هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم، يحتمل أن تكون الباء هاهنا سببية، فتقديره: بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم، حتى يَجُوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ قال: يكون لهم نوراً يمشون به.
وقوله: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً، المعبود على طول المدى، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله، حيث يقول تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1]، الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [سورة الأنعام:1] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها، وأنه المحمود في الأولى والآخرة، وفي الحياة الدنيا وفي الآخرة، وفي جميع الأحوال، ولهذا جاء في الحديث: إن أهل الجنة يُلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفَس[1] وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم، فتكرر وتعاد وتزداد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ذكر المعنيين بسبب إيمانهم، وهذا يحتمله ظاهر اللفظ وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -، كما أن المعنى الثاني يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ بحيث يكون ذلك نوراً لهم بقدر هذا الإيمان، وهذا أيضاً تحتمله الآية، ومن هذه الهدايات التي تحصل لأهل الإيمان هو ما يحصل لهم من الهداية إلى الصراط، وقبله يحصل لهم هداية عند سؤال الملكين، ويحصل لهم هداية عند الحساب، ويحصل لهم هداية على الصراط، ومن الهدايات التي تحصل لهم على الصراط أن الله يجعل لهم نوراً يمشون به، ومنها أن الله يهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، كما قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:4]، فهذه من الهدايات التي تكون في الآخرة، فيهديهم ربهم بإيمانهم، أي بسبب إيمانهم، وتفسير من فسره بأن الله يجعل لهم نوراً على الصراط، يكون مضمناً في هذا المعنى، قوله - تبارك وتعالى -: تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ أي: بين أيديهم، وليس المعنى أنها تجري من تحت أرجلهم وهم فوقها، كما قال الله لمريم قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [سورة مريم:24]، والسَرِيّ هو الجدول الصغير من الماء على أحد المعاني المشهورة التي فسر بها، كما قال الله عن فرعون: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] يعني: من تحت قصوره وهذا هو المراد - والله أعلم -، فعلى كل حال تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: دَعْوَاهُمْ "أي: هذا حال أهل الجنة"، فالدعوى: من أهل العلم من فسرها بالدعاء، دَعْوَاهُمْ أي: دعاؤهم فيها سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وبهذا فسره ابن جرير - رحمه الله -، ومن أهل العلم من فسر الدعاء هنا بالعبادة دَعْوَاهُمْ أي: عبادتهم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، لا يكلفون بصلاة ولا بصيام ولا بجهاد ولا غير ذلك، وإنما يلهمون التسبيح، ومن أهل العلم من فسر الدعوى دَعْوَاهُمْ بالتمني، كما قال الله في الآية الأخرى: وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ [سورة يــس57] يعني يطلبون ويتمنون، ولكن هذا التفسير أبعد من غيره في هذه الآية، وبعضهم أيضاً فسر دَعْوَاهُمْ أي: سيرتهم ودَيْدَنهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، والأقرب في معناها - والله أعلم - أن دعواهم أي دعاؤهم، وقوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ التحية: مصدر، والمصدر يمكن أن يكون بمعنى الفاعل، ويمكن أن يكون بمعنى المفعول، بمعنى أن التحية يمكن أن يكون ما يصدر منهم من التحية يُحيُّون غيرهم، ويحتمل أن يكون: ما يُحيَّون به، تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحييهم به الله، ما تحييهم به الملائكة، أو ما يحيي بعضهم بعضاً به، والآية تحتمل هذه المعاني كلها، وقد دل عليها القرآن كما في الآيات التي ذكرها الحافظ - رحمه الله -، وقال: سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ [سورة يــس:58] هذا ما يحيون به، تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحيون، يحييهم به الله، والملائكة أيضاً وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ [سورة الرعد:23-24]، فهذه تحية صادرة من الملائكة، فقوله: تَحِيَّتُهُمْ أي: ما يحيي بعضهم بعضاً به.
- رواه مسلم من حديث جابر قال: سمعت النبي ﷺ يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس، برقم (2835)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا.