وقوله: مُبَوَّأَ صِدْقٍ قيل: هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها، كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137]، وقال في الآية الأخرى: فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:57-59] وقال: كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [سورة الدخان:25] الآيات.
وقوله: وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أي: الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعاً وشرعاً.
قوله – تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [سورة يونس:93]، أي: أسكناهم منزلاً طيباً حسناً، وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا المسكن هو أرض مصر والشام، باعتبار أن الله أورثهم أرض مصر كما قال الله : كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59] وهذا صريح في أن الله أورثهم إياها.
وقال بعض العلماء: المبوأ الصدق هي بلاد الأردن وفلسطين، وقال بعضهم: هي الشام.
وقوله: فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ [سورة يونس:93]، أي: ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بيّن الله لهم وأزال عنهم اللبس، وقد ورد في الحديث: إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي[1]، رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ. ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي: يفصل بينهم، يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
قوله: فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ فسر بعض أهل العلم العلم المذكور في الآية بالتوراة، ومن أهل العلم من يقول: المقصود بقوله تعالى: مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ يعني القرآن، أي: أن اختلافهم لم يكن عن جهل بالحق، وخفاء معالمه، وإنما كان بسبب الهوى والبغي، وهذا المعنى يشهد له قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران:105] فالتفرق والاختلاف حصل بعدما اتضح لهم الحق وظهر، فكان اختلافهم بسبب أهوائهم وبغيهم، ولهذا قال الله في موضع آخر: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة الجاثية:17].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - في اقتضاء الصراط المستقيم الأمور التي شابهت بها هذه الأمة أهل الكتاب، وذكر منها التفرق والاختلاف.
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب شرح السنة (2 / 608)، برقم (4597)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم (2 / 1322) برقم (3992)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب افتراق الأمة (5 / 26)، برقم (2641)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3 / 480)، برقم (1492).