يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر، كقوله: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [سورة فصلت:51] أي: كثير، وهما في معنى واحد، وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها، وأكثَرَ الدعاء عند ذلك، فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء، مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ثم ذم تعالى مَن هذه صفتُه وطريقته فقال: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنىً من ذلك، كقوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة هود:11]، وكقول رسول الله ﷺ: عجباً لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وإن إصابته سراء فشكر كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن[1].
الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: حمل هذه الآية والتي قبلها على المؤمن والكافر، وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ لعموم الناس، الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ فهذا يقع من المؤمنين ويقع من الكافرين في الدعاء على النفس والولد وما أشبه ذلك، وكذلك وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ هذه طبيعة الإنسان، وهذا يقع من المؤمنين، وذلك لا يختص بالكفار، ومن الآيات ما يكون مختصاً بالكفار، ومنها ما يشمل هؤلاء وهؤلاء، مثل قوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [سورة الإسراء:11]، شاملة للمسلمين والكفار، وقوله: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6-7]، هذا يشمل هذا وهذا إلا من رحمه الله ولطف به، ومن الآيات ما يكون مراداً بها الكفار، واللام في قوله: وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ يحتمل أن تكون للتوقيت، - والأقرب والله أعلم - أنها بمعنى (على)، دَعَانَا لِجَنبِهِ أي: على جنبه، ويحتمل أن تكون (أو) في قوله: دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا بحسب حاله إذا أصابه الضر، وهو قائم أو قاعد دعا بحسب الحال، ويحتمل معنى آخر وهو - الأقرب والله أعلم - أن المراد دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا أي: في الأحوال كلها يدعو وهو قائم وقاعد، فلا يفتر لسانه من الدعاء والتضرع إلى الله أن يكشف ما به من ضر، وهذا هو الموافق لحال الإنسان كما لا يخفى، دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا ولم يذكر أحوالاً أخرى كالسجود والركوع، باعتبار أن هذا هو الغالب، فالإنسان يكون إما قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً، وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ مر: يحتمل أن يكون بمعنى مضى، كأن لم يدع كقوله: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ [سورة الزمر:8]، يغفل بل لربما لو ذُكّر بالعلة والمرض الذي أقلقه وأزعجه لربما نسيه، ولم يتذكر، فالإنسان تمر عليه أحوال من الضر والبأس، ويحصل له من الانزعاج والقلق والاضطراب الشيء الكثير، ولربما يُذَّكر به بعد سنوات ولا يذكره، ويحتمل أن يكون مَرَّ بمعنى استمر على كفره، أو إعراضه أو ضلاله أو معصيته، وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -، كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يحتمل أن يكون الشيطان هو المزين، فالشيطان يزين لهم أعمالهم كما أخبر الله في مواضع متعددة في القرآن، ويحتمل أن يكون المزين النفس الأمارة بالسوء، فهي تزين لصاحبها المنكر وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [سورة يوسف:53]، ويحتمل أن يكون الذي زين لهم هو الله زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ [سورة النمل:4] أي: أبهمه.
- رواه الإمام مسلم من حديث صهيب بلفظ: قال رسول الله ﷺ: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، برقم (2999)، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير.