الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِۦ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [سورة يونس:83].
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى  - مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات - إلا قليل من قوم فرعون من الذرية، وهم الشباب على وجَلٍ وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر؛ لأن فرعون - لعنه الله - كان جباراً عنيداً، مسرفاً في التمرد والعتو، وكانت له سطوة ومهابة، تخاف رعيته منه خوفاً شديداً، قال العوفي عن ابن عباس - ا -: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ قال: فإن الذرية التي آمنت بموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه، وأما بنو إسرائيل فالمعروف أنهم كلهم آمنوا بموسى واستبشروا به، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه، ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر، فلم يُجدِ عنه   شيئاً، ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:129].

قوله - تبارك وتعالى -: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ الضمير - الهاء - في قَوْمِهِ هل يرجع إلى موسى أي: ذرية من قوم موسى من الإسرائيليين، أو يرجع إلى فرعون؟، فإذا قلنا: إن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور كما هو الأصل، فإنه يرجع إلى موسى ، وهذا خلاف قول ابن كثير - رحمه الله -، فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ، لكن يشكل هذا، باعتبار أن الإسرائيليين كما قال ابن كثير - رحمه الله - آمنوا بموسى وكانوا يعرفون صفته وينتظرون أصلاً مجيئه، ففرحوا به وسروا بهذا؛ لأن خلاصهم سيكون على يده، فالشاهد أن هذا الملحظ هو الذي جعل بعض أهل العلم يقول: إن الضمير يرجع إلى فرعون، وإذا قلنا: إن الضمير يرجع إلى موسى ﷺ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ فإن هذا قد يفهم منه أن الذين آمنوا بموسى ﷺ هم قلة من الإسرائيليين، مِّن قَوْمِهِ من قوم موسى ، ولم يؤمنوا كلهم، ويمكن أن يُخرج من هذا الإشكال بما ذكره بعض أهل العلم أن الضمير يرجع إلى موسى ، وأن الإسرائيليين آمنوا به، إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ كما قال بعض السلف: إن الذين آمنوا به هؤلاء الذرية المقصود بهم من أدركوا نبوته، وبعثته؛ لأن الإسرائيليين كان فرعون يضطهدهم، وكانوا ينتظرون مجيء موسى ﷺ، فهلك منهم كثير قبل مجيء موسى ، مات الأجداد والآباء وأدرك بعثَ موسى ﷺ ذريةٌ من هؤلاء القوم فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ فعلى هذا الأساس: الإسرائيليون جميعاً آمنوا به، والضمير يرجع إلى موسى ﷺ، فما أدركه المتقدمون منهم مع طول انتظارهم، وإنما أدركه المتأخرون الأحفاد الذرية، وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن الله قال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ أولئك الذين ما أدركوه لم يطالَبوا باتباعه أصلاً، لكنهم كانوا يؤمنون بمجي نبي بالصفة التي عرفوها، فهل في مثل هذا يقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الضمير يرجع إلى فرعون، إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ وبعضهم فسر الذرية بالقلة، وبعضهم فسرها: بأنهم من أبناء هؤلاء الفراعنة، آمنوا به وهم في حال من الخوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وقوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُم، ملئهم هنا جاءت بصيغة الجمع، ولم يقل: وملئه أن يفتنهم، وَمَلَئِهِمْ فالهاء ضمير يرجع إلى الإسرائيليين، فالذين آمنوا هم الإسرائيليون، وهذا بعيد، إلا إذا قلنا: إن الذين آمنوا من الإسرائيليين، وأن كبراءهم لم يؤمنوا؛ بسبب خوفهم من فرعون من جهة، وخوفهم من وجهائهم وكبرائهم من جهة أخرى، وهذا فيه بعد، وقيل لهم ملأ؛ لأنهم يملئون صدور المجالس، و يتمالئون على الأمر، والراجح أن المقصود بهم الكبراء والناس الذين لهم شأن، أهل الوجاهة وأهل الحل والعقد، وهم الذين يذكرهم الله مع ذكر فرعون في آيات كثيرة، كقوله: وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى [سورة الأعراف:127]، فمن أهل العلم من فسر فرعون بالفراعنة، فقال: إنه عبر بفرعون عن قومه، فقال: المقصود: عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ يعني من آل فرعون، فعبر به عن قومه، وملئهم وكبرائهم وأشرافهم، وهذا فيه بعد، - والله أعلم -، وبعض أهل العلم يقول: إن المقصود فرعون وملأه، فأتى بضمير الجمع؛ لأنه كان جباراً ومتعالياً في الأرض، والعرب تأتي بهذا على سبيل التعظيم، فالمعظم نفسه يقول: فعلنا وقلنا، وَمَلَئِهِمْ يعني وملأ فرعون، كذا قال بعض أهل العلم، ويحتمل أن يكون الضمير يرجع إلى الذرية، فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أي ملأ الذرية، فيكون المعنى أن الذين آمنوا هم من قوم فرعون، فهم على حال من الخوف من فرعون وملئهم، وهذا أقرب هذه الأقوال، فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ فهم على خوف من فرعون ومن ملئهم الكبراء من الفراعنة الوجهاء؛ لأنهم كانوا في غاية الكفر مثل فرعون، هم الذين يقولون لفرعون: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ كأن فرعون ناقصٌ في الشر، فهم يحثونه ويغرونه بموسى .

ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ۝ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [سورة يونس:84-86].

هذه الآيات لا تدل بحال على أن الذين آمنوا بموسى ﷺ من الإسرائيليين قلة، وذرية من قومه بمعنى قلة أو الشبان منهم، فالخطاب للإسرائيليين، ولهذا لما خرج بهم موسى ﷺ من مصر، ما خرج بفئة قليلة، بل خرج بالإسرائيليين برمتهم: النساء والرجال والكبار والصغار، كلهم أخرجهم من مصر، فلم يبق لهم بقية في مصر كما هو معروف في التاريخ.