بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [سورة العاديات:1-11].
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت.
سورة العاديات هذه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: إنها مكية، وهذا قول الأكثر، وهو مروي عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم، كابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس - ا.
والقول الآخر: إن هذه السورة مدنية، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس - ا -، وبه قال أنس بن مالك ، وقتادة من التابعين.
ومنشأ ذلك الاختلاف فيها - والله أعلم - ومِن ثَمّ سيأتي الكلام على المعني المراد بالعاديات - أنه إن قيل: إنها مكية على أن المراد بالعاديات هي الخيل على قول الجمهور، كما سيتضح - إن شاء الله - فلم يكن جهاد في المرحلة المكية وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا قالوا: هذه الخيل تضبح، تسرع، تنطلق، تغير، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا الإغارة على الأعداء، فهي تثير الغبار وتأثيراته، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا جمْع الأعداء على أحد المعاني، كما سيأتي - إن شاء الله.
فهنا قالوا: مكة لم يكن فيها جهاد، وبناء على ذلك هذه السورة مدينة، وقد ذكرت في بعض المناسبات أن الحكم على السورة أو الآية بأنها مكية أو مدنية باعتبار ما يلوح أو ما قد يلوح من المعنى أن هذا غير صحيح، وأن مرجع ذلك - يعني الحكم بأنها مكية أو مدينة - إنما هو النقل، وإلا فهذه المعاني التي تذكر يجاب عنها بأجوبة، سيأتي الكلام على قول من قال: إن العاديات هي الإبل مثلا وتعليل ذلك.
لكن على قول الجمهور: إنها الخيل يمكن الإجابة على ما سبق بأجوبة، منها ما ذكره بعض أهل العلم أن العرب الذين خوطبوا بهذا حينما أقسم الله بها كانوا يعرفون الخيل، ويعرفون أثرها ودورها في الحروب، ويشاهدون هذا، وإن لم يكن الجهاد قد فرض، ثم أيضاً هذه الخيل التي تعدو في سبيل الله لا يشترط أن ذلك كان في المرحلة المكية، بل كان ذلك قد حصل للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأتباع الأنبياء.
فالله يقسم بها وهم يعرفون دورها وأثرها وفَرْيها، كذلك أيضاً يمكن أن يقال: إن هذا فيه إشارة لما يكون في المستقبل من أمر الجهاد الذي فرض بعد الهجرة في المدينة، فالله - تبارك وتعالى - أقسم بالخيل بالعاديات ضبحا، فليس فيه فرض الجهاد، فما المانع أن يقسم بالخيل التي كما أخبر النبي ﷺ: معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة[1]؟، فهي هكذا قبل فرض الجهاد، هكذا جعلها الله وخلقها "معقود بنواصيها الخير".
والقسم لا يكون إلا بمعظم كما سبق، فهذه الخيل بهذه المثابة وبهذه الصفة التي هي من أكمل أوصافها أقسم الله - تبارك وتعالى - بها، لا إشكال ولا حاجة لأن يُلجأ إلى القول بأن السورة مدنية؛ لأنها تحدثت عن الخيل العادية في سبل الله، كما لا حاجة لحملها على الإبل كما سيأتي.
وتأويل تضبح بمعني: تضبع، قالوا: لأن الإبل لا تضبح، وإنما الذي يضبح الخيل، والإبل تضبع تمد قوائمها الأمامية وعنقها إذا أسرعت في المشي، وأن هذا من باب الإبدال، والعرب تبدل الحرف بغيره، تضبح وتضبع، وهذا وإن قال به بعض أصحاب المعاني إلا أنه لا دليل عليه.
أما الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة المصدرة بهذه الأقسام الثلاثة فإن ذلك هو حال الإنسان من حيث هذه الصفة السيئة، وهي الكنود والجحد والكفران لنعمة الله - تبارك وتعالي - عليه، فهذه طبيعته وصفته ما لم تهذب، وتروض نفسه بالإيمان، وهذا مضى له نظائر في صفة الإنسان إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:19-21]، ثم يأتي التهذيب إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:22] إلى آخر ما ذكر الله تعالى.
هنا: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، بعضهم يقول: الكافر كما سيأتي، وبعضهم يقول: الإنسان، جنس الإنسان باعتبار الغالب، فهذه السورة تدور حول هذا المعنى، صفة الإنسان هذه الصفة السيئة من الجحد لنعم الله - تبارك وتعالى - وكفرانها، مع ما يصاحب ذلك من الحرص الشديد على المال، كفرانٌ للنعمة وحرص على المال.
والله يخبره بأنه محيط به، عالم بأحواله، ومكنونات نفسه، وما يصدر عنه، وما انطوت عليه هذه النفس من الحرص والشح والجشع إلى غير ذلك.
هذا الموضوع الذي تدور حوله هذه السورة.
هنا يقسم بالخيل، هذا قول الجمهور أن المقصود بذلك العاديات، يعني الخيل، فإنها تعدو في سبيل الله، جمع عادية، العاديات الجارية بسرعة، تجري بسرعة شديدة، فأقسم الله بها بهذه الصفة أو الحال، وذلك أكمل أوصافها كما سبق، فإن ذلك هو المأمول منها من قبل أصحابها، فهم إنما يعدونها لهذا، أن تعدو وتسرع، وإنما كانت الخيل بهذه المنزلة عن الإبل، وعن الحمر، والبغال لشدة عدوها، فهي تدرك مالا تدركه سائر الدواب، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى ومميزات تتفاوت فيها الخيل، بحسب ما هي عليه في أصولها، وسلالاتها، وتربيتها، وتضميرها، وتدريبها.
فالخيل العربية ليست كغيرها كما هو معلوم، ولها من القُدر والامكانات القتالية ما ليس للخيل الأخرى - الخيول الأعجمية -، ولهذا اختلف الصحابة لما فتحت بلاد فارس والشام في تلك الخيول التي وجدوها، هل يُجرون لها السُّهمان التي تكون للخيل أو لا، لأن الخيل التي كانت عند العرب لها أثر بالغ في القتال، وهذا معروف، تعرفه الأمم.
ولا زالت الخيول العربية في كل أقطار الدنيا، ولها شهادات ولها سلالات، وهناك كتب في أوصافها، وفي تفاصيلها، وفي أنسابها، كتب في أنساب الخيل منذ القدم، وتكلم العرب على كل التفاصيل فيها.
الأصمعي - من أوعية اللغة - في خبره المعروف مع أبي عبيدة معمر بن المثنى، وذلك أن كل واحد منهما وضع كتاباً في الخيل، وأوصافها، وتسمية كل عضو، ومفصل منها، من هامتها إلى حوافرها، فلما سئل كل واحد منهما عما في كتابه بخيل عربي أصيل أن يصف ذلك عليه، فأبو عبيدة معمر بن المثنى قال: لست بيطاراً، يعني كأنه يقول: أنا لست طبيباً بيطرياً حتى أصف هذا على الطبيعة، يعني يعرف هذا نظريًّا.
أما الأصمعي فوثب على ظهره وجلس يفصله من هامته إلى حوافره، كل جزء ما اسمه عند العرب، فالوزير أعطاه هذا الفرس، فكان إذا أراد أن يغيظ أبا عبيدة ركب الفرس وأتى إليه به.
فالشاهد أن العرب اعتنوا بهذا عناية كبيرة، والخيل في القتال - الخيل العربية - معروف أن لها طرقاً وفنوناً في القتال، بحيث إنها تنطلق مسرعة، وبلحظة تنقلب وتدير وجهها فيستقبل راكبُها مَن خلفه بالرمح، يعني هذا الذي يطارده ويظهر له أنه قد فر منه، ينطلق مسرعاً أمامه، وبلحظة وحركة تقلب وجهها، وإذا بالرمح يستقبل هذا الفارس الذي خلفه، إلى غير ذلك، بحركة كلمح البصر تنخفض وتنزل، فيطير السيف الذي ضرب به خصمه في الهواء فيبتدره بضربة.
لها فنون في القتال وكذا ليست لغيرها من أنواع الخيول، فالله - تبارك وتعالى - أقسم بها وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ولهذا مضى الكلام في قوله - تبارك وتعالى -: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [سورة الحشر:6] وقلنا هناك: إن الإيجاف بمعنى الإسراع، وإن الخيل تشير إلى الإغارة على العدو، وإن الركاب تشير إلى السفر الطويل.
فالإبل تتخذ للسفر للمسافات الطويلة، والخيل للإغارة فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، قلنا هناك: إن المعنى أنه لم يكن فيه جهد يذكر، فما أغاروا على العدو، ولا قطعوا فيه المسافات الشاسعة، وإنما هو شيء أفاءه الله على رسوله ﷺ، من غير كدٍّ ولا تعب منكم.
هنا قوله: يقسم الله تعالى بالخيل، هذا التفسير تفسير العاديات بالخيل قال به جماعة من السلف رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، وسالم، والضحاك، وبعضهم يقول: إنها الإبل، وهذا مروي عن ابن مسعود، وعلىٍّ، وأيضاً مروي عن بعض التابعين، كالنخعي وعبيد بن عمير.
والسبب في ذلك - والله أعلم - كما أشرت أولا: أن مكة لم يكن فيها جهاد، ومن ثم إذا قيل: إن هذه السورة مكية، قالوا: هذه وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا الإبل تضبح.
وبعضهم قال: تضبع، وإنّ هذا حصل فيه إبدال، إبدال حرف بحرف، تضبع بمعنى تمد عنقها وقوائمها مسرعة، إلى أين تسرع وهي ليست بذات كر ولا فر في القتال؟.
قالوا: إن ذلك حينما تنطلق من عرفة إلى مزدلفة، أو من مزدلفة إلى منى.
لاحظ هنا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فسروه بهذا، يعني: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا سيأتي على قولين - والأقوال فيها أكثر، لكن فيما يتعلق هنا بالإبل -: أن ذلك يرجع إلى أصحابها، يعني: يورون يوقدون النيران لطعامهم، أو أنها هي حينما تضرب بخفها بالحجارة، فتصطك هذه الحجارة، فيظهر الشرر؛ لأن خفاف الإبل لينة، وحينما تصطك بالحجارة لا يخرج شرر، وهذا موضع إشكال، وهو أحد وجوه الرد على أصحاب هذا القول، وسيأتي إن شاء الله.
فالمقصود أنهم قالوا: إن الحجارة يضرب بعضها بعضًا من شدة جري هذه الإبل، وقد مدت أعناقها منطلقة إلى مزدلفة مسرعة، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا هنا قال بعضهم: إنها تذهب من مزدلفة إلى منى، ويكون ذلك في الصبح بعد الإسفار.
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا تثير الغبار بانطلاقها هذا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا قالوا: هذه مزدلفة، يقال لها جمع، وكما تلاحظون المعنى يكون قلِقًا، يعني: هنا تذهب صبحًا إلى منى، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا مزدلفة، ومزدلفة قبلُ، أو يقال: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا جمع الناس في منى مثلا، لكن - والله أعلم - هذا خلاف الظاهر المتبادر.
هنا يقول: يقسم بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا "ضبحًا" بعضهم يقول: هذا مصدر مؤكد لاسم الفاعل، يعني: تضبح ضبحًا، ضابحةً ضبحًا.
بعضهم يقول: الضبح هذا هو ضرب من السير، إسراع، ويقال: ضبح الفرس إذا عدا بسرعة، وبعضهم يقول: هذا صوت الحوافر، صوت حوافر هذه الخيل حينما تضرب بقوة في الأرض، والفراء يقول: هو صوت أنفاسها، نفَس الخيل حينما يشتد، ويعدو بسرعة.
ومن قال: إن ذلك يراد به الإبل قالوا: حينما تنسف بمناسنها الحجارة -الحصى-، تسمع صوت الحصى. وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا هنا يقول: هو الصوت الذي يُسمع من الفرس حين تعدو، هذا الذي قاله ابن جرير - رحمه الله -، هذا الصوت في حنجرتها، وبعضهم يقول: يصدر من صدرها بمعنى: الحمحمة، ومثله ابن عباس - ا - بقوله: "أُح أُح"، يعني: يكون لها صوت بهذه الطريقة.
وبعضهم يقول: إنهم كانوا يلجمونها عند الإغارة؛ لئلا يسمع العدو صوت الصهيل؛ فيستعد، أي من أجل المباغتة، لأن الخيل تنطلق مسرعة فيباغتون العدو، لهذا قال: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، ذكر هذا الوقت باعتبار أنه أشرف اليوم، وهو مبدأ القتال، وبه تستبين الأشياء، وتتضح.
وكان النبي ﷺ إذا غزا كان يتربص ويستمع الأذان - أذان الصبح - فإن سمع أذانًا وإلا أغار، ويكون الناس في غِرّة لم ينتشروا بعد، فهم غارُّون في بيوتهم مع أهليهم، فلا يكاد يخرج منهم أحد في وقت الفجر، يعني كما قال الله : وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [سورة التكوير:18]، فهذا يكون بطلوع الفجر، والناس غارُّون، فهنا تكون الإغارة في هذا الوقت مباغتة لهم.
النبي ﷺ لما غزا خيبر ورآه الفلاحون قالوا: "محمد والخميس"، ومعهم مساحيهم يعني: بدءوا يخرجون لأعمالهم، فقال ﷺ: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين[2].
فهنا قال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا هو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو، هذا هو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، ليس ذلك صوت الحوافر ولا خفاف الإبل، وإنما هو صوت يصدر عن الخيل يقال له: الحمحمة، مع أن بعضهم قال: ليس بالحمحمة، يعنى: هو صوت غير الحمحمة.
أما القول: إنهم كانوا يلجمونها من أجل ألا يصدر منها صهيل فهذا بعيد؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أقسم بشيء هو من صفتها وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا.
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، برقم (1872).
- رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4198)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، برقم (1365).