الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ۝ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ۝ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [سورة يونس:79 – 82].
ذكر الله سبحانه قصة السحرة مع موسى في سورة الأعراف، وقد تقدم الكلام عليها هناك وفي هذه السورة، وفي سورة طه وفي الشعراء، وذلك أن فرعون لعنه الله أراد أن يبهرج على الناس ويعارض ما جاء به موسى من الحق المبين، بزخارف السحرة والمشعوذين، فانعكس عليه النظام ولم يحصل له ذلك المرام، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ۝ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأعراف:120- 122] ، فظن فرعون أنه سينتصر بالسُّحار على رسول الله عالم الأسرار، فخاب وخسر الجنة، واستوجب النار.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ۝ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وُعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا [سورة طه:65- 66]، فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ۝ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ۝ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [سورة طه:67 – 69] فعند ذلك قال موسى لما ألقوا: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ۝ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.

قوله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ في قراءة أخرى متواترة هي قراءة حمزة والكسائي، ائْتُونِي بِكُلِّ سَحارٍ فهذه القراءة تفسر قراءة الجمهور سَاحِرٍ فالسَّحار هو كثير السحر، صيغة مبالغة، العليم بالسحر، المتمهر المتمرس في السحر بِكُلِّ سَحارٍ عَلِيمٍ، وقوله: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما جئتم، "ما" هذه موصولة بمعنى الذي، أي الذي جئتم به هو السحر، ثم قال: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ يحق الله الحق بلكماته، والكلمات: من أهل العلم من فسرها بالكلمات الشرعية، أي: الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله مثل التوراة أنزلها على موسى يُحق بها الحق، يبيّن فيها الهدى من الضلال، والحق من الباطل هذا معنى تحتمله الآية، فالكلمات تصدق على الكلمات الشرعية، ولا شك أن الله يحق بها الحق، يفصل فيها بين الحق والباطل ولهذا سمى القرآن بالفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمات: الكلمات الكونية، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ يعني الكونية، ومن ذلك ما حصل من عصا موسى ﷺ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى، فهذا من كلماته الكونية، يعني ما حصل من أن العصا تحولت إلى حية، وأنها صارت تلقف ما يأفكون فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:118]، فهذا كله بتقدير الله وقضائه فخاب هؤلاء، وغلبوا بأمر الله - تبارك وتعالى -، وظهر الحق للناس، ويمكن أن يراد بالكلمات المعنيان: يحق الله الحق بكلماته الشرعية، وبكلماته الكونية، ويمكن أن تكون مراده في الحديث: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق[1]، يمكن أن تكون الاستعاذة بكلماته الشرعية، أي القرآن، ويمكن أن يراد بذلك الكلمات الكونية، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [سورة النحل:40] والأرجح أن المراد بها في الحديث الكلمات الكونية؛ لأنه جاء تفسير هذا أيضاً: التي لا يجاوزها بر ولا فاجر[2]، ويمكن حمل ذلك على الآيات الشرعية، ولكن حمله على الآيات الكونية أولى، فالله لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو المناسب في الاستعاذة أن الإنسان يريد بهذه الاستعاذة أن يحفظه الله، وأن يحميه من المخاوف فيكون ذلك بالكلمات الكونية، وتعليق الحافظ ابن كثير - رحمه الله - على قوله - تبارك وتعالى -: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا يقول: "فأراد موسى ﷺ أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم"، الذي يعلق بأذهان الناس هو المشهد الأخير، قد يؤتى بشيء فيه آية وبرهان في البداية ثم تأتي بعده أشياء تشغل الناس وتشوش على أذهان هؤلاء، ويكون آخر ما يصادف أذهانهم الباطل، فالأنسب أن يكون الحق هو آخر ما يشاهدون، فألقى هؤلاء السحرة كل ما عندهم واستنفذوا قدرهم وطاقاتهم، ثم ألقى موسى العصا فإذا هي حية عظيمة تلقف هذه الأشياء جميعاً، فكان الحق هو آخر ما حصل في هذا الموقف.

  1. رواه مسلم برقم (2708)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، من حديث خولة بنت حكيم ا.
  2. رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/50)، برقم (23599)، كتاب الطب، في الرجل يفرغ من الشيء، تحقيق: كمال يوسف الحوت.