يخبر تعالى نبيه ﷺ أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، كقوله: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [سورة الأنعام:59]، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] الآية، وقال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [سورة هود:6] الآية، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟، كما قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [سورة الشعراء:217-219] ولهذا قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [سورة يونس:61] أي: إذ تأخذون في ذلك الشيء، نحن مشاهدون لكم راءون سامعون، ولهذا قال ﷺ لما سأله جبريل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[1].
قوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ الضمير في مِنْهُ يحتمل أن يرجع إلى الشأن، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ باعتبار أنه أقرب مذكور، وهو الوحيد في اللفظ الذي يمكن أن يرجع إليه الضمير بالنظر إلى الألفاظ المعبر بها، وبهذا قال بعض أئمة اللغة كالزجّاج، وأحسن من هذا - والله تعالى أعلم -: أنه يرجع إلى معلوم من السياق وإن لم يكن مصرحاً به، وهو الكتاب، فالضمير أحياناً يرجع إلى ما يفهم من السياق، وإن لم يرد له ذكر، وهذا كثير في القرآن كقول الله : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1] فالضمير يرجع إلى القرآن، ولم يسبق له ذكر، فالضمير في قوله: مِنْهُ أي: من الكتاب، فقوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ يعني: من الكتاب، وما تتلو من آي، ما تقرأ من القرآن إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، والخطاب في قوله: وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يحتمل أن يكون للنبي ﷺ وأمته تبع له في ذلك؛ لأن الخطاب في أوله جاء على سبيل الإفراد وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ يعني يا محمد ﷺ، وأمته تبع له في هذا، ثم بعد ذلك جاء الضمير بصيغة الجمع وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وكقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق:1] بصيغة الجمع مع أن أول الخطاب صريح بأنه موجه للنبي ، فالنبي ﷺ يخاطَب ويكون هذا الخطاب موجهاً لأمته، وهذا في كثير من المواضع من القرآن، كقوله - تبارك وتعالى -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [سورة الإسراء:23]، والنبي ﷺ مات أبواه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو صغير، فحينما نزلت عليه هذه الآيات لم يكن منهم أحد على قيد الحياة، فالخطاب موجه للأمة، فصيغة الجمع في قوله وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يمكن أن يُقال: إنه جاء على سبيل التفخيم والتعظيم للنبي ﷺ فجاء بصيغة الجمع، ولا حاجة لهذا؛ لأن الخطاب متوجه للأمة، كما سبق، ومن أهل العلم من يقول: إن الخطاب موجه للمشركين، إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ بعضهم يقول: المراد به القرآن، بمعنى أنهم يخوضون خوضاً باطلاً في القرآن، فيقولون فيه ما لا يليق من أنه سحر أو كهانة أو شعر أو نحو هذا، وهذا وإن قال به بعض أهل العلم إلا أنه بعيد؛ لأن الضمير في قوله: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يرجع إلى أقرب مذكور وهو العمل، أي تفيضون في هذا العمل، وظاهر الخطاب موجه إلى النبي ﷺ ولأمته، ولو كان هذا الخطاب يقصد به أهل الإشراك وأن الإفاضة في هذا العمل هي الخوض في القرآن بالاستهزاء وما أشبه ذلك لما كان الخطاب بهذه الصيغة، ولقال الله مثلاً: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا يعملون من عمل إلا كنا عليهم شهوداً إذ يفيضون فيه، فالخطاب جاء على نسق واحد وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ والنبي ﷺ وأصحابه لم يكونوا، حاشاهم من مثل هذا، والمقصود بالإفاضة في العمل المشار إليه، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [سورة الطلاق:12]، وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ [سورة التوبة:105] فيرى العباد ويعلم متقلبهم ومثواهم، وكل عمل صغير أو كبير فالله شاهد على خلقه فيه، وهذا من معاني اسمه الشهيد، فهو مشاهد لخلقه شاهد على أعمالهم مطلع عليها، محيط بهم، والفرق بينه وبين العليم، أن الشهيد فيه معنى الحضور، وهذا قدر زائد على مجرد العلم.
- رواه البخاري برقم (50)، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، ومسلم برقم (8)، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله .