الجمعة 27 / صفر / 1447 - 22 / أغسطس 2025
وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ۝ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة يونس:59-60].
قال ابن عباس - ا - ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يُحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايا، كقوله تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [سورة الأنعام:136] الآيات.
وروى الإمام أحمد عن مالك بن نضلة قال: أتيت رسول الله ﷺ وأنا رثُّ الهيئة، فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم، قال: من أي المال؟، قال: قلت: من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم، فقال: إذا آتاك الله مالاً فلْيُرَ عليك، قال: هل تنتج إبلك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر، وتشق جلودها وتقول: هذه صُرُم، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟، قال: نعم، قال: فإنّ ما آتاك الله لك حل، ساعد الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك[1] وذكر تمام الحديث، وهذا حديث جيد قوي الإسناد.
وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم الله بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة؟.
وقوله: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ قال ابن جرير: في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا، قلت: ويحتمل أن يكون المراد لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم، ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضاً حلالاً وبعضاً حراماً، وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم.

فقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً هذا الاستفهام يفيد الإنكار، وإنزال الرزق، يعني الرزق الذي جعلوا منه حراماً وحلالاً، كما ورد في هذا الحديث، وما ورد في سورة الأنعام وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ  [سورة الأنعام:138]، فما يفعلونه في حروثهم، وزروعهم وأنعامهم من ترهات الجاهلية في التحريم والتحليل بغير برهان من الله - تبارك وتعالى - فهو داخل في هذا، فقوله: مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ إنزال الرزق باعتبار أن خزائن الرزق بيد الله -تبارك وتعالى-، وكما قال الله : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء [سورة الشورى:27]، فهو الذي ينزل الرزق، ولا إشكال في الحرث والأنعام والتعبير عنهما بالنزول، فأصل هذه المادة النزول من أعلى إلى أسفل، حتى إن بعض أهل العلم قال في قول الله - تبارك وتعالى -: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد:25]: نزل من السماء، وكذا في قوله: وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر:6]، إما باعتبار أن الله أنزل أصلها من السماء، أو باعتبار أن ذكورها تنزو على إناثها، أو باعتبار أن المولود حينما يقع منها على الأرض، وهذا كله فيه معنى النزول.
فخزائن الأرزاق كلها بيد الله كما في قوله: وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء  [سورة الشورى:27]، ومن أهل العلم من يقول: إن الله ينزل الغيث فتحيا به الأرض ويرعاه الحيوان.

  1. رواه أحمد في المسند (25/223)، برقم (15888)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، بلفظ: أتيت النبي ﷺ وأنا قشف الهيئة... الحديث، والحاكم في المستدرك (4/201)، برقم (7364)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (19/277)، برقم (608).