الإيمان بالرسل فإن ذلك يظهر من قوله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ومن الحمد؛ فإن حمده يقتضي ألا يترك عباده هملاً لا يأمرهم، وكذلك من الربوبية، فإن ربوبيته تقتضي أن يكون في مملكته أمرٌ ونهي، وهذا هو الذي يأتي به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.

وتثبت قضية الإيمان بالرسل أيضاً من قوله - تبارك وتعالى -: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فإن ثبوت اليوم الآخر يقتضي أن يكون ثمة ما تقوم به الحجة على الناس، وذلك بإرسال الرسل وإلا فكيف يعذبون ويحاسبون، والله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وكذلك في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، فالله لا يُعبد إلا بما شرع، فكيف يعبد من غير بعث الرسل؟

وكذلك في قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ فالذين أنعم عليهم هم من ذكرهم بقوله سبحانه: مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69]، وكيف حصل الإنعام والغضب أصلاً بغير بعث الرسل؟، فهم فرقٌ بين الناس.

فهذا مثال على دلالتها على هذه القضايا، فإذا أردت أن تنظر في المعاني التي يمكن أن تستخرج منها في دلالتها على أنواع التوحيد الثلاثة، ودلالتها على كثيرٍ من قضايا الاعتقاد؛ وجدت من ذلك أموراً كثيرة جداً.

ما عليك إلا أن تبدأ من "أل" في قوله: الْحَمْدُ للّهِ تجد أن الحمد بدخول "أل" دل على الاستغراق أي كل المحامد منسوبة إلى الله ، وهذا يقتضي أنه كاملٌ من كل وجه؛ لأنه لا يمكن أن تنسب جميع المحامد إلا لمن كان محققاً للكمال، وإلا فإنه ينقص من حمده بحسب ما نقص من كماله، فالمحمود من كل وجه هو الكامل من كل وجه، بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وهكذا لو أردنا أن نسترسل مع هذه المسائل لاحتاج ذلك إلى وقت كبير.

"وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ، وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم..الآية [سورة المجادلة:14]".هذه من اللطائف في هذا التفسير بمعنى أنها ليست من المسائل الداخلة في المعنى الإجمالي، أو المعنى الأساسي للآية الذي جاءت لتقريره، لكنها من اللطائف والملح التي يذكرها بعض أهل العلم، وينبهون عليها، وهم بين مكثرٍ ومقل في هذا، فإذا لم يظهر فيها وجه من التكلف فهي حسنة.

لذلك لو تُدوًّن هذه اللطائف والملح التي تذكر في تفسير سورة البقرة، وفي التفسير عموماً مع قضايا التوحيد بجميع أنواعها، وكذلك القواعد التي تمر في التفسير، وما يتعلق بتطبيق أصول التفسير وقواعد التفسير مثل: حمل اللفظ على أعم معانيه، وكذلك قضايا التضمن، وحمل اللفظ على الحقيقة والمجاز عند القائل به، وحمل المشترك على معنييه، وتدون أيضاً الإسرائيليات والموقف منها حيث إن التفسير مليء بالإسرائيليات، كما أن في التفسير كثيراً من القضايا الأصولية يحتاج طالب العلم أن يدونها ليستفيد منها، إذ لو دون كل هذه الفوائد والقواعد فإنه سيخرج بأمثلة بالعشرات بل ربما بالمئات، وعلى قدر تفتُّق ذهن الإنسان، وإلمامه، واهتماماته بهذه الأشياء، والتفطن لها؛ على قدر ما يكون عنده من الفوائد، ويكون عنده ثروة ممتازة.

"وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]".يريد أن يقول: إن هذا من الأدب في التعبير حيث إنه يرِد في بعض المواضع في القرآن ما قد يكون الكمال في عدم نسبته إلى فاعله مباشرةً فيعبر عنه بالمبني للمجهول مثلاً ونحو ذلك، ففي قوله على سبيل المثال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ أضاف الله الإنعام إليه سبحانه بطريق الخطاب، ولما ذكر الغضب وإن كان الغضب صفة كمال في موضعها ولا شك لكنه ليس كالإنعام، لذلك قال: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم.

وبعض أهل العلم يقول: إن هذا التعبير استعمل لتهميشهم، وإهمالهم، فلأنهم لا يستحقون التنويه قال: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ والله أعلم.

ومن أمثلة هذا الأسلوب قول الله : وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80]، فهو لم يضف المرض إلى الله بحيث يقول: والذي هو يمرضني ويشفين كما في قوله: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [سورة الشعراء:79] وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فأضاف المرض إلى نفسه مع أن المرض إنما هو من الله .

ومن أمثلة ذلك قول الله في سورة الكهف عن الخضر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79]، فالخضر نسب العيب إلى نفسه، وأما في الجدار فقال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [سورة الكهف:82] فلم يقل: فأردت أن يبلغا، وإنما نسب ذلك الفضل إلى الله فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة الكهف:82].

فهذا يذكره بعض أهل العلم، ويقولون هو من باب التأدب، ومما يذكرون في ذلك خطاب الله لنبيه ﷺ حيث قال: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:1-3]، قالوا: لم يوجه الخطاب إليه مباشرةً بقول: قلاك مع أن الأصل هكذا وإنما قال: وَمَا قَلَى، وبعضهم يقول: هذا الأسلوب أتي به مراعاةً للفاصلة.

وعلى كل حال فالمقصود هو التنبيه على المعنى الذي ذكره ابن كثير أيًّا كان، ولذلك فإن مثل هذه اللطائف لا يُقطع بها، وإنما هي ملح يرِد على بعضها ما يرِد من الاعتراضات، فما ذكر في قوله تعالى: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ يرِد عليه أن هناك مواضع أخرى أضاف الله فيها لنفسه أنه أضل أقواماً، وغضب على أقوام كقوله تعالى: مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة:60]، وكقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ [سورة الفتح:6] وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [سورة الأعراف:186] وغير ذلك كثير.

فلا ينبغي للإنسان أن يتمسك بشيء من ذلك، ويعضَّ عليه بالنواجذ، ويصارع عليه، فهي ملح تحتمل الصواب وعدمه، والإمام الشاطبي ما يرى ذكرها أصلاً، ولا الاشتغال بها.

وابن القيم - رحمه الله - حينما تكلم على أدب المرأة المسلمة ذكر في قوله تعالى: وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29] أن امرأة إبراهيم لما بشرتها الملائكة قالت كلمتين تكفي كل واحدة للدلالة على تعذر الولد وهما: كبر السن، والعقم، ثم قال: أدب المرأة المسلمة ألا تسترسل في الحديث مع الرجال الأجانب بغير حاجة، وهذا الكلام من ابن القيم معناه صحيح، والاستدلال بهذه الآية استدلال جميل؛ لكن يرِد عليه أنها في الموضع الآخر قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [سورة هود:72] فهنا تبين أنها لم تقل كلمتين، فالمقصود أنك إذا قرأت شيئاً وأعجبك فلا تظن أن مثل هذه الأشياء يقطع بها، وأنها الحق الذي لا محيد عنه، وهكذا.

ودع عنك قول: لو قال قائل كذا لكان ذلك له وجه، والذي أظنه أرجح في هذه المسألة كذا، فطالب العلم ما يصلح في مثل هذه المسائل أن يقول هذا، أو يقول: والحق الذي لا مرية فيه، والصواب المقطوع به في هذه المسألة كذا، وما عداه مطَّرح، وفلان أبعد النجعة، واعلم أنك قد تقتنع بشيء ثم تغير رأيك بعد فترة مع أنك قد جادلت وخاصمت على الرأي الأول، وظننت أنه لا تردد، ولا إشكال فيه، لذلك اترك هذه العبارات لأهلها، وانظر إلى ما ينفعك في دينك، ودنياك.

"وقال: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأعراف:186]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي، وقد ورد في الحديث الصحيح: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[3]"
يعني أن هؤلاء يتبعون ما تشابه من القرآن، والمقصود به هنا في مثل هذا المثال التشابه النسبي وليس التشابه المطلق من كل وجه الذي لا يعلمه إلا الله وهو حقائق الأمور الغيبية، وإنما التشابه النسبي هو الذي يخفى على البعض ويعلمه البعض فطوائف القدرية مثلاً يأخذون ببعض النصوص التي تدل على أن الله قدر الأقدار، وأنه يصرف خلقه كيف يشاء، وأنه يهديهم وأنه يضلهم، فهم يأخذون هذه النصوص ويقولون: الإنسان ليس له حيلة،  فالله هو الذي يهديه أو يضله، فهو كالريشة في مهب الريح.

وتأتي طائفة أخرى ويأخذون من النصوص ما يدل على إثبات فعل العبد، وأن العبد له قدرة وإرادة وما أشبه ذلك، ويتركون النصوص الأخرى ويقولون: إن العبد يستقل بفعله، وإن الرب - تبارك وتعالى - ليس له قدرة على أفعال العباد، فهو أراد هدايتهم فضلوا بإرادتهم واختيارهم ومشيئتهم، فهؤلاء يأخذون جزءًا من النصوص، وهؤلاء يأخذون جزءًا من النصوص، فهذه طريقة أهل البدع، وهي طريقة تكون سبباً للانحراف في أي باب سلكت وليس فقط في باب القدر؛ لأن أي قضية تريد أن تسلك فيها هذا الطريق ستخطئ، فمثلاً: إذا أردت أن تتعامل مع أهل البدع بالنظر إلى النصوص المبثوثة في الكتاب، والسنة، وأقوال السلف، وأخذت الطريقة التي ليس فيها إلا المفاصلة، والمصارمة، والهجر وما أشبه ذلك فإنك ستخرج بنتيجة غير صحيحة، وإذا نظرت إلى النصوص الأخرى ستجد أن التعامل الشرعي يختلف عن هذا، وكذلك العكس بالعكس، فمن نظر إلى الجانب الآخر ربما يحصل له مباسطة وانفتاح كامل، ويرى أن هؤلاء منه، وهو منهم، وأنه ينبغي أن تذوب هذه الجبال من الجليد التي بينه وبينهم، وأننا نستطيع أن نندمج وأن ننصهر... الخ، ومن هنا تأتي خطورة البرمجة العصبية حيث تجد هؤلاء المبرمجين ما عندهم مشكلة في أن يندمجوا مع كل أحد ولو كان يهودياً، أو نصرانياً؛ لأنه ينظر إلى الجوانب الإيجابية كما يقال: ينظر إلى نصف الكأس المليان، ولا ينظر إلى الجانب الآخر السلبي، وإنما ينظر من زاوية أن اليهود فيهم جوانب تتفق معهم فيها، والنصراني كذلك تستطيع أن تقترب منه، ويقترب منك، وأن تفهمه ويفهمك، وأن يحل الحوار بدلاً من المصادمة، والمفاصلة، والمفارقة، فينتهي موضوع الولاء والبراء؛ لأنه مبني على الإقصاء، ورفض الآخر، والانكفاء على الذات، والتقوقع، والتمحور... الخ، وأعتذر عن هذه الكلمات التي ابتلينا بها، وفي المقابل تركت الألفاظ الشرعية، فالمقصود أنه صار بعض طلاب العلم يسلك هذا الطريق وبالتالي كم جنت هذه الأمور على دين الله ، وعلى أصحابها قبل كل شيء.

فالمقصود أن من نظر إلى النصوص من جهة واحدة فإنه يسلك طريقاً معوجة، وهذا الأمر له تعلق بثلاثة أشياء: له تعلق بالعلم، وله تعلق بالقصد، وله تعلقٌ ثالث بالعقل، فتجد أن أمثال هؤلاء يكونون من ذوي العلم الناقص بحيث لم يسمعواإلا نصين أو ثلاثة ويظنون أن هذه النصوص هي كل شيء في المسألة، وانتهى الأمر، والعلَامة عند هؤلاء الجهال أنك تجدهم دائماً يعبرون بعبارات قوية جداً، ويفاصلون، ويصرحون بأنهم مستعدون لكذا وكذا.... الخ.

ومن الأمور المؤدية إلى ذلك: القصد، أعني قصد الإنسان هو الذي يجعل من هذا الإنسان يسير في مثل هذه الطريق، فتجد عنده هوىً يجعله يميل مع الشيء الذي يعجبه.

 والأمر الثالث العقل أي عقل الإنسان وتركيبه، وأقصد بالعقل القلب، فطريقة تفكير الإنسان تؤثر تأثيراً واضحاً بيناً في مثل هذه الأمور، فتجده إذا نظر لا يستطيع أن ينظر بنظرة واسعة شاملة، وإنما ينظر بنظرة مبتسرة، فهذه الأمور الثلاثة هي أكثر ما يؤثر في سلوك الإنسان واعوجاجه.

وهناك أمور أخرى ثانوية، لكن هذه الأشياء التي ذكرتها هي في ظني أنها أساسية، وتجعل الناس ينحرفون وخاصةً في أوقات الفتن كهذه الأيام التي نعيش فيها الآن.
"وقد ورد في الحديث الصحيح: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم[4] يعني في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، فليس - بحمد الله - لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرِّقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لأنه من عند الله تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42]".
يلاحظ أنه يقول: ليس فيه حجة صحيحة، وأما ما يتعلقون به من القرآن فكل طائفة تقريباً تتعلق بأشياء من القرآن، والقرآن كما جاء في الأثر عن علي في وصيته لابن عباس: "حمَّالٌ ذو وجوه" أي أنه يحتمل معانِيَ كثيرة، ولهذا أوصاه أن يجادل الخوارج بالسنة، وكذلك ثبت هذا عن أنس لما مر بابنٍ له يتجادل مع رجلٍ من أهل الأهواء فأمره أن يجادله بالسنة.

وكذلك ورد هذا عن جماعة مثل عمر  وغير عمر، وعلى كل حال كان السلف يرون مجادلة أهل الأهواء بالسنة مع مجادلتهم لهم بالقرآن؛ لأن الاقتصار في المجادلة على ما في القرآن من الآيات قد لا يجدي مع المخالف؛ لأن الآية تحتمل أكثر من وجه، فإذا بينتْها السنة انتفى الاحتمال.

لكن المشكلة إذا كان هذا المجادل ممن ينفي السنة، ولا يؤمن بها بحيث إذا جئت له بالأحاديث قال لك: هؤلاء الصحابة أصلاً ارتدوا على أدبارهم، ونحن لا نصدق أحاديثهم، ولا نقبلها، ويأتيك بأشياء مكذوبة عن أئمته، ويرى أن هؤلاء لهم العصمة، ثم بعد ذلك يستخرج هذه العقيدة من رأسه؛ لأنه قد ألغى السنة، والقرآن عنده يحتمل أكثر من وجه فهو يحمله على المعنى الذي يظنه، وهكذا نجد أن الشيطان قد عرف كيف الطريق إلى عقول كثير من الناس، والله المستعان.

أحياناًَ يفكر الإنسان ويقول: كيف يضلون وعندهم الكتاب، والسنة؟! لكن إذا نظر نظرة تأمل وجد أن الشيطان قد وضع متاريس بينهم وبين الكتاب، والسنة، لذلك إذا جئت إلى الرافضي تجد أنك لا يمكن أن تصل معه إلى نتيجة بطريق الكتاب، والسنة؛ لأن السنة هذه كلها مرفوضة عنده، والقرآن عنده فيه آيات زائدة يرى أنها حذفت، ويفسر الآيات بتفسيرات عجيبة، ففي قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة67] يقول: البقرة هي عائشة، والجبت والطاغوت في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] يقولون: هما أبو بكر وعمر، فتقول له: ليس الأمر كذلك، فيقول لك: ليس تفسيرك أولى من تفسيري، وهذا في أقل الأحوال أنه يكون ممن درس البرمجة اللغوية، فهو يتنزل معك لمجادلتك على هذا الأساس.

وإذا جئت للصوفي قال لك: يا أخي أنتم تأخذون علومكم من ميت عن ميت فتقولون: حدثنا فلان حدثنا فلان حدثنا فلان، أما نحن فقد حدثنا الحي الذي لا يموت، وأتى لك بتأويلات فاسدة ما أنزل  الله بها من سلطان.

إذا جئت لمتكلم من المتكلمين فقلت له: كيف تؤمن بهذه العقائد الكلامية الفاسدة؟ قال لك: يا أخي هذا النص الذي أنت تتكلم عنه من الكتاب، والسنة؛ إن كان غير متواتر فلا يحتج به في العقائد، وإن كان متواتراً فيرد عليه قوادح عشرة في الدلالة بحيث تجعله محتملاً، وهذه قضايا تحتاج إلى قطع لا تقبل الاحتمال، فتقول له: فما الحل؟ يقول لك: الحل هو العقل؛ لأن هذا الأمر ينبغي أن يكون في القواطع من الأمور، فالعقائد لا تحتمل التشكيك، وهكذا يلغي الكتاب، والسنة، ويدخل في متاهات العقول التي يختلف أصحابها غاية الاختلاف.

ولذلك إذا رأيت عقائد أهل الكلام تجدها فلسفة وكأنك تقرأ لأرسطو أو أفلاطون، أو أمثال هؤلاء وما تقرأ كتاباً في العقيدة لأناس أنعم الله عليهم ببعثة خير نبي ﷺ، وأنزل عليهم أشرف كتاب، إذا قرأت أي كتاب من كتب هؤلاء ما تجد قال الله كذا، أو قال رسول الله كذا، فالله المستعان.
"يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، مثل: يس، ويقال: أمين بالقصر أيضاً، ومعناه: اللهم استجب، والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي ﷺ قرأ: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فقال: آمين، مد بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته[5]، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود - ا - وغيرهم، وعن أبي هريرة قال: "كان رسول الله ﷺ إذا تلا: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد فيه: "فيرتج بها المسجد"، والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن"[6]
هذه الزيادة: "فيرتج بها المسجد" فيها ضعف، والطريقة التي مشى عليها المختصرون هو ألا يذكروا من هذه الأحاديث إلا ما بلغ درجة القبول سواء كان حسناً لغيره أو نحو ذلك، فبعض أهل العلم يحسّن مثل هذه الرواية - يعني من باب الحسن لغيره -، لكن على كل حال هذه الزيادة فيها ضعف لكن الأمر في هذا سهل، والمهم أن ثبوت التأمين لا شك فيه حيث توجد فيه أحاديث صحيحة.

"وعن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين، رواه أبو داود".

كل هذا وغيره يدل على أن النبي ﷺ كان يؤمِّن في الصلاة، أي: يقول آمين، ويجهر بذلك، ويؤمِّن أهل المسجد، ويرفعون أصواتهم، وهي سنة ليست بواجبة في الصلاة، كما أن التأمين ليس من الفاتحة بالإجماع، أي أنه لم يوجد أحد قال: إنه من الفاتحة، ومعنى آمين أي اللهم استجب.

"ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شدَّدا الميم من آمين، مثل: آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2]".
والمعنى قاصدين، لكن هذا معنى بعيد جداً، ولا ينبغي للإنسان أن يقول في صلاته: آمّين، وإنما يقول: آمين بمعنى اللهم استجب.

"قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة".
قوله: "ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة" هذا يرجع إلى التأمين، أي أنه يستحب أن يقول: آمين، وليس المقصود أنه يرجع إلى قول الحسن وجعفر من أنه يقول: آمِّين بالتشديد.

قال الشافعية: إن التأمين يكون في الصلاة وفي خارج الصلاة، فأنت إذا قرأت الفاتحة خارج الصلاة تقول: آمين، وقالوا: إن قرأ جهراً جهر، وإن قرأ سراً أسر، فهذا هو المقصود، وليس المقصود أنهم يقولون بتشديد الميم من آمين.
"قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً، أو إماماً، أو مأموماً، وفي جميع الأحوال؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا أمَّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[7] ولمسلم أن رسول الله ﷺ قال: إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه[8] قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل في الإجابة، وقيل في صفة الإخلاص".

هذه المحامل الثلاثة الأقرب منها، والموافق للسياق، والذي تدل عليه الروايات الأخرى بشكل أصرح من هذا: هوالزمان، بمعنى أنه يقع تأمين هذا الإنسان المصلي موافقاً لتأمين الملائكة في وقتٍ واحد، أو في لحظةٍ واحدة، فإذا حصل هذا التوافق حصل الجزاء بالمغفرة.

ومن الروايات التي ذكرها ابن كثير - رحمه الله - في هذا قوله ﷺ: من وافق تأمينه تأمين الملائكة[9] لكن قد يقال: هذه محتملة إلى حد كبير، وذكر أوضح من هذه الرواية وهي قوله: فوافقت إحداهما الأخرى[10]، وتوجد عندنا روايات أخرى منها حديث أبي هريرة في رواية له: إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له فهذا يدل على أن الموافقة تكون بالقول؛ ليقع ذلك متوافقاً.

وفي حديث أبي هريرة الطويل: إنما جعل الإمام ليؤتم به[11] وفي آخره زيادة: وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، فإذا وافق كلام الملائكة غفر لمن في المسجد[12]، وهذه رواية صحيحة تدل على أن المقصود الموافقة بالقول، والله أعلم.

"وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً: "إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا: آمين يجبكم الله"[13] وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا".

يلاحظ أن قوله: (يجبكم الله) يدل على أنها دعاء، بمعنى اللهم استجب، لا قاصدين آمّين.

"وقال الأكثرون: معناه اللهم استجب لنا"
مسألة:

فهم ذلك بعض الفقهاء بحيث يكون ابتداء تأمين الإمام سابقاً لتأمين المأموم بقليل بحيث يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام لكن تأمين الإمام يكون قبله بقليل،فيكون تأمين المأموم مضمناً في تأمين الإمام، لا أن ينتظر المأموم حتى يفرغ الإمام من التأمين فهذا لا يقول به أحد فيما أعلم، وليس هذا الذي فهمه من أهل العلم بقاطعٍ.

مسألة أخرى:

بالنسبة لموافقة تأمين الإنسان تأمين الملائكة معناه أنه إذا قال الإمام: آمين بعد الفراغ من الفاتحة، فإنه ومن معه يرجو أن تحصل له موافقة الملائكة في التأمين؛ لأن الملائكة تقول: آمين بعد أن يقول الإمام ولا الضالين، فالإنسان يقولها ويرجو أن يحصل له ذلك، لكنه لا يستطيع أن يعلم أو يقطع أنه وافق أو لم يوافق.

  1. أخرجه أحمد (19400) (ج 4 / ص 378) وقال شعيب الأرنؤوط: بعضه صحيح وفي هذا الإسناد عباد بن حبيش لم يرو عنه غير سماك بن حرب ولم يوثقه غير ابن حبان.
  2. أخرجه ابن حبان (7206) (ج 16 / ص 183) والطبراني في الأوسط (3813) (ج 4 / ص 139) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3263).
  3. سيأتي تخريجه
  4. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4273) (ج 4 / ص 1655) ومسلم في كتاب العلم - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن (2665) (ج 4 / ص 2053).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب التأمين وراء الإمام (933) (ج 1 / ص 351) والترمذي في أبواب الصلاة - باب ما جاء في التأمين (248) (ج 2 / ص 27) وأحمد (18862) (ج 4 / ص 315).
  6. أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة - باب التأمين وراء الإمام (935) (ج 1 / ص 352) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الجهر بآمين (853) (ج 1 / ص 278) وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (934).
  7. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب جهر الإمام بالتأمين (747) (ج 1 / ص 270) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
  8. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب فضل التأمين (748) (ج 1 / ص 271) ومسلم في كتاب الصلاة -  باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
  9. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب جهر الإمام بالتأمين (747) (ج 1 / ص 270) ومسلم في كتاب الصلاة - باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
  10. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب فضل التأمين (748) (ج 1 / ص 271) ومسلم في كتاب الصلاة -  باب التسميع والتحميد والتأمين (410) (ج 1 / ص 307).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة - باب إنما جعل الإمام ليؤتم به (656) (ج 1 / ص 244) ومسلم في كتاب الصلاة - باب ائتمام المأموم بالإمام (412) (ج 1 / ص 309).
  12. أخرجه بهذه الزيادة ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا (846) (ج 1 / ص 276) وقال السندي: هذا الحديث صححه مسلم ولا عبرة بتضعيف من ضعفه، وقال عنه الشيخ الألباني: حسن صحيح.
  13. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب التشهد في الصلاة (404) (ج 1 / ص 303).

مرات الإستماع: 0

"الفائدة الثاني عشر: اهْدِنَا [الفاتحة:6] دعاء بالهُدى، فإن قيل: كيف يطلب المؤمنون الهُدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب: أن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه، فإن الارتقاء في المقامات لا نهاية له".

هذا الجواب عن هذا السؤال يذكره كثير من المفسرين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يقولون: أي: ثبتنا، والواقع أن هذا أحد المعاني الداخلة تحته، وإلا فإن سؤال الهداية يتضمن ذلك، ويتضمن غيره من أنواع الهدايات الكثيرة، فالهداية - كما نعلم - نوعان: هداية إرشاد، وهداية توفيق، فقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  هذا طلب للهدايتين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ بمعنى دُلنا وأرشدنا، فهداية الإرشاد كقوله - تبارك وتعالى -: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه: 128] يهدي لهم، يعني: يتبين لهم وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [الأنعام: 97] يعني: تسترشدوا بها، وتستدلوا بها، فهذه هداية إرشاد، فهداية الإرشاد: الله - تبارك وتعالى - هدى عباده، بمعنى أرشدهم إلى محابه، ومراضيه، وعبادته، فهذه هداية عامة.

فالله - تبارك وتعالى - هادٍ بهذا الاعتبار، قد بين لعباده كل ما يحتاجون إليه، ومن ذلك قوله - تبارك وتعالى - في هذا المعنى هداية الإرشاد: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17] هذه ليست هداية توفيق لو كانت هداية توفيق لآمنوا، ولكنها هداية إرشاد إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] يعني: دللناه، وأرشدناه وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] فهذا كله في الهداية العامة بهذا المعنى، والرُسل هداة بهذا الاعتبار وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43] وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 19] قول موسى ﷺ لفرعون: أهديك، يعني: الإرشاد، والبيان، وهكذا في أتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 38]. 

أما النوع الثاني: التي هي هداية التوفيق، فهذه التي لا يملكها إلا الله فالرُسل عليهم الصلاة والسلام يُرشدون، ويُبينون الحق، ولكن الموفق، والهادي هو الله وقد جاءت هذه الهداية في مثل قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] هنا نفى عنه الهداية، وهناك أثبتها، فتلك التي أثبتها هي هداية الإرشاد، وهذه التي نفها هي هداية التوفيق وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] يعني: يوفق لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272] التوفيق للهدى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] ولاحظ اجتماع هاتين الهدايتين في قوله - تبارك وتعالى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] الهُدى هنا يشمل الإرشاد، ويشمل التوفيق.

وهكذا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يشمل الهدايتين، وفعل الهداية إذا عُدي بحرف؛ فإنه يُفهم يتعين معناه، ويتخصص بحسب هذه التعدية، وهذا أمر معلوم في لغة العرب بأن الأفعال تُفهم معانيها على ضوء ما تتعدى به، وهذه قاعدة من قواعد التفسير: "تُفهم معاني الأفعال على ضوء ما تتعدى به"، كما ذكرنا في نظر فإذا عُدي بنفسه فهو بمعنى الانتظار، وإذا عُدي بإلى فهو النظر بالأبصار، وإذا عُدي بفي نظر في كذا نظرت في أمرك، فهو بمعنى التفكر، والاعتبار.

فالهداية إذا عُدي هذا الفعل هدى إلى كذا، فهذا يتضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، وإذا عُدي باللام، هداه لكذا، اهتديت لكذا، فهذا يتضمن الاختصاص، والتعيين، فإذا عُدي بنفسه مثل هذا الموضع: اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] ما قال إلى الصراط، وما قال في الصراط، فهذا يشمل جميع ما سبق الهداية إلى الغاية المطلوبة.

وكذلك ما يكون مُعداً باللام مما يتضمن الاختصاص، والتعيين، يعني: بين لنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ودلنا وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، وألهمنا، ووفقنا، وثبتنا عليه، فيدخل بهذه الهداية المذكورة بهذا الاعتبار هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، اهدنا إليه، واهدنا له يدخل أنواع الهدايات، فهداية الإرشاد يدخل فيها هداية العلم، والبيان للحق، فقد لا يصل إلى الإنسان الدليل، أو العلم، أو الحق، فيكون جاهلاً به.

وكذلك أيضاً قد يختلف الناس فيحتاج العبد إلى هداية لمعرفة الحق الذي اختلفوا فيه اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا يختلفون، اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك [1].

فالعبد بحاجة إلى هذه الهداية، فكيف يقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بمعنى ثبتنا فقط؟ ثم أيضاً العبد في كل حين، وفي كل لحظة بحاجة إلى هداية لمعرفة مُراد الله منه، ما هو واجب الوقت، فيحتاج إلى هذه الهداية أن يهديه الله - تبارك وتعالى -.

ثم أيضاً هذه الأعمال على كثرتها وسعة شرائع الإسلام، بحيث إن العبد لو بقي العُمر وهو يعمل في باب من الأبواب لاستغرق ذلك عمره كله، فهو بحاجة إلى هداية للأفضل من الأعمال، يعني: غير الواجبات؛ لأنه ما تقرب العبد إلى الله - تبارك وتعالى - بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، لكن في غير الواجبات هذا ميدان واسع، وهذه تجارة مع الله والأعمار قصيرة، فيحتاج العبد إلى معرفة الأفضل، وهذا يحتاج إلى هداية، ما هو الأفضل إن اشتغل بهذا، أو اشتغل بهذا؟

فهناك أعمال قد تكون هي الأفضل من حيث هي، ولكن الأفضل لهذا المعين قد يكون هو المفضول، وهذا يحتاج إلى فقه، وقد يقضي الإنسان دهراً في عمل مفضول، ويغفل عن الفاضل، فيفوته خير كثير، فهو بحاجة إلى هداية اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] فهذا كله داخل في هداية الإرشاد، كثير من الناس قد يُحرم هذا النوع من الهداية من أصله، فلا يُهدى إلى الإسلام، وهذا السؤال الذي يرد الله هدانا للإسلام، فلماذا نسأل الهداية؟

هو ليست فقط هذه، هذه واحدة الهداية إلى الإسلام، وكم من مليارات من البشر لا يعرفون الله، ولا يعرفون صراطه المستقيم، ولا يعبدونه، ولا يوحدونه، حرموا هذه الهداية من أصلها، لكن من وفق إليها، وأُرشد إليها اجتمع له الهدايتان يبقى في تفاصيلها يحتاج إلى هداية، فالإنسان قد لا يوفق، ولا تنهض همته إلى طلب العلم، ولا يرفع بذلك رأساً، فيحتاج إلى هداية للعلم، وقد تنهض همته، ولكنه قد لا يوفق للصواب، وقد يوفق للصواب، ولكنه لا يوفق للهداية الأخرى التي هي هداية التوفيق بالعمل بما علم، فهذه هداية أخرى أن يقُدره الله  عليه، وأن يجعله مُريداً له، وأن يجعله فاعلاً له، بعض الناس لا تسمو همته للعمل أصلاً، يعلم أن لديه معلومات، يعلم أن الصلاة واجبة، وأن الحج واجب على الفور، ولكن لا تنهض همته، فلا يريد هذا العمل، فهذا حُرم هذه الهداية، يعني: حصلت له هداية الإرشاد، ولكنه لم تحصل له هداية التوفيق، فيحتاج العبد إلى هذه الهداية أن يجعله الله مُريداً لهذا، وفاعلاً له.

وكذلك أيضاً أن يُثبته عليه، فقد يستقيم مدة، ثم بعد ذلك يتراجع، وكذلك أيضاً أن يصرف عنه الصوارف، والعوائق، والموانع التي تحول بينه وبين لزوم الحق.

وكذلك أيضاً أن يهديه في الصراط إلى أمور كثيرة مما يتصل بالقلب، واللسان والجوارح، من الناس من يعمل، ويُطيع، ونحو ذلك، لكن يبقى له التفات إلى نفسه، وإلى عمله، وإلى عبادته، وطاعته، أو علمه، أو ما أشبه ذلك، وهذه أمور قد تُبطل هذا العمل، وقد يكون علمه وبالاً عليه بهذا الاعتبار، هذه كله من الهدايات الداخلة تحته إلى الممات، أن يُثبت عند الموت.

وهناك هدايات لا تدخل هنا في قولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]؛ لأنه قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فهو الصراط الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، لكن هناك هدايات أخرى، وإن لم تكن داخلة في هذا من سورة الفاتحة، هناك هدايات بعد الموت، عند سؤال الملكين أن يُهدى للجواب.

وكذلك أيضاً أن يُهدى عند الحساب، بينه، وبينه تُرجمان، وكذلك هو بحاجة إلى هداية إلى الصراط الذي يُنصب على جسر جهنم، وبحاجة إلى أن يُهدى على الصراط فلا تزل قدمه، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى باب الجنة، وبحاجة إلى أن يُهدى إلى منزله في الجنة، لاحظ إلى أن يصل منزله، وهو بحاجة إلى هداية الله فالعبد لا غنى له بحال من الأحوال؛ ولذلك نقرأ الفاتحة في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] فإذا قام ذلك في قلب العبد؛ فإنه يستشعر حاجته الماسة إلى الهداية، فلا يُعرض عن الموعظة، والذكر ومجالس الذكر، وما يكون فيه نفعه، ولا يؤخر العمل، والطاعة، وإنما يكون مُبادراً فيجتمع للعبد بهذا هداية العلم، وهداية العمل، فيكون قد عرف الحق، وعمل به، وبقدر ما يتحقق له من ذلك يكون كماله، وبهذا يتفاضل الناس في الدنيا، والآخرة، وأكمل الناس في ذلك هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويتفاوت من دونهم، فمنهم من يكون كماله في الجانب الأول هداية العلم، ولكنه في الجانب الآخر ضعيف.

والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] فكل هذا العبد بحاجة إليه، وحاجته إلى هذا أعظم من حاجته إلى الطعام، والشراب.

وابن جرير الطبري - رحمه الله - ذكر في معنى هذه الآية: "أن في مسألته الهداية هنا، فهذا يشمل التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق، والصواب فيما أمره به، ونهاه، فيما يستقبل من عمره"[2].

هذه العبارة القصيرة التي قالها ابن جرير جمع فيها بين النوعين: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن من فسر الهداية هنا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بدوام الهداية، يعني: الثبات، فإن هذا كلام من لا يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله  به، وذكر شيئاً مما ذكرته آنفاً بأن الهداية في حقيقتها أن يفعل العبد في وقت ما أُمر به في ذلك الوقت من علم، وعمل، ولا يفعل ما نُهي عنه يقول، وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم، ويعمل ما أُمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور.

فهذا العلم المُفصل، والإرادة المُفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم، والإرادات ما يهتدي به في ذلك إلى الصراط المستقيم، يقول: نعم حصل له هدى مُجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، فهذا حق، لكن هذا المُجمل لا يغنيه إن لم يحصل له الهدى المُفصل في كل ما يأتيه، ويذره من الجُزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى، والشهوات، أكثر العقول لغلبة ذلك عليهم.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - في عدد من كتبه ذكر أشياء من هذا كثير حاصلها ما ذكرته، وأن الفلاح لا يتحقق إلا بهاتين الهدايتين، هداية التوفيق، وهداية الإرشاد، هداية التوفيق بأن يُلهمه الله ذلك، ويكون فاعلاً له، وما إلى ذلك، مما ذكرناه.

وهكذا الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر نحواً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحم الله الجميع - وكذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.

"الفائدة الثالثة عشر: قُدم الحمد والثناء على الدعاء؛ لأن تلك السنة في الدعاء، وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قُدم الرحمن على ملك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قُدم إياك نعبد على إياك نستعين؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة".

لاحظ هذه الأمور التي ذكرها مُنبهاً على وجه تقديمها على غيرها، فهنا قدم الحمد والثناء على الدعاء هذا من آداب الدعاء الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 2 - 6] فالمشروع أن يُقدم الثناء على الله - تبارك وتعالى - أولاً قبل السؤال، والدعاء؛ فإن ذلك أدعى للإجابة. 

"وشأن الطلب: أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة، وكذلك قدم الرحمن على مالك يوم الدين؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه".

ولهذا قالوا: بأن ذكر الرحمة هنا بين الربوبية، والمُلك، يعني: يقولون: كان المُتبادر أن يقال: الحمد لله هنا ذكر الإلهية، رب العالمين ذكر الربوبية بعدها رب العالمين، مالك يوم الدين فيذكر الملك؛ لأن الرب هو السيد المتصرف في خلقه، المُدبر لهم، وهذا معنى المُلك، فهو التصرف المُطلق والتدبير، لكنه جاء بالرحمن الرحيم بينهما، فهذا يدل على أن ربوبيته، وملكه مبنيان على الرحمة، فرحمة الله سبقت غضبه، انظروا إلى كثرة جنايات الخلق مع كثرة عطائه، وإنعامه، وحِلمه - تبارك وتعالى - يُرسل إليهم الرسل ويُنزل عليهم الكتب، ويُغدق عليهم ألوان النِعم، فملكه وربوبيته مبناهما على الرحمة.

يقول: "وكذلك قدم إِيَّاكَ نَعْبُدُ على وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة"، الحاجة هي الاستعانة فما الطريق إلى تحقيق المطالب التي أعلاها دخول الجنة، ورضا المعبود والنظر إلى وجهه الكريم؟ هو تحقيق العبودية، تحقيق العبودية يحصل به سعادة الدارين وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة: 66] فلا يُنال ما عند الله - تبارك وتعالى - إلا بعبادته.

فهنا أيضًا في ذكر الاستعانة بعد العبادة مع أن الاستعانة من العبادة فإن العبادة كما ذكرنا تشمل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، فمن الأعمال القلبية: الاستعانة بالله فهي عبادة له فأفردت بالذكر فهذا من باب ذكر الخاص بعد العام وهو يدل على أهميته، وآكديته.

وتقديم العبادة تقديم للغاية على الوسيلة؛ لأن العبادة هي الغاية، وما هو الطريق إلى تحقيق العبادة؟ إنما يكون بالاستعانة؛ لأن قلنا: معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نستعين بك على المطالب الدينية، والمطالب الدنيوية، فهذه الاستعانة هي وسيلة، فقُدمت الغاية.

ولو نظرنا أيضًا إلى الأشرف منهما فإن العبادة التي هي الغاية أشرف من الوسيلة فقُدم الأهم، ثم إن العبادة، والاستعانة بينهما ملازمة فلا تتحقق العبادة إلا بعون الله - تبارك وتعالى - ولا يحصل العون من الله - تبارك وتعالى - للعبد إلا بعبادته، وطلب العون منه، وبهذا يتحقق الإيمان الصحيح، والتوكل على الله - تبارك وتعالى - ويخرج العبد من حوله، وقوته، ويكون قلبه متوجهًا إلى ربه، ويعمل بجوارحه، بطاعته وبهذا تحصل سعادته، ونجاته، ثم أيضًا لاحظ أن العبادة تتعلق بحق الرب، وقلنا: إن الشق الأول هو المتعلق بحق الرب، وأن هذه الآية جاءت بالوسط. فهي كما قال الله في الحديث القدسي: هذه بيني وبين عبدي فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ : هذا متعلق بالشق الذي قبله فكان المناسب أن يُقدم؛ لتكون المتعلقات بحق الرب متتابعة دون أن يفصل بينها شيء من حق العبد، فلو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد. لدخل حق، أو ما يتعلق بالعبد بما يتصل بالرب - تبارك وتعالى -.

ثم أيضًا لاحظ الترتيب في الأسماء الحسنى المذكورة في أول هذه السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فالعبادة متعلقة بإلهيته، وإلهيته هي الصفة المضمنة بهذا الاسم الكريم (الله) فإنه مضمن معنى صفة الإلهية؛ لأن التأله هو التعبد، تألهه القلوب محبة، وتعظيمًا، وخوفًا، ورجاء، فأول ما ذُكر هو هذا الاسم الكريم الذي تذكر سائر الأسماء الحسنى بعده، فذكر هنا العبادة قبل الاستعانة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ متعلق بهذا الاسم الكريم (الله) وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلق بالربوبية؛ لأن الإعانة من معاني الربوبية، فالرب ذُكر بعد لفظ الجلالة (الله) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فجاءت الاستعانة بعد ذلك، كذلك أيضًا مما يمكن أن يقال بأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فقُدم الأشمل، والأعم، فلو قُدمت الاستعانة لم يكن ذلك المعنى متحققًا، ومناسبًا في الترتيب، فكل من حقق العبودية لله لا بد أن يكون محققًا للاستعانة دون عكس، العبودية الحقة، وإلا فالعبد قد يستعين، لكن قد يستعين على المعاصي، والشهوات ونحو هذا كما هو معلوم، بل قد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله -: أن بعض المجرمين من قطاع الطرق، ونحو ذلك أن عندهم من التوكل ما لا يوجد عند بعض العُباد. فتجد أنه يركب الأخطار متوكلًا على الله لكن فيما يسخطه الله وأيضًا الاستعانة: طلب من الله كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - والعبادة: طلب له، تقرب إليه.

فما كان له يكون أشرف، وأكمل، ولا تكون إلا من المخلص، وأما الاستعانة فتكون من المخلص، ومن غيره فقُدمت العبادة، وكذلك أيضًا العبادة حق لله على عبادة، وهذا شكر منهم على نعمه وإفضاله، فإن شكر المنعم يقتضي أن يعبد وحده، ولذلك كان الشرك أعظم الظلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] باعتبار أنه صرف للعبادة في غير من خلق، ومن يستحق ومن أنعم، ومن أعطى، وتفضل، إلى غير ذلك من الوجوه، والمعاني التي يذكرها أهل العلم، والمقصود أن العبد بقدر تحقيقه للعبودية يحصل له من عون الله فهذه العبادة محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها، وإعانة أيضًا بعدها على عبودية أخرى.

وكذلك إعانة على النفس؛ لئلا يحصل أدنى التفات، وعُجب، أو مَن وأذى في الصدقات، والإحسان إلى الناس، وما أشبه ذلك، الإنسان نفسه تنازعه تطلب حظوظها العاجلة المتقضية، تحتاج إلى إعانة، إعانة إلى هذه النفس تخلد إلى الراحة، يحتاج إلى إعانة للقيام بمحاب الله، وطاعته، فإذا قام بها بدأ هنا يتسلل إليها طلب الحظوظ الدنيوية من الجاه، وثناء الناس، والمدح، وما إلى ذلك، أو ما يقايضهم به مما يطلب عائدة منهم على هذا الإحسان، ونحو ذلك، فيحتاج إلى أن يُعان على نفسه حتى يلقى الله - تبارك وتعالى -.

"الفائدة الرابعة عشر: ذُكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يُسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه، فصار من أهل الحضور، فناداه".

الالتفات في كلام أهل التفسير، وكذلك في البلاغة، يعني: تحويل الكلام، وهذا يشمل صوراً متعددة كالتحويل من تحويل وجه الكلام من الغيبة إلى الخطاب، والعكس.

وكذلك أيضاً يدخل فيه صور أخرى من تلوين الخطاب، قد يُخاطب الواحد، ثم يكون الخطاب للجماعة، والعكس فهذا فيه تنشيط للسامع في الجُملة، يعني: عموماً أياً كان الموضع، أو السياق، وفي كل موضع يتلمس العلماء له وجهاً جاء هذا الالتفات من أجل التنبيه عليه.

فهنا يقول: أنه في أول السورة جاء بطريق الغيبة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ  يعني: هو رب بضمير الغائب، هو رب العالمين، الرحمن هو الرحمن الرحيم، مالك هو مالكِ يوم الدين، كل هذا بالغيبة، ثم قال: إِيَّاكَ ، فهذا بمضير المُخاطب يُسمى التفات التفت من الغيبة إلى الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقد مضى الكلام على الالتفات في القضايا البلاغية.

يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور" يعني: يقول كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته، وأثنى عليه بعد أن حمده، ومجده بعد ذلك كأنه قد حضر بين يديه فوجه الخطاب إليه مباشرة، وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.

عبارة المؤلف هنا يقول: "وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه" هذه العبارة قد يستعملها الصوفية، ولكن العبارة التي قد تكون أدق هي من باب التقريب يقال: كأنه لما ذكره بصفاته، وكمالاته كأنه حضر بين يديه، فوجه الخطاب إليه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قال الله : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21] ربهم هذا في بالغيبة، قال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [الإنسان: 22] فخاطبهم بذلك، لما ذكر إنعامه، وإكرامه وجه إليهم الخطاب بأن هذا جزاء لهم على أعمالهم الصالحة، وعبادتهم، وإيمانهم، فهذا من الغيبة إلى الخطاب، عكسه من الخطاب إلى الغيبة حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] ما قال وجرينا بكم وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يونس: 22].

لاحظ كل هذا بالغيبة، فهذا يكون على كل حال في كل موضع بحسبه مما يُلتمس في ذلك الموضع، وهذه قضايا ليست قطعية، وإنما هي من الأمور البلاغية التي تحتمل هذا غاية ما هُنالك، فهنا في قوله:  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ  كما قلنا كأنه قد اقترب من ربه بعد أثنى عليه فوجه الخطاب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وبعضهم يقول: بأنه لما ذكر الحقيق بالمدح، والثناء، وذكر أوصافه العِظام؛ تعلق المعلوم بموصوف عظيم هو الإله، والرب، والرحمن، والرحيم، والملك، والمالك، فوجه الخطاب إليه بعد أن تميزت أوصافه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يعني: يا من هذه صفاته نتوجه إليك بالعبادة وحدك، وبالاستعانة دون ما سواك. 

"الفائدة الخامسة عشرة: (الصِّرَاطَ) في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير، والشر - وفي نسخة خطية: من الخير، أو الشر - ومعنى (الْمُسْتَقِيمَ): القويم الذي لا عوج فيه، فـ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : الإسلام، وقيل: القرآن، والمعنيان متقاربان؛ لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ وقرئ (الصراط) بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي، وقد قيل: إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادًا لموافقة الطاء في الاستعلاء، والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر."

قوله بأن: "الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يُمشى عليه، ثم اُستعير للطريق الذي يكون عليه الإنسان من الخير، أو الشر"، هذا كما ذكرنا في الكلام على الغريب بأن كثيراً من تلك الألفاظ هي تكون في أمور حسية، وأمور معنوية، فالصراط يقال للطريق المحسوس، ويقال أيضاً للطريق المعنوي.

يقول: "ومعنى المستقيم القويم الذي لا اعوجاج فيه فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل: القرآن والمعنيان متقاربان" هذا من قبيل اختلاف التنوع.

يقول: "لأن القرآن تضمن شرائع الإسلام، وكلاهما مروي عن النبي ﷺ".

تفسير الصراط المستقيم بالإسلام عن النبي ﷺ هو الحديث المشهور، حديث النواس : ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تتعرجوا، وداع يدعو من فوق  الصراط، فإذا أراد يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم[3] والحديث صحيح، ومشهور.

أما تفسيره بالقرآن، فهذا جاء من حديث علي  أنه سمع النبي ﷺ يقول: ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم ...[4] ففسره بالصراط المستقيم، لكن الحديث لا يصح.

أما من جهة المعنى فلا شك أن الصراط المستقيم، يعني: اتباع القرآن، فالقرآن يشرح الصراط المستقيم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه: 123] فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] فهداه هو القرآن، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ، فهذا من اختلاف التنوع، لا يُحتاج معه إلى الترجيح بين الأقوال، فإذا عُبر عنه كما مضى في شرح مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فذكر ذلك مثالاً على اختلاف التنوع.

يقول: "وقُرئ بالصاد والسين، وبين الصاد، والزاي"، إلى آخر ما ذكر في القراءة، و"أل" هذه التي دخلت على الصراط للعهد، العلمي  الذهني، الصراط المعهود الذي وصفه الله - تبارك وتعالى - وبين معالمه، وحددها بياناً لا يلتبس بغيره اهْدِنَا الصِّرَاطَ [الفاتحة: 6] المعلوم المعهود، وذلك أن "أل" إذا دخلت على موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، فهذا مقام طلب ،ودعاء، فيحتاج إلى تحديد، تحديد المطلوب، فجيء به مُعرفاً، الصراط، وأما مجيئهم مُنكراً فهذا في مقام الإخبار وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح: 2] وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87] إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 161] فهذا في مقام الإخبار يأتي مُنكراً، مقام الطلب، والسؤال يأتي مُعرفاً، فكأن الله - تبارك وتعالى - حينما عرف بهذا الصراط أنه مستقيم في مقام الإخبار، فسأل العبد أن يهديه ربه - تبارك وتعالى - إليه، فجاء به مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وهذه القراءة التي أشار إليها المؤلف بالسين هي قراءة ابن كثير قراءة متواترة في جميع القرآن، والتي تكون بين السين والزاي بالإشمام، فهذه قراءة حمزة، والجمهور من القراء بالصاد اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] الصراط هو الطريق المسلوك، والسبيل الواضح، يقولون: بأنه مأخوذ من الاصتراط، والاصتراط ما المقصود به؟

ابتلاع الشيء، فكأنه يبتلع المارة الطريق كأنه يبتلع المارة من يمشي عليه، ولاحظ بأن الصراط إنما يقال للطريق المستقيم، ولا يقال للمعوج، وبهذا الاعتبار، فإن ذكر هذا الوصف بعده القيد بالاستقامة الصراط المستقيم تكون المستقيم من قبيل الصفة الكاشفة، يعني: التي لا تُقيد الموصوف، فإذا قلت رجل ذكر هو الرجل لا يكون إلا ذكراً وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] هو الطائر لا يطير إلا بجناحين، فهذه صفة كاشفة تفيد التأكيد، وقال بفيه، كتب بيده، مشى برجله، هذه صفة كاشفة تفيد التوكيد، بخلاف الصفة المُقيدة، تقول: رجل مؤمن، رجل طويل، امرأة صالحة، لكن حينما تقول امرأة أُنثى هي المرأة لا تكون إلا أُنثى، فهذه يسمونها صفة كاشفة، فإذا قيل بأن أصلاً لفظة الصراط لا تقال إلا على ما كان موصوفاً بالاستقامة؛ فإن المستقيم هي زيادة توكيد، يقولون: المستقيم هو أقرب خط يصل بين نقطتين، يعني: المُعتدل المستوي لا اعوجاج فيه، ولا الالتواء، الطريق الواضح وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153].

وكما قال الله : قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] قصد السبيل قصد هنا صفة أُضيفت إلى الموصوف قصد السبيل، قصد يعني: الطريق المُعتدل الذي لا اعوجاج فيه، السبيل القاصد، يعني: المستقيم المُعتدل قصد السبيل، فالله هو الذي يهدي إليه وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9].

يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب، وسعته للمارين عليه، وتعينه طريقا للمقصود، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين، وكلما تعوج طال وبعد، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود، ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته، وإضافته إلى المنعم عليهم، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب، والضلال يستلزم تعينه طريقا"[5].

ولا يقال: بأن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقول بعض الصوفية، فهو على كل حال الطريق التي رسمها الله لعباده من أجل سلوكها الإيمان، والعمل الصالح، والدين الصحيح، فيكون ذلك بما جاء مُفصلاً في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهو يتضمن العلم، والعمل مع الإخلاص، والمتابعة فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].

"الفائدة السادسة عشر: الذين أنعمت عليهم، قال ابن عباس: هم النبيئون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يُغيروا، والأول أرجح؛ لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]".

هذه الرواية عن ابن عباس - ا - هم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وإن لم تصح من جهة الإسناد، إلا أن المعنى صحيح دل عليه القرآن، فالصراط المستقيم، قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فهذا أيضاً وصف آخر له يُميزه، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم من ذكر الله وخير ما يُفسر به القرآن القرآن فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] فهذا تفسير للمُنعم عليهم.

فقوله هنا: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الصراط هنا بدل كل من صراط المستقيم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ؛ لأنه لا يوجد غير هذا أصلاً، فهو بدل كل من كل، أو أنه عطف بيان، والفرق بين البدل، وعطف البيان هما متقاربان غاية المقاربة، لكن يقولون: إذا كان الثاني أوضح من الأول، فهذا عطف بيان، عطف عليه ما هو أبين، وأوضح، يمثلون لهذا يقولون: قال أبو حفص عمر، فعمر عطف بيان؛ لأنه أشهر من الكُنية من أبي حفص اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 6 - 7] فإذا قلت أن هذا أوضح في صفته فيكون عطف بيان، وإذا قلت بأنه يُكافئه فهذا بدل منه، يعني: كأنه يقول: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا يدل على التوكيد، والإيضاح، والبيان، ففسره بذلك كله، وحينما يقول بأنه صراط الذين أنعم عليهم هذا آكد، وأبين، وأوضح في استقامته، فهؤلاء المُنعم عليهم من النبيين، ونحو ذلك كانوا على الاستقامة الكاملة.

ولاحظ أنه هنا جاء به مُنكراً، وفي الموضع الأول مُعرفاً اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لكنه تعرف هنا بالإضافة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهذا على كل حال يدل إفراده على أنه الصراط واحد، وأن الطريق إلى الله واحد، وأن الحق واحد، فالحق لا يتعدد، وغاية ما هُنالك أنه في باب العلم، قد يُعبر عن الشيء بعبارات، أو يُفسر بما يقاربه، أو بجزئه، أو بالمثال، ويرجع ذلك إلى شيء واحد، هذا الذي نُسميه باختلاف التنوع.

ولكن الاختلاف الحقيقي اختلاف التضاد، هذا يقول: هذا حلال وهذا حرام، الحق عند الله واحد، لكن اختلاف التنوع سواء كان ذلك في عبارة أهل العلم، أو كان ذلك في عبارات الشارع، مثل صيغ التشهد، وصيغ الأذان الثابتة، ونحو ذلك، فإذا جاء بهذا، أو هذا، أو هذا، فلا إشكال في ذلك.

وكذلك في الأعمال، الأمور العملية، مثلاً: صفات صلاة الخوف ونحو هذا، على الوجه الذي جاء عن النبي ﷺ بصفات متعددة، فكل هذا مشروع، وكذلك في صلاة الجنازة، وعدد التكبيرات، فيكون ذلك من قبيل اختلاف التنوع، ولا يحتاج إلى ترجيح، ليس من قبيل اختلاف التضاد.

لكن الاختلاف الحقيقي: اختلاف التضاد هنا لا مجال الحق عند الله واحد، فإذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، والمُقلد العامي إذا سأل من يثق بدينه، وعلمه من غير أن يكون طالباً لما يوافق هواه، فيسأل من يعتقد أن جوابه يتفق مع رغباته؛ فإن الذمة لا تبرأ بهذا، لكن إذا سأل وتحرى من يثق بدينه، وعلمه، فأجابه ولو أخطأ المُجيب، فإن هذا الإنسان معذور؛ لأنه فعل ما وجب عليه فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والحمد لله.

لكن الإشكال هو أن ينظر إلى القولين - أعني العامي - فيأخذ ما يوافق هواه، ويقول أفتى به عالم، أو يقول هذه المسألة خلافية، فيحتج بالخلاف، ويأخذ ما يُريد، فهنا يقال الحق عند الله واحد، فيجب التحري، ولذلك قال الشاطبي - رحمه الله -: بأنه إذا اتفق له قولان، يعني: العامي وقف على قولين، ولم يترجح عنده أحد القائلين، يعني: بعلم، أو ورع، كلاهما سواء، فإنه ينظر إلى هواه، فيُخالف الهوى؛ لأن الشريعة إنما جاءت لإخراج المُكلف من داعية هواه[6].

بخلاف ما يقوله كثير من الناس الآن، ويظنونه، ويبحثون عن ما يوافق أهواءهم، ويقولون المسألة خلافية، ويُقدمون أحياناً لهذا في سؤالهم، هل يوجد خلاف في هذه المسألة؟

ووجود الخلاف لا يسوغ للمُكلف أن يفعل ما يُريد، ولا يصح الاحتجاج بالخلاف، والله يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153] فيأتي دائماً مُفرداً والسُبل مجموعة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] الظلمات كثير إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] فالنور واحد، وهو الصراط المستقيم، وحديث النواس الذي أشرت إليه قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مُفتحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه هذه الضلالات، قال: فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المُفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم.

فإذا دعت النفس إلى شيء، وخلا الإنسان؛ فإنه يتذكر نظر الله إليه ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] والإنعام هو إيصال النعمة، وهي الحالة التي يستلذها الإنسان، لين العِيش، والخفض، والدعة، والمال، ونحو هذا، هذا في الأصل إطلاق النعمة على ذلك، وهي جنس يصدق على القليل، والكثير، وإذا أُضيفت إلى معرفة دلت على الإنعام المُطلق، ولاحظ هنا أُضيفت صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] أي على عموم النعم الدينية، والأخروية، أنعمت أُضيفت إلى تاء الخطاب.

والله يقول: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ [المائدة: 11] هنا أضافه إلى الاسم الظاهر، أي: نِعم الله عليكم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] يعني: نِعم الله.

وعلى كل حال الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] هم الذين وفقوا لسلوك الصراط المستقيم، وفقوا للدين الحق، والهدى الكامل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33] وهو العلم النافع والعمل الصالح، الإيمان، وطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ وهذه أجل الِنعمن وأعظمها، وإن كانت النعم تتنوع وتتفاوت، فالأرزاق الدارة نِعم، الصحة نعمة، الولد نعمة، الأمن نعمة، وغير ذلك، هذا الهواء، والماء البارد، كل هذه نِعم من الله - تبارك وتعالى -.

لكن أعظم هذه النِعم هو الهداية إلى الصراط المستقيم، والله يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ۝ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ۝ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68].

هنا قوله: "هم النبيون، والصديقون، وقيل المؤمنون، وقيل الصحابة". المعنى: أعم من هذا، وقيل قوم موسى، وعيسى قبل أن يغيروا، وهذا لا يصح أن يُفسر به اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] يعني: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وهم قوم موسى، وعيسى، يعني: كأنه يقول اسلك بنا سبيل المُهتدين قبلنا، لكن المعنى أعم من ذلك، وهم الأنبياء، والصديقون، والصالحون، والشُهداء، ويدخل في ذلك جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومن وصف من أتباعهم عموماً.

"الفائدة السابعة عشرة: إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى عن معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال"

إعراب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ؛ لأن قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: بدل، ويبعد النعت؛ لأن إضافته غير محضة، وهو قد جرى على معرفة، وقرئ بالنصب على الاستثناء، أو الحال.

(غير): هنا صفة للاسم الموصول الذين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فـ (غير) صفة له صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إما مبينة، أو مقيدة، بأي اعتبار؟ باعتبار أنهم جمعوا أنهم حصلوا النعمة المطلقة بلزوم الحق، وأيضًا مجانبة ما يخالفه من الضلال.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ : سلموا من الغضب والضلال، ويحتمل أن يكون بدلًا من الاسم الموصول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ باعتبار أن المُنعم عليهم هم الذين سَلِموا من الغضب، والضلال، ولاحظوا أن الأول أوضح في المعنى، وأحسن، وأكمل من هذا يعني غير صراط المغضوب عليهم، والضالين، فكونه صفة أوضح، فيكون بهذا الاعتبار صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ اهْدِنَا الصِّرَاطَ فوصفه بالاستقامة، وأنه طريق المنعم عليهم، وأنه مجانب لطريق أهل الضلال، فهذه أوصاف له تحدده، وتميزه - والله أعلم -.

و(غير) هنا من جهة الإعراب كما أشار المؤلف مضاف، والمغضوب مضاف إليه، وعليهم متعلق بالمغضوب. لاحظ فهذا الوصف لصراط المنعم عليهم بغير المغضوب عليهم، ولا الضالين هذا فيه تأكيد كمال صراط المنعم عليهم، وكما ذكرنا في النفي، واقتضائه لكمال ضده، فهنا حينما يقول: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فهذا يعني أنه طريق أهل الرضا، والإنعام، والهداية الكاملة، الذين سَلِموا من الغضب، ومن الضلال.

لاحظ أنه جيء بالفعل مبنيًا للمجهول، وفي الإنعام جاء مبنيًا للمعلوم، العلماء يقولون: هذا من باب الأدب في الألفاظ.

فالشر لا يُنسب إلى الله - تبارك وتعالى - تأدبًا: والشر ليس إليك[7] مع أن الله خالق الخير، والشر، فهنا في الإنعام أضافه إلى الله صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ وفي الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مثل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، وأضاف الشفاء إلى الله.

ومثل قوله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] فنسب العيب إليه، وفي الجدار قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82].

وكذلك قوله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 3] قالوا: كلمة قلى فلم يُضفها إليه، ما قال وما قلاك، وعلى كل حال هذا فيه إثبات صفة الغضب لله - تبارك وتعالى - على ما يليق بجلاله، وعظمته، وهؤلاء الذين غضب عليهم المغضوب عليهم هم من حصل لهم العدول عن الحق بعد معرفته، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، كما فسره به النبي ﷺ كما في حديث عدي بن حاتم : سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: هم اليهود وَلا الضَّالِّينَ قال: هم النصارى[8].

وكذلك جاء في حديث أبي ذر بنحوه، أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فهو يصدق عن اليهود قطعاً، وهذا تفسير نبوي، وإن كان ذلك يشمل كل من عرف الحق ولم يتبعه، فيكون استحقاقه من هذا الحكم، يعني: الغضب بقدر ما تحقق فيه من الوصف؛ لأن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فبقدر ما يكون عند العبد من الإعراض عن الحق بعد ما عرفه يكون نصيبه من الغضب، واليهود الله - تبارك وتعالى - وصفهم بهذا: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة:61] وقال أيضاً: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة:90] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [المجادلة:14].

فهؤلاء عرفوا الحق، وتركوه وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]

وفي خبر عمرو بن زيد بن نُفيل الذي أخرجه البخاري عن ابن عمر " أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع فهل تدلني على غيره، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم"[9].  هذا الحديث مُخرج في الصحيح في البخاري.

على كل حال، قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] يعني: ولا صراط الضالين، فالواو عاطفة بعضهم يقول: إن لا هذه زائدة إعراباً كما يقوله البصريون تفيد التوكيد لمعنى النفي المفهوم من غير، وليدل على أن هذا مسلك، وهذا مسلك، فلا يتوهم أحد أن الضالين وصف للمغضوب عليهم.

يعني: لو قال غير المغضوب عليهم، ما قال ولا الضالين، لو قال غير المغضوب عليهم والضالين فيكون يحتمل أنه وصف لطائفة واحدة جمعوا بين الغضب، والضلال، لكن لما قال: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7].

فدل على أن هؤلاء طائفة، وهؤلاء طائفة أخرى، هذا لا يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى طائفة واحدة، والكوفيون مذهبهم أسهل في النحو كما هو معروف، يقولون: بأن لا هذه بمعنى غير وهي تفيد التوكيد، وقد جاء في قراءة غير متواترة قراءة عمر : غير المغضوب عليهم، وغير الضالين.

والضالون هؤلاء أهل الجهل، والعمى، الذين تركوا الحق لجهلهم حصل لهم الانحراف بسبب جهلهم، فعدلوا عن الصراط المستقيم، وهم النصارى، هذا أولى من يصدق عليه هذا الوصف كما فسره به النبي ﷺ وهو يصدق على كل من لم يلزم الحق بسبب جهله، وعماه.

لكن النصارى في الواقع بعد مبعث النبي ﷺ عرفوا صدقه، فجمعوا بهذا بين الضلال، والغضب، فهم مغضوب عليهم، وكذلك هم أهل ضلال.

يقول الله - تبارك وتعالى -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] وتفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى نقل عليه بعض أهل العلم الاتفاق، لكن كما سبق أن المعنى أيضاً يشمل هذا، وغيره ممن يُشاكله، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أن الضاد، والظاء هنا غير المغضوب، يعني: لو قال غير المغظوب عليهم ولا الظالين يقول: بأنه يُتسامح في هذا لقُرب المخرج، فقال: "والصحيح من مذاهب العلماء : أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد، والظاء لقرب مخرجيهما ؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك - والله أعلم -"[10].

لاحظ هنا: أنه قدم المغضوب عليهم على الضالين، وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - وجوهاً في هذا التقديم، ومنها: أن اليهود متقدمون تاريخياً على النصارى، فقدموا ما يتعلق بهم، ومنها: أن اليهود كانوا يجاورون المسلمين، والنصارى كانوا أبعد كانوا في الشام، وفي نجران فقُدم، ومنها: أن الغضب أغلظ، يعني: حال اليهود عرفوا الحق، ولم يتبعوه، فهم أشد في جُرمهم، فقُدم ذلك، كذلك أيضاً أنه لما ذكر المُنعم عليهم، فالذي يُقابل الإنعام الغضب، فناسب أن يُذكر الغضب بعد الإنعام صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فذكر الشيء، وما يُقابله[11].

"الفائدة الثامنة عشر: أُسند أنعمت عليهم إلى الله، والغضب لما لم يُسمى فاعله، وفي نُسخة خطية إلى ما لم يُسمى فاعله، على وجه التأدب كقوله: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وعليهم الأول في موضع نصب، والثاني في موضع رفع".

هذا سبق التنبيه عليه، وهو ما يتعلق بالتأدب في مثل هذا التعبير، وذكرت نظائره.

قال: "وعليهم الأول في موضع نصب" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فالإنعام واقع عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ المغضوب هنا مبني للمجهول، فيكون الرفع؛ لأنه حُذف الفاعل، نعم الفائدة التاسعة عشر.

"الفائدة التاسعة عشر: المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي ﷺ وقيل: ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه: روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر ولا في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ [البقرة:90] والضلالة صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم ولقول الله فيه - وفي نُسخة - ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]".

قوله هنا: الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ اليهود، و (الضَّالِّينَ): النصارى، قاله ابن عباس. هذا ثابت عن ابن عباس - ا -. قال: وابن مسعود. وفي الهامش قال المعلق: أخرجه الطبري بإسناد جيد. هنا يتحدث عن أثر ابن مسعود وليس عن أثر ابن عباس.

قال: وقد روي ذلك عن النبي ﷺ هذا من حديث عدي بن حاتم السابق أن النبي ﷺ قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى[12].

وحديث أيضًا أبي ذر لما سأل النبي ﷺ وكلاهما ثابت صحيح. يقول: وقيل: ذلك عام. وبينا وجه هذا.

قال: والأول أرجح لأربعة أوجه؛ روايته عن النبي ﷺ وجلالة قائله، وذكر (ولا) في قوله: وَلَا الضَّالِّينَ دليل على تغاير الطائفتين، وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: يعني هذه أوجه في ترجيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى.

قال: والضلال صفة النصارى؛ لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم : وعمومًا هم أهل جهل.

قال: ولقول الله فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].

هذه الأوجه ذكرها في ترجيح هذه المعنى المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وكما سبق أن ذلك لا ينفي هذا الوصف عمن عرف الحق، وتركه من أي طائفة كان لكن هؤلاء أحق بذلك غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وتفسيره باليهود يكون من قبيل العام المراد به الخصوص، وكذلك: الضَّالِّينَ لكن حينما يقال: إن هذا هو الأولى بهذا الوصف، فهم أحق من يدخل فيه فهو يصدق عليهم، وهم مقصودون بذلك، ولا ينفي عما عداهم. هذا أفضل - والله تعالى أعلم - ولهذا قالوا: بأن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى.

"الفائدة الموفية عشرين: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه، فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى تعلم ذلك، فالإلهيات حاصلة في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والدار الآخرة في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والعبادات كلها من الاعتقادات، والأحكام التي تقتضيها الأوامر، والنواهي في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ والشريعة كلها في قوله: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ والأنبياء، وغيرهم في قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر طوائف الكفار في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.

هنا قال: فتأملها بعد تحصيل الباب الثالث من المقدمة الأولى: الباب الثالث من المقدمة الأولى في المعاني، والعلوم التي تضمنها القرآن، هذه من المهم أن تكون حاضرة في الأذهان، فإذا قرأت في هذا التفسير فإنه سيراعي ذلك فيما يقرره، ويذكره، وهذا هنا في سورة الفاتحة يشير إليه، استحضار هذه المقدمات، ومراجعتها أمر في غاية الأهمية، وهنا ذكر جملًا تدل على هذا أن الفاتحة مشتملة على معاني القرآن، فمعاني القرآن ترجع إليها، وهذا ذكره جمع من أهل العلم، وذلك أنها تتضمن حمد الله، والثناء عليه، وتمجيده، وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، والربوبية، والأسماء، والصفات.

وفيها أيضًا الترغيب، والترهيب، ووعد، ووعيد، إثبات البعث، والجزاء، والعمل يعني: العمل وجزاءه، والعامل وعمله، وإرشاد الخلق إلى حمد الله، والثناء عليه كما قلنا: إن هذا تعليم من الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وإرشاد لهم إلى عبادته، والاستعانة به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في جميع أمورهم الدينية، والدنيوية، وإخلاص العمل لله (إياك)، وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم؛ الذي يؤدي بسالكه إلى سعادة الدارين، وفيها أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم، وهم الذين هداهم الله هداية العلم، وهداية العمل، وأهل الغضب حصل لهم العلم من غير العمل، وأهل الضلال الذين - نسأل الله العافية - لا علم، ولا عمل صحيح.

وفيها إثبات الرسل، والرسالات، والوحي، فكيف يُحمد الله - تبارك وتعالى - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؟ وكيف يُعبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ ؟ إلا بما شرع، وكيف نعرف ما شرع، ونعرف صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ونحذر من طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، ونبتعد عن هذا كله إلا من طريق الوحي، والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهذا في إثبات الرسل، والرسالات، والكتب المنزلة، ثم كيف يجازون عن هذا؟ ويحاسبون على الأعمال إلا بعد البيان، وإقامة الحجة بإرسال الرسل، وإنزال الكتب رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] كما تضمنت هذه السورة كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: الرد على جميع المبطلين، وطوائف البدع، والضلال، والإلحاد؛ لأنهم لا يخرجون عن هذين الوصفين: أهل غضب، أو ضلال، فاشتملت على أهم المطالب، وتضمنتها فعرفت بالمعبود بهذه الأسماء الثلاثة التي إليها ترجع الأسماء، والصفات، وتدور عليها (الله) و (الرب) و (الرحمن)[13].

يقول في موضع آخر: بأنها بُنيت على الإلهية، والربوبية، والرحمة فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مبني على الإلهية وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ على الربوبية، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم صفة الرحمة، فمن - رحمه الله - هداه ووفقه، والحمد يتضمن هذه الأمور الثلاثة: فهو محمود بإلهيته، وربوبيته ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده، وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بالأعمال: الحسن، والسيء، وتفرد الرب بالحكم بين الخلائق، وأن هذا الحكم بالعدل مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء، والحساب[14].

وذكر في مواضع أخرى أيضًا القوة النظرية العلمية، والقوة العملية الإرادية للإنسان، وإن السعادة موقوفة على استكمال هاتين القوتين، فاستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة الخالق - - معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق الموصل إليه، ومعرفة آفات هذه الطريق، ومعرفة النفس وعيوبها، وبهذه المعارف تحصل كمال القوة العلمية، وأن أعلم الناس هو أعرفهم بها، وأن أفقههم هو الذي يدرك ذلك إدراكًا صحيحًا، وأن استكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بالقيام بوظائف العبودية، ومراعاة حق المعبود - - والإخلاص، والمتابعة، واستحضار المنة، وشهود التقصير في حقه فهو على كل حال يستحي من ربه - تبارك وتعالى - وهذا لا يتحقق للعبد يعني هذه المعرفة القوة العلمية، والقوة العملية إلا بمعونة الله فالعبد مضطرٌ إلى ذلك، وإلى هدايته إلى الصراط المستقيم الذي هدى إليه أولياءه وأن يجنبه الخروج عنه، فيقع في حال من الغضب، أو الضلال، فلا تتم السعادة إلا بمجموع هذه الأمور التي تضمنتها سورة الفاتحة، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : هذا كله يتضمن الأصل الأول الذي يتعلق بالقوة العلمية، معرفة الرب ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وكذلك أيضًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هذا يتضمن معرفة الطريق الموصل إليه، وهي عبادته وحده، والاستعانة به على عبادته اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يتبين أنه لا سبيل إلى الوصول إليه، والسعادة، ونيل ما عنده إلا بالاستقامة على صراطه المستقيم، وهذا لا يتحقق إلا بهداية الرب - تبارك وتعالى - كما أنه لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته، فلا سبيل إلى الاستقامة على صراطه إلا بهدايته.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ: هذا يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم فساد العلم، والاعتقاد، وكذلك أيضًا فساد القصد، والعمل.

يقول: فأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمته، ورحمته، والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا، وذلك من موجبات إلهيته، فهو الإله الحق وإن جحده الجاحدون، فمتى تحقق بمعاني الفاتحة علمًا، ومعرفة، وعملًا، وحالًا؛ فقد فاز من كماله بأوفر الحظ، والنصيبـ وصارت عبوديته عبودية خاصة[15] وكذلك ذكر شيئًا من هذه المعاني الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.

"خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: (آمين) اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر."

يقول: أُمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ آمين يعني استجب، فهو اسم فعل بهذا الاعتبار، وأما القول بأنه من أسماء الله فهذا لا يثبت، فليس من أسمائه آمين.

يقول: ويجوز فيه مد الهمزة: آمين. ويجوز القصر: أمين. ولا يجوز تشديد الميم: آمّين يعني قاصدين، وهذا قال بعه بعضهم لكنه غير صحيح، آمّين يعني قاصدين الله بالعبادة، والاستعانة.

قال:  وليؤمن في الصلاة المأموم، والفذ، والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر: يعني المأموم هل يجهر، أو لا؟ تعرفون مذهب أبي حنيفة أنه لا يجهر[16] ومذهب الجمهور أنه يجهر[17] وهذا هو الصحيح، وقد دل على هذا أدلة، وأن المأموم يجهر كما جاء في حديث أبي هريرة حتى يرتج بها المسجد.

فهذه هي السنة الجهر بالتأمين خلف الإمام، ويدل عليه الحديث أيضًا: إذا أمن القارئ فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[18].

أما القول بأنه لا يجهر باعتبار أن ذلك دعاء بمعنى استجب، وأن الدعاء لا يُشرع فيه الجهر؟ فهذا ليس على إطلاقه، فالجهر في الذكر، والدعاء يطلب حيث شُرع، وإنما يكون ذلك باتباع الدليل، فيستحب للقارئ أن يسكت سكتة لطيفة بعد قراءة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ثم يقول: آمين. سواء كان في الصلاة، أو خارج الصلاة، يعني لو قرأ الفاتحة خارج الصلاة فيستحب له أن يقول: آمين. فضلًا عن حال الصلاة، وهي ليست من الفاتحة بالإجماع، ولهذا لم تثبت في المصاحف، وفيها اللغتان على كل حال بالمد آمين على وزن فاعيل، وأمين على وزن فعيل، والقصر هو الأصل، فإذا قال الناس آمين مدوا الألف فهذا صحيح، وإذا قصروا فهذا أيضًا صحيح، كله صحيح، على كل حال هذه عشرون مسألة في الفاتحة.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (770).
  2.  تفسير الطبري (1/166).
  3.  أخرجه أحمد، رقم: (17634) .
  4. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، رقم: (2906)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم: (1788)، والدارمي في سننه، رقم: (3374)، وقال الألباني: ضعيف جدا. مشكاة المصابيح (1/ 659).
  5.  مدارج السالكين (1/33 - 34).
  6.  أخرجه مسلم، كتاب صلاة، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم: (771).
  7.  الموافقات (2/264).
  8.  صحيح ابن حبان، رقم: (6246)، المعجم الأوسط، رقم: (3813)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/42).
  9.  أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: (3827).
  10.  تفسير ابن كثير (1/143).
  11.  انظر: بدائع الفوائد (2/33).
  12. أخرجه أحمد، رقم: (19381)، وابن حبان، رقم: (6246)، والطبراني في المعجم الكبير، رقم: (237).
  13. مدارج السالكين (1/81).
  14.  المصدر السابق (1/31).
  15.  انظر: الفوائد لابن القيم (ص: 18 - 20).
  16.  البحر الرائق شرح كنز الدقائق (1/320)، مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح (ص: 97)، النهر الفائق شرح كنز الدقائق (1/201).
  17.  مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص: 72)، المغني لابن قدامة (1/353)، المجموع شرح المهذب (1/67)، تفسير القرطبي (1/127).
  18.  أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التأمين، رقم: (6402)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع، والتحميد، والتأمين، رقم: (410).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- بعد أن علمنا كيف ندعو بالهداية إلى الصراط المستقيم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] ميّز هذا الصراط بحيث لا يلتبس بغيره، فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] والمعنى: أن هذا الصراط المستقيم هو صراط المُنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من هم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [سورة النساء:69] فهذا تفسير لقوله -تبارك وتعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7].

من الذين أنعم عليهم؟ هم هؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى؛ وذلك من تفسير القرآن بالقرآن، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها، كما هو معلوم، فهؤلاء هم أهل الهداية والاستقامة، وقد أضاف الصراط إليهم - كما ذكرنا في الليلة - باعتبار أنهم السالكون له، فهم أهل سلوكه، فأضافه إليهم، وأضافه إليه -تبارك وتعالى- في غير هذا الموضع، فقال: صِرَاطِ اللَّه [سورة الشورى:53] باعتبار أنه هو الذي خطه ورسمه وشرعه، وأمر بسلوكه، ولا تجعلنا يا رب ممن سلك طريق المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق، ولم يعملوا به، وأولى من يصدق عليه هذا الوصف هم اليهود، وقد صح ذلك عن رسول الله ﷺ ويدخل فيه -كما سيأتي- كل من كان على شاكلتهم، وهم الذين عرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه.

وأما الضالون في قوله: وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] فهم الذين لم يعرفوا الحق أصلاً فضلوا، وهؤلاء أولى من يدخل فيهم، ويصدق عليه هذا الوصف هم النصارى، فهم أهل ضلال، ومن كان على صفتهم ومثل حالهم.

فهذا الدعاء اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] فيه شفاء لقلب المسلم من العِلل والأوصاب ومرض الجحود والجهل والضلال.

وفيه: دلالة على أن أعظم نِعمة على الإطلاق هي نعمة الهداية، والإسلام، فمن كان أعرف للحق وأتبع له، كان أولى بالصراط المستقيم، ولا شك أن أصحاب النبي ﷺ هم أولى الناس بذلك بعد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فدلت هذه الآية على فضلهم، وعظيم منزلتهم، ورفعة مرتبتهم، وقدرهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وأولى من يدخل في وصف الصديقية، وصار بمثابة العلم بالغلبة عليه، فهو أبو بكر الصديق لكمال صدقه، وتصديقه، فإذا كان أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- من أولى من يصدق عليه هذا الوصف، فهو من الذين أنعم الله عليهم، ونحن في كل ركعة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] فدلّ على منزلة أبي بكر وأن اتباعه، والاقتداء به، ومحبته من دعائم ومُقومات اتباع الصراط المستقيم.

فهؤلاء هم كِبار من يسلك هذا الصراط، ونسأل ربنا -تبارك وتعالى- دائمًا أن يُلحقنا بهم، وأن يسلك بنا سبيلهم وطريقهم وصراطهم، فهل يُعقل أن أحدًا يعقل هذا المعنى، ثم يلعن أبا بكر ؟! وأن يقول عنه بأنه هو الطاغوت، أو الجِبت، وأن عمر هو الطاغوت؟! هل يُعقل من يفهم عن الله -تبارك وتعالى- ويعقل كلامه، ويُردد هذه السورة، ويقول: يا رب اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ثم يكون بعد ذلك حربًا على الحق وأهله، ويكون ذابًا عن الضلال والانحراف والكُفر والشرك بالله -تبارك وتعالى؟! فأين هذا من الهداية إلى الصراط المستقيم؟! هذا أبعد ما يكون عن الهداية.

فدلت هذه الآية على منزلة أصحاب النبي ﷺ من هذا الوجه، وعلى فضل أبي بكر الصديق على سبيل الخصوص.

فهذه هي الآيات من هذه السورة، وهذا المراد بها من جهة المعنى باختصار، أما قول القائل بعد ذلك: آمين، فهو بمعنى استجب، لكنه ليس من الفاتحة بالإجماع، وإنما هو دعاء يدعو به، ومعنى ذلك: اللهم استجب.

بعد ذلك نشرع في ذكر الفوائد:

فحينما نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] حقيقة الصراط المستقيم -كما عرفنا- هو معرفة الحق، والعمل به، فقد يعرف الحق، ولكن لا يعمل به، فلا يكون من أصحاب الصراط المستقيم؛ لأن الله -تبارك وتعالى- بيّن من انحرفوا عنه، وهم أهل الغضب الذين عرفوا الحق فتركوه، وأهل الضلال الذين لم يعرفوا الحق أصلاً، فعملوا بلا علم، فصار الصراط المستقيم بمعرفة الحق معرفة صحيحة، وكذلك أيضًا اتباع هذا الحق، ولزوم الصراط المستقيم.

فلا بد لمن أراد أن يتحقق من ذلك من أمرين: لا بد له من العلم الصحيح، والعلم الصحيح لا يتنزل علينا هكذا وحيًا يوحى، وإنما الوحي للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أما غير الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- فكما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحِلم بالتحلم [1]فيحتاج المرء إلى أن يطلب العلم، ويبذل جُهده في طلبه، وأن يصبر على ذلك، فإن العلم فيه مشقة في الجلوس، ويحتاج إلى صبر، وفيه مشقة أيضًا على النفس من جهة أنه يحتاج إلى تطامن، فالماء إنما يجتمع في المطامن، ولا يجتمع في الأعالي.

فهذا الذي يجلس في مقام التلقي والتعلم يحتاج إلى شيء من التواضع، وكثير من الناس لا يوفق لهذا، ولا يُهدى إليه؛ لأن فيه نوع كِبر يترفع من أن يُرى في مجالس التلقي والأخذ والتعلم، فيحتاج الإنسان إلى صبر؛ وذلك أيضًا فيه انقطاع عن أشغال وعن شهوات وعن أمور ربما تنجذب إليها النفس، وربما يقطع الإنسان وقت راحته ونومه ونحو ذلك، ويصبر على السهر والجلوس الطويل في طلب العلم، فكما قيل: من رافق الراحة فارق الراحة في وقت الراحة، ولكن من كانت بدايته مُحرقة كانت نهايته مُشرقة، الذي تحمل وصبر وجد واجتهد، بعد ذلك تكون عاقبته مُشرقة، ويكون في حال من العلم والعمل، ويكون بذلك في منزلة عند الله -تبارك وتعالى.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:6، 7] صراط الذين أنعمت عليهم هذا تصريح بعد إبهام، يعني: كأنه حينما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] قد يتساءل السامع أو القارئ: ما هو الصراط المستقيم؟ فجاء التفصيل بعد الإجمال؛ وذلك فيه ما فيه من تشويق النفوس إلى معرفته، وتهيئتها لتتلقى المُراد بهذا الصراط المُستقيم، فيكون ذلك أدعى إلى الفهم والاستيعاب لما حصل من جذب الانتباه. 

وهذا الأسلوب اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيه أيضًا تأكيد معنوي، وأيضًا فيه تقرير حقيقة هذا الصراط أنه طريق المُنعم عليهم، وكذلك هو مُجانب لطريق أهل الغضب، وأهل الضلال، فيحصل بذلك تحقيق مفهوم هذا الصراط، فيحصل ذلك المفهوم للسامع أو للقارئ مرتين؛ في المرة الأولى حينما أجمله ووصفه بالاستقامة، ثم بعد ذلك حينما أضافه إلى المُنعم عليهم، وميّزه من طريق أهل الغضب والضلال.

فقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] بدل من قوله: الصراط المستقيم، فكأنه على نية تكرار العامل، كأنه قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، فهذه الإعادة وهذا التكرار يُشعر بأهمية هذا الصراط أنه لشدة الحاجة إلى معرفته وخطورته، وأن من انحرف عنه فقد ضاع الضياع الحقيقي، احتاج إلى تمييز وبيان كامل، بحيث لا يقع فيه أدنى التباس؛ وليكون ذلك صادقًا وظاهرًا في طريق المسلمين، ويكون ذلك شهادة لهذا الطريق الذي يسلكونه بأنه موصوف بالاستقامة على أبلغ الوجوه وآكدها.

فالمقصود: أن هذه الجُمل يوضح بعضها بعضًا توضيحًا لا يدع في الحق لبسًا، فهذا كله يدل على قيمة هذا الصراط؛ لأنه يترتب على معرفته من عدمها: الفلاح، والخسارة، فإن الفلاح إنما يتحقق بمعرفته ولزومه، والخسارة تكون إما بالجهل به، أو بمُجانبة سلوكه.

وتأمل قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيه إشارة إلى هؤلاء، وبِشارة للمُهتدي أنه ليس وحده على هذا الطريق، يعني: كأنه يقول: حينما تستشعر أنك في غُربة لقلة السالكين وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] فينبغي أن لا تضيق بذلك، فهذا الطريق قد سلكه سالكون قبلك من الأئمة الكِبار، والرجال العِظام من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ومن سلك سبيلهم من أتباعهم، فلست أول من يسلك هذا الطريق، وهذا يحصل به ما يحصل من الأُنس، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، فاسلك سبيلهم.

فالإنسان حينما يُقرر أن يسلك طريقًا في سفر، أو يُجري عملية، أو نحو ذلك، مما قد يتعاطاه من الأمور المخوفة التي يتخوفها، فحينما يُقال: هذا العمل وهذه العملية وهذا الطريق في السفر سلكه قبلك سالكون، لك فيهم أسوة، فلان وفلان وفلان وفلان، فيخف ذلك عليه، ويتسلى به، ويشعر أنه ليس ببِدع فيه، وأنه ليس بمُنفرد في سلوك هذا الصراط، فيشعر بالأمان، ويشعر بالراحة، ويشعر بالطمأنينة، ومن ثَم فإنه لا يكترث بأولئك الناكبين عن هذا الصراط المستقيم.

وهذا هو السر -والله تعالى أعلم- بإضافة الصراط هنا إلى المُنعم عليهم، ولم يكتف بوصفه بالاستقامة، فحينما يكون الإنسان في حال من الانفراد أو الغُربة فقد يشعر أنه وحده، ثم تُنازعه نفسه لماذا تنفرد عن هؤلاء الجموع؟ ولماذا لا يكون الإنسان كغيره من الناس، كل الناس يفعلون كذا، كل الناس يتعاطون كذا، وكثير من الخلق إنما يكون عملهم واقتدائهم بالأكثر، مع أن الله -كما سبق- يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] ويقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة الأنعام:116] ليس بعد هذا شيء في الإيضاح والبيان، إذًا: لزوم الحق واتباعه هو طريق القِلة من الناس، لكن هذه القلة هم الخُلاصة، هم أهل الإنعام الذين أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم.

فقال الله -تبارك وتعالى- بعد الإجمال في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6]: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] وذلك أنه لما كان طالب الصراط المُستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مُريدًا لسلوك طريق مُرافقه فيها في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وعلى الأُنس بالرفيق[2].

ومن هنا نبه الله -تبارك وتعالى- على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا، فأضاف الصراط إلى الرفيق، السالكين له، وهم هؤلاء المُنعم عليهم؛ ليزول على الطالب للهداية، وسلوك الصراط: وحشة تفرده عن أهل زمانه، وبني جنسه؛ وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بعد ذلك بمُخالفة الناكبين له، فإنهم هم الأقلون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف : "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين"[3].

فكلما استوحشت في تفردك، فانظر إلى الرفيق السابق، انظر إلى أولئك الكِبار الذين سلكوا هذا الطريق قبلك، واحرص على أن تلحق بهم، مع غض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك.

وضرب ابن القيم -رحمه الله- بعد ذلك مثلين لهذه الحال من أحوال السالك، فقال في الأول: هو رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها، فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلامًا يؤذيه، فوقف، ورد عليهم وتماسك، يعني: اشتبك معه، فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة، وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمُنازعته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة، فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما ضعُفت عزيمته، فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته، أو أكثر، فإن أعرض عنه، واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه شيئًا[4].

يقول: لا تلتفت إلى هؤلاء الذين يعوقونك في سلوكك، أيًّا كان نوع هؤلاء المعوقين؛ ولذلك كان الإمام أحمد -رحمه الله- يُحذر ابنه من بُنيات الطريق[5] إذا سلكت الطريق سيتصايح بك أُناس من ها هنا وها هنا، فهذا يعيبك، وهذا يغمزك، وهذا يلمزك، وهذا يرميك بما أنت منه بريء، وكما جاء عن عثمان : أن المرأة الزانية تحُب أن كل النساء زواني[6] فهؤلاء يشق عليهم ويسؤوهم أن يروا أهل الطُهر والنزاهة والعفاف والشرف والدين والصيانة يسلكون الطريق، وأولئك يتخبطون في الوحل.

فالمرأة المُتبذلة المُتكشفة المتهتكة يشق عليها أن ترى امرأة من ذوات الصيانة والحِشمة والطُهر والعفاف والفضيلة، فترميها بالقبائح، وتلمزها وتغمزها بالتخلف، وأنها رجعية، وقروية، وبدوية، وأنها من أهل القرون القديمة، وما إلى ذلك من العِبارات، مع أن القضية واضحة، والله -تبارك وتعالى- يمتن على عباده فيقول: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [سورة الأعراف:26] فهذا اللباس الذي يحصل به ستر العورات التي نزعها إبليس من الأبوين في الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [سورة الأعراف:27] فهذا فعله، وكانا في الجنة بحال من الستر، ولكنه بعد الإغواء حصل ما حصل يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ولكن داعي الفطرة وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [سورة طه:121] هذه هي الفِطر السليمة، فإذا دُنست بفعل شياطين الإنس والجن، صار العُري ذوقًا، وصار العُري تقدمًا وتحضرًا وحُرية، وصارت المرأة التي تتهتك وتتكشف وتعبث بحجابها امرأة تقدمية ومُتحضرة ومُتطورة، وعصرية، كما يُقال، وما علمت أن ذلك هو فعل أهل الجهل والجهالة، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [سورة الأحزاب:33] فالتبرج منسوب إلى الجاهلية، والجاهلية مُشتقة من الجهل، وكفى بذلك قُبحًا وتنفيرًا للنفوس عن تعاطي مثل هذه الأمور.

فهذا السالك إلى الله -تبارك وتعالى- على هذا الصراط المستقيم حينما يشوش عليه الآخرون ويُقلقونه ويُزعجونه بالغمز واللمز والهمز والنبز، وما إلى ذلك، ويلقبونه بالألقاب القبيحة، ويشغبون عليه، ينبغي ألا يلتفت إلى ذلك، وإنما يكون شغله واهتمامه بتصحيح سيره على الصراط المستقيم، ومُحاسبة نفسه، وعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فيكون دائمًا مُحاسبًا نفسه، ويكون مُتجددًا في إيمانه وعمله وصلاحه وتقواه، فهذا المثل الأول الذي ذكره الحافظ ابن القيم - رحمه الله .

وذكر المثل الثاني للسالك الذي يلتفت لهؤلاء النابحين الذين يصيحون به فيعوقونه، فيقول: الظبي أشد سعيًا من الكلب، ولكنه إذا أحس به، يعني: إذا كان هذا الظبي في حال الانطلاق والسرعة، وصار في حال من الشعور بأن الكلب يصيح به، وأنه قرُب منه، تحين منه التفاتة، فإذا التفت الظبي ضعفُت قواه، وهبط عزمه، ثم بعد ذلك يضعف سيره وسعيه وانطلاقه، فيثب عليه الكلب، ويكون بعد ذلك فريسة له[7] هذا هو الطريق.

فالشيطان يُلقي إليك الخواطر والوساوس والأمور المُزعجات المُقلقة، ويشوش عليك هذا السير، تارة يُشكك ويُلبس عليك، ويُلقي عليك الخواطر في العقيدة مما يتعاظم الإنسان أن يذكره أو يتحدث به، وتارة يُقلقك في أمور الصلاة أو الطهارة، أو غير ذلك من الأمور، ويُلقي في قلبك مخاوف ووساوس، ويُلقي في قلبك القلق وأمورًا من هذا القبيل، مما ينتاب الإنسان، فلا تلتفت، فإنك إذا التفت إليه فإنه يقوى، وعزم الإنسان يضعف، فما يلبث به حتى يُدركه، ثم يتسلط عليه، فيبدأ يشتغل بالإعادة بعد الإعادة بالطهارة، أو في تكبيرة الإحرام، أو في قراءة الفاتحة، أو نحو ذلك، يُعيدها عشرات المرات، ويخرج الوقت وهو لم يُصل. 

ثم يأتيه الشيطان ويقول له: ما هذا العناء؟ وما هذا الشقاء؟ ثم يُغريه بترك الطهارة، ثم بعد ذلك يأتيه ويقول: ما فائدة الصلاة بلا طهارة، فيترك الصلاة، ثم بعد ذلك يرقص الشيطان على صدره وهامته، ويكون قد بلغ مُراده منه، فانظروا كيف يبدأ؟ بنصائح في البداية، وبثوب الناصح: أنك تحتاج إلى تطهر، وأنك لم تنطق بتكبيرة الإحرام بالوجه المطلوب، ومتى صار الشيطان ناصحًا؟ فإذا أطاعه، والتفت إليه، لعب به لعب الصبيان بالكُرة.

إذًا لا تلتفت، خواطر يُلقيها لك، وساوس يُقلقك يُزعجك، فلا تلتفت، فهذا هو الحل لأهل الإيمان، وهو حل جذري لأهل الوسوسة، ولا يحتاج إلى مُستشفى أو طبيب ولا عقاقير، لا تلتفت فإذا التفت بدأ الشيطان يعمل عمله، ويسعى سعيه.

والمقصود - أيها الأحبة - أن الله من رحمته ذكر لنا في وصف هذا الصراط، وذكر الرفيق من أجل أن نجد ونجتهد ونُشمر علنا أن نلحق بهم. 

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] فمن ذلك:

ما يُؤخذ من إضافة الصراط إلى المُنعم عليهم، وإضافة الإنعام إلى الله -تبارك وتعالى- عند ذكر صفة هذا الصراط صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فيؤخذ من هذا أن هذا الصراط المستقيم نعمة من الله -تبارك وتعالى- كما يُؤخذ منه أيضًا أن الهداية نعمة منه على عباده، وهي أعظم النِعم؛ لأنه إذا حصلت الهداية للعبد تتابعت عليه الخيرات في الدنيا والآخرة، فلا فوز ولا نعيم ولا فلاح ولا نجاح إذا كان العبد غير مُهتدٍ إلى صراط الله المُستقيم.

فهذه الهداية لا يحصلها العبد بذكائه وجُهده، ونحو ذلك، وإنما هي منحة من الله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- أعلم بأحوال خلقه وبقلوبهم وبأعمالهم، وقد أخبرنا أن من أعطى واتقى، قال عنه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [سورة الليل:7] وأخبرنا عن الآخر الذي بخل واستغنى فقال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [سورة الليل:10] وقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة:115] وأخبرنا عن أولئك الذين رفضوا الهداية أن الله -تبارك وتعالى- جازاهم بإزاغة قلوبهم، وخاطب عباده بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24].

فمن رد الهداية فقد يكون هذا الرد سببًا للحيلولة بينه وبين قلبه فلا يهتدي، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن أولئك الذين أزاغ قلوبهم بأن ذلك كان جزاء وِفاقًا وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام: 110] فيُقلب الله -تبارك وتعالى- قلوبهم عن الحق، ويصرفها عنه، ويصرف بصائرهم فلا ترى هذا الحق، والسبب في ذلك على أرجح الأقوال من أقوال المفسرين في كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: جزاء وفاقًا؛ لأنهم ردوا الحق أول مرة، فجازاهم وعاقبهم بتقليب القلوب والأبصار، فلا ترى الحق، فالله -تبارك وتعالى- هو المُنعم المتفضل والهادي إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56] فالمُعلم والمُربي والوالد إنما هو باذر يضع البذور، وقد يكون المحل غير قابل لهذا البذر، فلا يستتم، ولا يخرج منه بطائل، وتجد البنتين أو الابنين في البيت الواحد تلقوا تربية واحدة، وتجد هذا في حال من القبول والصلاح والإقبال، وتجد الآخر في غاية الانصراف والإعراض.

وهكذا تجد ذلك في المحاضن التربوية وغيرها، فالاستجابة والهداية من الله، ويكفي في ذلك ما قاله الله لنبيه ﷺ لما كان يعرض الدعوة على أبي طالب فكانت النهاية أن مات على الكفر على ملة عبد المطلب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة القصص:56] فإذا كان ربنا -تبارك وتعالى- يقول لنبيه وصفيه -عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل الخلق، وأعلم الخلق بربه، وأنصح الخلق، وأسباب الاهتداء والهداية التي هي من قبيل التعليم والإرشاد مُتحققة فيه؛ لأن ذلك يتطلب علمًا ومعرفة، فهو أكمل الناس علمًا -عليه الصلاة والسلام- ويتطلب بيانًا والنبي ﷺ أعظم الناس بيانًا، وأفصحهم لسانًا، فقد يتخلف المطلوب؛ لأن صاحب الحق لا يستطيع أن يُعبر عنه، لكن النبي ﷺ هو أفصح الأمة.

وكذلك أيضًا ما يُطلب من النُصح، وقصد الهداية للمنصوح، والرغبة في نفعه، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل الناس في ذلك، حتى كان ربنا -تبارك وتعالى- يهون عليه ما يلحقه من الحُزن، حينما يُعرض هؤلاء عن الهداية فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [سورة الكهف:6] يعني: على آثار هؤلاء الذين لا يهتدون ولا يستجيبون إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6] تأسف عليهم، وتحزن لعدم الاهتداء، وقال: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر: 8] فهذا يدل على شدة ما كان يُصيب النبي ﷺ بسبب إعراض المُعرضين.

فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد استجمعوا الأسباب التي يحصل بها كمال هداية الإرشاد، ومع ذلك سمع أقوام من النبي ﷺ وكانوا يرون الوحي ينزل عليه، ومع ذلك لم ينتفعوا به، وكم من أقوام أوتوا من الذكاء ما كان سببًا لغوايتهم وضلالهم، إذا أوتي العبد الذكاء من غير زكاء، فقد يكون هذا الذكاء سببًا للحرمان، وكذلك أيضًا كم من أقوام أوتوا من العلوم والفهوم، ولكنه ما نفعتهم، ففرحوا بما عندهم من العلم، فرأوا أنهم بذلك يستغنون عن الوحي، فكانت هذه العلوم سببًا لضلالهم وإعراضهم.

فهنا يحتاج العبد إلى أن يستبين هذه المعاني، ويعرف قدر نعمة الله عليه إذا هداه واجتباه وحباه، فهذه نعمة يتمسك بأهدابها، ولا يُفرط بها بحال من الأحوال.

ثم تأملوا قوله -تبارك وتعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] ففي الإنعام أضاف ذلك إلى الله أَنْعَمْتَ وفي الغضب لم يُضفه إليه، وإنما جاء بالفعل مبنيًا للمجهول الْمَغْضُوبِ من الذي غضب؟ هو الله الذي غضب عليهم، فمثل هذا قد يكون موضعًا للسؤال، لماذا أضاف الإنعام إلى الله، وجاء بالغضب بهذه الصيغة المبنية للمجهول؟ فلماذا لم يقل مثلاً: غير الذين غضبت عليهم، كما قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7]؟

العلماء - رحمهم الله - يُجيبون عن هذا بأجوبة منها:

أن النعمة هي الخير والفضل، كما أن الغضب من دواعي الانتقام، والله -تبارك وتعالى- يوصف بالغضب، وهي من صفاته -تبارك وتعالى- الثابتة في الكتاب والسنة، فيغضب غضبًا يليق بجلاله وعظمته، والغضب معروف، وغضبه لا يكون مُماثلاً لغضب المخلوقين، فهذا الغضب صفة مُستدعية للعقوبة والانتقام، ومعلوم أن رحمته -تبارك وتعالى- تسبق غضبه، فأضاف إلى نفسه -تبارك وتعالى- أكمل الأمرين، وأسبقهما، وأقواهما، وهو الإنعام.

وهذا كثير في القرآن: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تُضاف إلى الله -تبارك وتعالى- فيُذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يُبنى الفعل معها للمجهول، فإذا جيء بأفعال الجزاء والعدل والعقوبة حُذف الفاعل، وبُني الفعل معها للمفعول أدبًا في الخطاب، وإلا فالذي غضب عليهم هو الله، والذي يُعاقبهم هو الله، والذي ينتقم منهم هو الله، لكن من باب التأدب في العبارة، وإضافة أشرف قسمي أفعاله -تبارك وتعالى- إليه صراحة، مع أن ذلك جميعًا هو من أفعاله.

وهذا له نظائر في القرآن غير هذا الموضع، إبراهيم قص الله علينا خبره وقوله: الَّذِي خَلَقَنِي [سورة الشعراء:78] أضاف الخلق إلى الله فَهُوَ يَهْدِينِ أضاف الهداية إلى الله، كما هنا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [سورة الشعراء:79] فأضاف ذلك جميعًا إلى الله وَإِذَا مَرِضْتُ [سورة الشعراء:80] فلم يقل: وإذا أمرضني، وإنما قال: وَإِذَا مَرِضْتُ [سورة الشعراء:80] فأضاف المرض إلى نفسه، بينما أضاف الشفاء إلى الله فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء:80] مع أن المرض والشفاء كل ذلك من الله -تبارك وتعالى- لكن من باب التأدب في العبارة.

وهكذا أيضًا في غير هذا الموضع، كقول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [سورة الجن:10] فلما ذكروا الشر قالوا: أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ فجاء الفعل بالبناء للمفعول ولم يقالوا: أم أُريد بهم الرشد، وإنما قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [سورة الجن:10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الله، وحذفوا فاعل إرادة الشر، فبُني الفعل للمفعول، وهذا كما قال النبي ﷺ: والشر ليس إليك [8] يعني: أنه ليس في أفعاله شر -تبارك وتعالى- وإنما يقع الشر في مفعولاته، وأما أفعاله فكلها خير، وهي على الكمال، كما هو معروف.

وانظروا إلى قول الخضر حينما ذكر العيب للسفينة: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [سورة الكهف:79] فأضاف العيب إلى نفسه، ولم يقل: فأراد الله عيبها، وإنما قال: فأردت أن أعيبها، ولكن لما ذكر ما يتعلق بمصلحة اليتيمين، بحفظ مالهما، وكنزهما، حتى يبلغا أشدهما، ويستخرجا هذا الكنز، قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [سورة الكهف:82] فهنا لما كان هذا التلطف والرحمة وحفظ مال هؤلاء الأيتام، قال: فأراد ربك، ففي العيب أضافه إلى نفسه، وفي هذا الإفضال والإنعام أضافه إلى الله -تبارك وتعالى- المُتكفل بمصالح الخلق.

ثم أيضًا تأملوا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] كثير من الناس إذا رأى في التفسير، وكما جاء عن النبي ﷺ: أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن النصارى هم الضالون[9] ربما يتوهم أن ذلك يختص بهم، مع أننا مأمورون بقراءة الفاتحة في كل ركعة، وهذه السورة الوحيدة التي يجب على المصلي أن يقرأها، وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أنها رُكن في الصلاة، وأطلقه بعضهم فقالوا: للمأموم، والإمام، والمنفرد، أنها ركن في الصلاة في الجهرية والسرية، فهذه السورة بهذه المثابة نُرددها، فهل يكون المراد بالمغضوب عليهم اليهود فقط، وأن أهل الضلال هم النصارى فقط؟

هذا غير صحيح، وليس هو المراد بهذه الآية على سبيل الحصر، ولا شك أن اليهود هم أهل غضب، وهم داخلون في ذلك دخولاً أوليًّا، وقد فسرها النبي ﷺ بهذا، ولكن ذلك لا ينفيه عن غيرهم ممن شابههم، واتصف بشيء من أوصافهم، التي استوجبوا بها هذا الغضب، وكذلك النصارى، فيدخل في المغضوب عليهم من لم يعمل بعلمه، وترك الحق على علم، فهذا له نصيب من هذا الوصف (المغضوب عليهم) ومن عمل بلا عِلم فله نصيب من قوله: وَلا الضَّالِّينَ كما ذكر ذلك جمع من أهل العلم، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في تفسيره لسورة الفاتحة[10] وذكر ذلك غيره، حتى قال بعض أهل العلم: "من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى، ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود"[11].

فيدخل في قوله -تبارك وتعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] كل من انحرف عن الحق مع علمه به، ومن انحرف عنه بسبب جهله وتفريطه، فهو من أهل الضلال، فلا يختص ذلك باليهود والنصارى؛ ولهذا قالوا: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله أحبار اليهود، ولو نفع العمل بلا علم لما ذم الله رُهبان النصارى، فهم مذمومون لذلك، والله تعالى أعلم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "من اتبع هواه وذوقه ووجده مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة فهو من المغضوب عليهم، وإن كان لا يعلم ذلك فهو من الضالين" [12]يعني: يتبع هواه وذوقه وهو لا يعلم أنه لا يخالف الكتاب والسنة، فهو من أهل الضلال، وأولئك الذين يعلمون نصوص الكتاب والسنة، ولكنه يقول: هذه النصوص والآيات والأحاديث لا توافق عقلي، فهذا له نصيب من صفة هؤلاء أهل الغضب؛ لأنه عرف النصوص، ومع ذلك أعرض عنها.

وأما الذي يخبط في عمى، ويعمل على غير علم، فله نصيب من الضلال؛ ولذلك أقول: بأن هذا الموضوع يحتاج العبد إلى أن يتبينه؛ لأن أحوال الناس لا تخلو من ثلاثة: إما أهل الهداية، وهم أهل الإنعام، وإما أهل الضلال، فإما أن يكون على علم، فهؤلاء أهل غضب، وإما أن يكون على جهالة، فهؤلاء أهل ضلال، فالطوائف ثلاث، لا رابع لها من هذه الحيثية -والله أعلم. 

قوله -تبارك وتعالى-: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7] يبعث المؤمن على الاحتراز والحذر من الوقوع فيما وقع فيه هؤلاء، حتى صاروا أهل غضب، وأهل ضلال، فإن غير المُتحقق بسلوك الصراط المستقيم، والذي ليس عنده من اليقين والثبات ما يكون سببًا بعد هداية الله  وتوفيقه إلى رسوخ قدمه على الصراط، فإنه قد تزل به قدمه، فيصير إلى حال الغضب، حيث يتخلى عن بعض الحق وقد عرفه، أو يكون مُتبعًا للباطل على جهل منه وعمى، فيكون من أهل الضلال، فالمؤمن يحذر من مواقعة الأعمال والأحوال والأوصاف التي تُودي به إلى مثل هذه النهايات.

وهذا أيضًا يبعثه على مُجانبة هؤلاء من أهل الغضب والضلال، ولا يُعقل بحال من الأحوال أن يكون أحد ممن أنعم الله عليهم من جملة المُنعم عليهم، أهل الصراط المستقيم يتخلى عن هذه الحِلية والشارة والوِسام والتقليد الذي شرَّفه الله به الهداية إلى الصراط المستقيم، من خير أمة أخرجت للناس، الذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- على الناس أجمعين ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] وهم هذه الأمة بطوائفها الثلاث فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32].

هذه الطوائف الثلاث هم أهل الاصطفاء بما فيهم الظالم لنفسه، فكيف يتخلى المؤمن عن هذا التشريف والوصف والكمالات ويرضى لنفسه أن يكون تابعًا لأُمم يترددون بين حال الغضب وحال الضلال؟ فكثير من المسلمين اليوم في أقطار المعمورة يقتفون آثار أهل الغضب أو أهل الضلال من اليهود والنصارى، وهذا أمر لا يُعقل، كيف يكون هؤلاء قدوة وهم بين عارف للحق مُتنكب له، وبين ضال عنه لا يهتدي إليه بحال من الأحوال، والأعمى لا يصح أن يكون قائدًا ودليلاً للمُبصرين.

ومن يكن الغراب له دليلاً يمرّ به على جيف الكلاب[13].

فما ظنكم بقوم جعلوا هؤلاء دليلاً لهم يقتدون بهم، ويتشبهون بهم في أحوالهم وأعمالهم، بل وفي خصائصهم الدينية، والنبي ﷺ قد حذَّر من ذلك، فقال: من تشبه بقوم فهو منهم [14]ونهى عن مُقاربتهم، ومُساكنتهم، كل ذلك حفظًا لتميز أهل الإيمان الذين صبغهم الله بصبغته صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [سورة البقرة:138] فكل قوم لهم صبغة، والنصارى يُعمدون مواليدهم بماء أصفر، يُقال له: ماء المعمودية، يعتقدون أنه يحصل لهم بذلك التطهير.

وهكذا كل أمة تزاول عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن الله حبى هذه الأمة بالحق والهدى الكامل، فهذه صبغته التي تصبغ البواطن بالإيمان والصدق والإخلاص والتوحيد الصحيح، والاعتقاد السليم بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر، وما إلى ذلك، وأما أولئك فهم يتخبطون في أنواع الخُرافات والدجل والضلالات، ينغمسون فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40] فهؤلاء الذين حجب الله عنهم نوره، فصاروا في هذه الظلمات، كيف يُتخذ الواحد منهم أو الجمع، كيف يُتخذ هؤلاء أدلاء وقدوات يُقتدى بهم، ويُتشبه بهم، ونُحاكيهم في بدعهم وأهوائهم وضلالاتهم وأعيادهم وأزياءهم وألبستهم، وما إلى ذلك، فهذا أمر لا يُعقل، ويُخشى على من لم يعرف قدر هذه النعمة، وهي الهداية إلى الصراط المستقيم، أن تُسلب منه، فالمؤمن يخاف.

وأمر آخر -أيها الأحبة- وهو أن اليهود هم أهل الغضب، كما ذكرنا سابقًا، والنصارى أهل الضلال، وهذا علم على هؤلاء بالغلبة، فهو وصف يتوجه إليهم مُباشرة، وإن كان يدخل فيه -كما ذكرنا- من شاكلهم وشابههم ممن عرف الحق وتركه، لكن هؤلاء النصارى بعد مبعث النبي ﷺ وعرفوا الحق، ولم يتبعوه، صاروا جامعين بين الغضب والضلال، فهم أهل غضب، وفي القرون السابقة بعد مبعث النبي ﷺ هم أهل غضب وضلال، فهم عرفوا الحق، وصدق النبي ﷺ ومع ذلك كابروا، وكبيرهم (هِرقل) في خبر أبي سفيان، وهو في الصحيح [15]لما سأله تلك الأسئلة عرف صدقه وأحقية ما جاء به ﷺ ولكنه شح بمُلكه، فمن كان بهذه المثابة فهو من أهل الغضب، وأما النصارى الذي مدحهم الله بقوله: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:83] هؤلاء الجواب بعده يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:83] هؤلاء هم الذين تبعوا النبي ﷺ وليس أولئك الذين بقوا على كفرهم، فهؤلاء لهم من الضلال الوصف الكامل، ولهم أيضًا من الغضب شعبة يستحقون بها أن يوصفوا به مع اليهود، فهم أهل غضب وضلال.

وأيضًا نُلاحظ في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] أنه قدم اليهود، وهم أهل الغضب، فما هو سر هذا التقديم؟ فيمكن أن يُقال: هذا باعتبار القُرب في المكان، فاليهود كانوا في المدينة، وهم: بني قُريظة، والنضير وبني قينقاع، ويمكن أن يكون سبب ذلك الأسبقية، فاليهود قبل النصارى، فجاء ذلك على الترتيب، فذكر غير المغضوب عليهم، أو باعتبار الشدة والثِقل، فإن وصف الغضب أغلظ من وصف الضلال، فإنما من عرف الحق ثم تركه، لا شك أنه أعظم وأشد جرمًا من ذلك التائهة الذي لم يعرف الحق أصلاً، ولم يهتد إليه، فيمكن أن يكون هذا التقديم -والله تعالى أعلم- لهذه العلة، أو لغيرها، والعلم عند الله .

وقوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] بعد قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] هذا عند أهل البلاغة من قبيل الالتفات، وقد ذكرنا التفاتًا قبله، حيث جاء بضمائر الغائب في أول السورة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:2- 4] ثم كأنه حضر واقترب بين يديه لمُناجاته وسؤاله ودعائه بعد هذا الثناء، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] يعني: كأنه صار بحضرة من يسأله، ويُثني عليه، ويدعوه، فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5] فتحول من الغائب إلى الخطاب، فهذا يُقال له: التفات، وهو تنويع الأسلوب في الضمائر ونحوها، ويوجد منه أشياء غير هذا أيضًا.

وأيضًا بعده صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فهذا للمُخاطب، ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] فلم يذكر ضمير الخطاب، وإنما أبهم ذلك، وبنى الفعل للمفعول، (المغضوب) وقلنا: إن هذا تأدب في الخطاب، حيث لم ينسب إليه الغضب، وإنما نسب إليه الإنعام، وذكرنا نظائر هذا في كتاب الله -تبارك وتعالى.

ثم يُلاحظ أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آخر الآية الأولى حرف النون، وهذه الفاصلة، وفي الرحيم بالميم، والدين بالنون إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بالنون اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] بالميم صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بالميم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7] بالميم وَلَا الضَّالِّينَ بالنون، فتناسبت هذه الفواصل في هذه السورة على حرفين، الميم والنون، وبعض سور القرآن على حرف واحد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1- 4] وبعض السور على أكثر من ذلك، فهذا التنويع يكون فيه تشنيف الأسماع، بسبب اتفاق ذلك الكلِم في حروفه الأخيرة، فـالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:3] قبله ياء قبل الميم مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] هي مُقاربة لها إلا أن الحرف الأخير هو الذي تغير، فوقعها في السِمع مُتقارب، فمثل هذا هو من صروف البلاغة.

وأيضًا نجد في القرآن أشياء تكون مُجملة، ثم يأتي تفصيلها في مواضع أخرى، يعني: مثلاً في قوله -تبارك وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [سورة النحل:118] فما هذا الذي قصه؟ وما الذي حرمه؟ أجمله وأبهمه، فجاء ذلك مُبينًا في السورة الأخرى المكية، وهي سورة الأنعام، في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] فهذا تفصيل لقوله في سورة النحل: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [سورة النحل:118].

فالقرآن يُفسر بعضه بعضًا، وكما قال الشاطبي -رحمه الله- بأن السور المكية محمول بعضها على بعض[16] يعني يُفسر بعضها بعضًا، فهذه سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل، فنجد فيها تفسيرًا لأشياء في سورة النحل، والقرآن المدني محمول على المكي أيضًا، فهو يُبين مُجملات فيه، كما قال الله مثلاً في سورة الأنعام، وهي مكية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] فهذا الزكاة على الأرجح، ما هذا الحق؟ وما القدر المُخرج فيه؟ جاء ذلك مُبينًا ومُفصلاً في مواضع أخرى بعد ذلك، فالقرآن المدني يُحمل على القرآن المكي، ويكون ذلك بيانًا له، وتفصيلاً لمُجملاته، ونحو ذلك.

فهذه السورة (سورة الفاتحة) يقول العلماء -رحمهم الله: بأنها اشتملت على مضامين القرآن الكريم، ومقاصده، وموضوعاته، والفرق بين مقصود السورة وموضوع السورة، السورة قد تكون ذات موضوع واحد، وقد تكون ذات موضوعات مُتعددة، يعني حينما ننظر في سورة كسورة الفلق، فإنها تتحدث عن موضوع واحد، وهو الاستعاذة من الشرور كلها، وسورة الناس تتحدث عن موضوع واحد، وهو شر هذا الذي يوسوس في صدور الناس، لكن حينما ننظر مثلاً في سورة القيامة، نجد أنها في صدرها تتحدث عن القيامة، ثم بعد ذلك تحدثت عن قضايا أخرى، كالوحي، كما في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۝ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۝ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [سورة القيامة:16- 19] ثم تحدثت بعد ذلك عن موضوع آخر كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ۝ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [سورة القيامة:20- 21] ثم بعد ذلك ذكر أحوال الناس في ذلك اليوم الآخر، فهي تتحدث عن موضوعات مُتعددة.

فموضوع السورة قد تكون ذات موضوع واحد، وهي القضايا التي تناولتها السورة، فهذا موضوعات السورة.

وأما مقصود السورة فذلك هو الجامع المُشترك إن وجد بين أجزاء السورة كلها، أو يكون ذلك مُتعددًا باعتبار أن السورة لها أكثر من مقصد، فالجامع المُشترك، والغاية والرسالة في النهاية هذا يُقال له: مقصود السورة، فحينما مثلاً نقرأ سورة المُمتحنة، مقصود السورة ما هو؟ تقرير عقيدة الولاء والبراء، وسورة الجمعة: بيان الاجتباء والاصطفاء الذي حصل لهذه الأمة مثلاً، فهو الجامع المشترك بين القضايا المذكورة فيها.

وابن القيم -رحمه الله- تحدث عن سورة العنكبوت وتحدث عن مقصودها الأوحد وهو الابتلاء، لكن جاء هذا في صدرها، وذكر الله فيها قصص الأنبياء، فقال: قصص الأنبياء هذه سير في الابتلاء، وأن هؤلاء خيار الناس، وقد وقع لهم ما وقع من الابتلاء، فهذه نماذج من ابتلاء خيار الخلق، فهذا الفرق بين موضوع السورة، ومقصود السورة.

فسورة الفاتحة هذه جاء فيها إجمال لموضوعات القرآن ومقاصده أيضًا، فذكر فيها أنواع التوحيد لله -تبارك وتعالى- وذكر فيها ما يتصل بالإيمان بالملائكة، والكتب، والرُسل، واليوم الآخر، وتحدث فيها عن أحوال الناس في الدنيا، وعن أحوالهم في الآخرة، إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات، والأصول الكِبار موجودة في هذه السورة، وتفاصيل الصراط المستقيم، وبيان الشريعة من أولها إلى آخرها موجود في هذه السورة، من أين يؤخذ تفاصيل الشريعة من أولها إلى آخرها؟

من قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] وما هو الصراط المستقيم؟ هو الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، وما الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه؟ هي الشريعة بكاملها، فهذا صراطه المستقيم، فكل ما في القرآن من بيان الشريعة، وما يشرحها من سنة رسول الله ﷺ هي تفاصيل هذه الجملة "الصراط المستقيم" لاحظتم هذه السورة التي نقرأها في كل ركعة، كيف اشتملت على هذه القضايا جميعًا من مقاصد القرآن وموضوعاته؟!

وفي سورة البقرة تجد التفاصيل لهذه المُجملات في كثير منها، وكذلك آل عمران، وقد ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السور الفرائض والشرائع العِظام، وذكر فيها أيضًا القرون المُكذبة، وجاء ذلك في الأنعام والأعراف، وغيرها، فالشاهد أن هذه السور هي تفصيل لما أُجمل في سورة الفاتحة، فحُق لسورة بهذه المثابة أن تُقرأ في كل ركعة، وأن يُرددها المسلمون في كل يوم سبعة عشر مرة فرضًا، وحُق للقلوب أن تخضع وتخشع عند قراءتها، لا أن يُتعجب ممن خشع وهو يقرأ سورة الفاتحة، ويأتي ذلك السؤال البائس: لماذا بكى الإمام حينما قرأ سورة الفاتحة؟ وهل يبكي أحد عند قراءة سورة الفاتحة؟ فهذا السؤال لا يرد بحال من الأحوال ممن عرف ما تضمنته هذه السورة من الهدايات والحقائق.

  1.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (2663) والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (10254) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: (2328). 
  2.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 45).
  3.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46). 
  4.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46).
  5.  لم أجده من وصية أحمد لابنه وإنما هو في الورع لأحمد رواية المروزي (ص:127): قلت لأبي عبد الله: إن الفضيل يروى عنه أنه قال: لا يزال الرجل في قلوبنا حتى إذا اجتمع على مائدته جماعة زال عن قلوبنا، قال: دعني من بنيات الطريق، العلم هكذا، يؤخذ انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه. 
  6.  هو في المبدع في شرح المقنع (8/ 320): قال: قال ابن المنذر: وما روي عن عثمان أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين، لا أعلمه ثابتًا عنه، وكيف يجوز أن يثبت عثمان كلامًا بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره.
    وهو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:34): وقال عثمان بن عفان 
    t: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن.
    وينظر أيضًا: الاستقامة (2/ 257) ومجموع الفتاوى (28/ 151). 
  7.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 46).
  8.  أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم: (771). 
  9.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (20351) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح". 
  10.  تفسير سورة الفاتحة (ص: 53) ط دار الحرمين، ت: فهد الرومي.
  11.  هذا قول سفيان عيينة ينظر: إغاثة اللهفان (1/ 32).
  12.  الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 194). 
  13.  البيت غير منسوب لقائل في حياة الحيوان الكبرى (2/ 244) والمستطرف في كل فن مستطرف (ص: 43). 
  14.  أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة برقم: (4031) وقال الألباني: "حسن صحيح". 
  15. أخرجه البخاري في كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ ؟ برقم: (7) ومسلم في المغازي الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل برقم: (1773). 
  16.  (الموافقات (4/ 275).