الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُوا۟ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [سورة يونس:98].
يقول تعالى فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم، كقوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون [سورة يــس:30]، كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [سورة الذاريات:52]، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [سورة الزخرف:23]، وفي الحديث الصحيح: عرض علي الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد([1])، ثم ذكر كثرة أتباع موسى ، ثم ذكر كثرة أمته - صلوات الله وسلامه عليه - كثرة سدت الخافقيْن الشرقي والغربي، والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعدما عاينوا أسبابه، وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به.


 قوله: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا فلولا هذه إذا جاءت في أمر يمكن أن يستدرك فإنها تكون للتحضيض، يمكن أن يفعل، تقول: لولا صليت لولا أطعت والديك، وما أشبه هذا، ومن ذلك قوله - تبارك وتعالى -: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النور:12]، يعني ظنوا بإخوانهم خيراً، أو على القول الآخر: ظنوا بأنفسهم يعني رجعوا إلى أنفسهم أنا لا نفعله، فكذلك إخوانهم لا يفعلونه، وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا [سورة النور:16] فهذا للتحضيض، أما إذا كان هذا يمكن أن يُفعل والأمر قد فات ولا يمكن أن يستدرك، فعندئذ تكون للتبكيت، كما في هذه الآية فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ هؤلاء القرى أُهلكوا وانتهوا، عاقبهم الله  وأخذهم، فهذا للتبكيت؛ لأنه لا يمكن أن يستدرك، فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ هذا في الأمم المهلكَة، فهو للتبكيت، - والله تعالى أعلم -، وقال: إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ إلى آخر الآية، قال ابن كثير - رحمه الله -: "والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس"، وظاهر كلامه - رحمه الله - أن الاستثناء في هذه الآية متصل، والاستثناء المتصل: هو ما كان فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، مثل حضر الرجال إلا زيداً، والاستثناء المنقطع ما لم يكن فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ [سورة البقرة:34] باعتبار أن إبليس من الجن - على القول الراجح - فاستثني من الملائكة فهو استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع بمعنى لكن، يعني لكن إبليس لم يسجد، وابن كثير - رحمه الله - ظاهر كلامه أن هذا الاستثناء من قبيل المتصل، ولا يويجد ما يمنع من هذا، بل قد يدل عليه ظاهر السياق، فالله يقول: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ الأمم السابقة لم يوجد فيهم أحد آمن فنفعه إيمانه سوى قوم يونس ، إذ نزل العذاب أو أمارات العذاب أو عاينوه، أولئك لم يكونوا يؤمنون إلى آخر لحظة حتى يعاينوا العذاب، فهؤلاء لم يكونوا يؤمنون إيماناً ينفعهم إلا قوم يونس، فظاهر الكلام أن الاستثناء متصل، وكثير من أهل العلم يقولون: هذا الاستثناء منقطع، ومنهم أئمة كبار في اللغة كالكسائي والفراء يقولون: الاستثناء منقطع بمعنى لكن فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا لكن قوم يونس لما رأوا العذاب وآمنوا نفعهم إيمانهم، رأوا أمارات العذاب، ويمكن أن يخرّج قولهم على اعتبار أن الأمم التي أهلكها الله كانوا يصرون على الكفر إلى آخر لحظة إلى الوقت الذي لا ينفع معه الإيمان مثل ما حصل من فرعون، حصل منه إيمان لكنه لم ينفعه هذا الإيمان فالأمم كما قال الله : فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [سورة غافر:84]، فالإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب، فالذي حصل لقوم يونس أنهم لما رأوا أمارات العذاب، وأن العذاب سينزل، ورأوا هذه العلامات تضرعوا إلى الله وخافوا وفرقوا بين الأم وولدها، وأخرجوا دوابهم وفرقوا بين الوالدة وولدها، وجعلوا يتضرعون إلى الله - تبارك وتعالى - فرحمهم وكشف العذاب عنهم، قبل أن ينزل وقبل أن يعاينوه، فالبقية ما كانوا بهذه المثابة، أما إذا نزل العذاب وعاينوه فعندئذ لا ينفعهم الإيمان، فمن قال: الاستثناء منقطع، يقول: لكن قوم يونس لما رأوا العذاب، يعني أمارات العذاب، فقوم يونس لم يصلوا إلى الحد الذي وصلت إليه الأمم، والحالة التي لا ينفع معها الإيمان، والله تعالى أعلم.

والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وهم أهل نينوى، وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعدما عاينوا أسبابه وخرج رسولهم من بين أظهرهم، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم، فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأُخروا، كما قال تعالى: إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتُركت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلة، فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم، قال قتادة: وذكر أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل، وكذا روي عن ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف.