يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى وهم فيما قيل: ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، وقد كانوا استعاروا من القبط حلياً كثيراً فخرجوا به معهم، فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [سورة الشعراء:61]، وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى عليه في السؤال: كيف المخلص مما نحن فيه؟، فيقول: إني أمرت أن أسلك هاهنا كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الشعراء:62] ، فلما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63] أي: الجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقاً لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشّفت أرضه فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك، ليرى كل قوم الآخرين؛ لئلا يظنوا أنهم هلكوا، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى - وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان - فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب، وهم بالرجوع وهيهات وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [سورة ص:3] نفذ القدر واستجيبت الدعوة، وجاء جبريل على فرس وديق حائل، فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها، واقتحم جبريل البحر، فاقتحم الحصان وراءه، ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئاً فتجلد لأمرائه وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم، فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهمّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فآمن حيث لا ينفعه الإيمان فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [سورة غافر:84-85]، ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي: أهذا الوقت تقول، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟، وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي: في الأرض الذين أضلوا الناس، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ [سورة القصص:41] وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله ﷺ ولهذا روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسّه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة[1]وقد رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
وقوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس:92] قال ابن عباس - ا - وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح، وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا موته وهلاكه، ولهذا قال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي: نرفعك على نشز من الأرض، بِبَدَنِكَ قال مجاهد: بجسدك، وقوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي: لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شيء، ولهذا قرأ بعضهم: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ، أي: لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما روى البخاري عن ابن عباس - ا - قال: قدم النبي ﷺ المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبي ﷺ لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه[2]
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ...
وقال بعض أهل العلم: إن القائل: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ هو جبريل، ومنهم من يقول: ميكائيل، وبعضهم يقول: الذي قال هذا هو فرعون، وهذا بعيد جداً.
قوله: فالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [سورة يونس:92] قرأ ابن مسعود نُنَحِّيك ببدنك من التنحية، وهذه القراءة توضح المقصود بقوله ننجيك، فلا يفهم أن الله نجاه ولم يغرق، وإنما النجاة كانت للبدن فقط دون الروح.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي: نرفعك على نشز من الأرض"، وهذا القول قال به جماعة من السلف، باعتبار أنه مأخوذ من النجوة.
وجاء في بعض المرويات الإسرائيلية أن الإسرائيليين لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، فأُلقي على نجوة من أجل أن يراه الإسرائيليون.
قوله: بِبَدَنِكَ "قال مجاهد: بجسدك"، جاء تفسير البدن بالجسد؛ لأن من السلف من قال: بِبَدَنِكَ، أي: بدرعك.
قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن خلفك أي: لهؤلاء الذين تركوا وبقوا في مصر، ولا يلزم أن فرعون بقي بعد ما رأته بنو إسرائيل لكي تراه الأجيال، ولا يوجد دليل على أن فرعون موجود إلى اليوم، ويرى كثير من أهل العلم أن الأهرام كانت قبل طوفان نوح بدليل أنه لا يعرف لها خبر، ولو كانت بعد الطوفان لعرف من الذي بناها، ثم من الذي جاء وأخذ فرعون ووضعه في الهرم؛ فالفراعنة هلكوا جميعا مع فرعون.
- رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة يونس (5 / 287)، برقم: (3107)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5 / 26)، برقم (2015).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة يونس، (4 / 1722)، برقم (4403).