يقول تعالى لنبيه - صلوات الله وسلامه عليه - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: أخبرهم واقصص عليهم، أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك نَبَأَ نُوحٍ أي: خبره مع قومه الذين كذبوه، كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم؛ ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي: عظُم عليكم، مَقَامِي أي: فيكم بين أظهركم، وَتَذْكِيرِي إياكم بِآيَاتِ اللَّهِ، أي: بحججه وبراهينه.
قال الحافظ - رحمه الله - في قوله - تبارك وتعالى -: مَقَامِي: "أي فيكم وبين أظهركم"، المَقام بالفتح هو موضع الإقامة، وبالضم المُقام بمعنى الإقامة، إقامتي، إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي يعني: موضع الإقامة، وبالضم بمعنى الإقامة، ويحتمل أن يكون المراد أيضاً النفس؛ لأن ذلك يعبر به عنها، تقول: مقام فلان إلى مقامكم، ونحو هذا، ويعبر به أحياناً عن المكث - والله أعلم -، وهذه المعاني بينها ملازمة، وإنما شق عليهم ذلك؛ لقيامه عليهم بالدعوة إلى التوحيد، فكبُر عليهم ما يدعوهم إليه.
قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ قال الحافظ – رحمه الله -: "فاجتمعوا"، وأجمعوا بمعنى اعتزموا، تقول: أجمع أمره يعني عزم، أجمع أمره على كذا، بمعنى عزم عليه، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ قال: الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن.
قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي: اعزموا عليه، وَشُرَكَاءَكُمْ نصب بفعل مقدر محذوف يصلح لمثل هذا؛ لأن هؤلاء الشركاء لا يحصل منهم العزم، فيكون فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وادعوا شركاءكم، ويدل على هذا المعنى قراءة أُبَيّ، وهي قراءة ليست متواترة، "فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم" وذكرنا من قبل أن القراءة الأحادية يستفاد منها ثلاث فوائد، من هذه الفوائد: أنها تفسر القراءة المتواترة، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فالله يقول مثلاً في سورة الحشر: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [سورة الحشر:9]، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ تبوءوا بمعنى نزلوا واستوطنوا، يعني سكنوا الدار، من اتخاذ المباءة تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ الإيمان لا يُسكن، فعبر عنهما بفعل واحد وهو التبوُّء، فيمكن أن يكون تَبَوَّءُوا الدَّارَ يعني سكنوا الدار واعتقدوا الإيمان أو: ولزموا الإيمان، كقول الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى | متقلداً سيفاً ورمحاً |
والتقلد إنما يكون للسيف، وهي طريقة معروفة عند العرب، يعني يجعلون للسيف حمائل ويضعونه في الرقبة ويتقلدونه، والعجم يربطونه بحزام في جانبهم كما هو معروف، والرمح يحمل باليد، فقال: متقلداً سيفاً ورمحاً، والتقدير متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً، على كل حال وَشُرَكَاءَكُمْ أي وادعوا شركاءكم، ويدعونهم تبكيتاً لهؤلاء العابدين.
قال الحافظ - رحمه الله -: "لا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً"، ويحتمل أن يكون المعنى: أي ظاهراً منكشفاً، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فالشيء الذي يغم غيره يكون مغطياً له، ولهذا قيل الغم لاغتمام القلب، كأنه يغطيه، فلا يكون في الإنسان، فلا يتفكر بطريقة صحيحة، لكثرة ما يغطي قلبه من الغم، ولهذا قيل: الغمام - لهذا المعنى - التغطية، كأنهما غمامتان أو غيايتان[1] فكل ما غيب الإنسان وغطاه فهو غيابة وغياية، ومنه غيابة الجب، فالغمة من غمه إذا غطاه، يعني لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: فليكن ظاهراً منكشفاً.
هنا ما فسر قولَه - تبارك وتعالى -: ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ ما معنى اقضوا إلي؟ اقضوا إلي يمكن أن يكون فسر القضاء هنا بمعنى الفراغ، يعني افرغوا إلي، ويمكن أن يكون بمعنى امضوا إلي.
- هو جزء من حديث رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي ولفظه: اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخْذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة، برقم (804)، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.