يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم - والحالة هذه - لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء، ولهذا قال: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ الآية، أو لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم. رواه أبو داود[1]، وهذا كقوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ [سورة الإسراء:11] وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ الآية: هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
قال الحافظ - رحمه الله -: "فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم"، فهذا معنى استعجالهم في الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ فهم يستعجلون الخير ويستعجلون الشر، ومن استعجالهم الشر وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، ويدخل فيه دعاء الإنسان على نفسه، أو على ولده، أو نحو هذه الأمور، فقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ يعني كما يعجل لهم الخير، وليس استعجالهم بمعنى كما يستعجلون الخير ويطلبون حصوله عن وقت قريب، فهناك فرق بين ما قد يُتوهم من ظاهر الآية وبين المعنى المراد، وإلا فلو كان المقصود استعجالهم أي: كما يستعجلون هم ويطلبون الخير عاجلاً، لكان المعنى غير واضح، فوضْع الاستعجال موضع التعجيل يشعر بسرعة إجابته لما يطلبون، حتى كأن استعجالهم بالخير صار تعجيلاً، والذي عليه عامة أهل اللغة: أن المعنى كتعجيلهم بالخير، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي: لهلكوا، وقوله: فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ لا يرجون لقاءنا، يمكن أن يفسر بمعنى الخوف، ويمكن أن يفسر بمعنى التوقع أو الطمع، وفِي طُغْيَانِهِمْ أي: في تطاولهم ومحادتهم وعتوهم على الله - تبارك وتعالى -، يَعْمَهُونَ أي: يتحيرون في كفرهم وضلالهم وتكبرهم.
- هو جزء من حديث طويل عند مسلم برقم (3014)، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، ورواه أبو داود واللفظ له برقم (1532)، كتاب الوتر، باب النهي عن أن يدعو الإنسان على أهله وماله، وصححه ابن حبان في صحيحه (13/51)، برقم (5742)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1371).