يقول تعالى: لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقوّل على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟، فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد ﷺ وبين مسيلمة الكذاب، لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حِندس الظلماء.
فمِن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد ﷺ وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي: لا أحد أظلم، والاستفهام إذا كان مضمناً معنى النفي فإنه يدل على أنه قد بلغ في الظلم غايته، لا أحد أظلم، كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]، يعني: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [سورة السجدة:22] وغير ذلك، فيمكن الجمع بين هذه الآيات وَمَنْ أَظْلَمُ بأن أفعل التفضيل تمنع الزيادة ولا تمنع التساوي، فيمكن أن يشترك هؤلاء المذكورون بكونهم قد بلغوا أعلى درجات الظلم، فهي لا تمنع التساوي، كقولك: أشجع الناس زيد، وفي مناسبة أخرى يمكن أن تقول: أشجع الناس عمرو وهكذا، ولا منافاة بين قولك الأول وقولك الثاني باعتبار أن هؤلاء قد بلغوا، لكن لا يزيد أحدهم على الآخر في هذه الصفة، ويمكن الجمع أيضاً بين الآيات بأن يقال: إن هذا يختص في كل مقام بالصفة المذكورة، ففي المفترين لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المانعين لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وفي المعرضين، لا أحد أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها وهكذا، وقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا الافتراء: هو الاختلاق والكذب، ووجه مجيء لفظة الكذب بعد الافتراء في قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يمكن أن يكون ذلك للتأكيد كما يقال: الصراط المستقيم، ومعلوم بأن الصراط أصلاً لا يطلق إلا على الطريق المستقيم، فأتى بلفظ المستقيم بعده من باب أنها صفة كاشفة وليست صفة مقيِّدة بخلاف ما إذا قلت: الطريق، فالطريق قد يكون مستقيماً وقد لا يكون مستقيماً، فإذا قلت: الطريق المستقيم، فهذه الصفة أفادت قيداً في هذا الموصوف، فالشاهد أن قوله: افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا يمكن أن يجاب عنه بمثل هذا الجواب، وهذا لا إشكال فيه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، ويمكن أن يقال: إن الافتراء قد يكون من جهة نسبة الشيء إلى غير من صدر عنه ، فمثلاً تنسب إلى هذا جرم هذا، أما افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا فهذا مختلق من أصله، هكذا يذكر بعض أهل العلم في الجواب عن مثل هذا، وهو لا يحتاج إلى الجواب - والله أعلم -، فقوله: افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا من باب تحقيق هذا الأمر وتقرير هذا الوصف وتأكيده، كما يقول الله : وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ [سورة آل عمران:112] ولا يمكن يقتل الأنبياء بحق، ولكن هذا من باب التسجيل عليهم هذا الأمر وبيان شناعة جرمهم، وكقوله - تبارك وتعالى -: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [سورة المؤمنون:117]، فلا يمكن لأحد أن يفهم بمفهوم المخالفة بأن يقول: إن الذي يدعو مع الله إلهاً آخر له به برهان فإنه لا يلحقه حرج.
عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فهو ما رأى معجزة، وإنما بمجرد ما رآه عرف أن وجهه ليس بوجه كذاب، كذلك حينما سمع كلامه يأمرهم بإطعام الطعام وصلة الأرحام ... إلى آخره، فبهذه الدلائل النبوية عَرف نبوته ﷺ، وآمن به أقوام بناء على هذه الدلائل، وهذا الذي جاء في الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح تسميته بآيات الأنبياء، يقال له: آيات الأنبياء، ومن الآيات ما هو معجز مثل انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه ، وما شابه ذلك، ومنها ما ليس بعجز، وكل ذلك داخل في آيات الأنبياء، وقد يسميه بعض المتقدمين بدلائل النبوة، ثم ما كان خارقاً للعادات فيما يقع للأنبياء في عرف المتأخرين يقال له المعجزات، وما يقع لأتباعهم يقال له: كرامات الأولياء، وكل ذلك عائد إلى آيات الأنبياء، وقال هود لقومه متحدياً: إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله [سورة هود:54-56] رجل يتحدى أمة، هذا ليس من خوارق العادات، ولا من المعجزات، ولكنه من دلائل النبوة، شدة الوثوق بما عنده من الحق وتيقنه وما أشبه هذا، كل هذه الأمور هي من دلائل النبوة.
وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقاً له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم - يعني رسول الله ﷺ - في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة، فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [سورة العصر:1-2] إلى آخر السورة، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأنا قد أنزل عليّ مثله، فقال: وما هو؟ فقال: يا وبْر يا وبْر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفْرٌ نقْرٌ، كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد ﷺ وصدقه، وحال مسيلمة - لعنه الله - وكذبه، فكيف بأولي البصائر والنهى، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحِجا؟؛ ولهذا قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ [سورة الأنعام:93]، وقال في هذه الآية الكريمة: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه الحجج لا أحد أظلم منه.
- رواه ابن ماجه برقم (1334)، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، والترمذي بمعناه برقم (1855)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، كتاب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل إطعام الطعام، وأحمد في المسند (39/201)، برقم (23784)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7865).
- رواه البخاري برقم (63)، كتاب العلم، باب ما جاء في العلم.