فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا هنا فسره بهذا المعنى وهو المشهور الذي عليه الجمهور، والخيل معروف أنه يوضع تحت حوافرها النعل - قطع معدنية -، فحينما تعدو بسرعة فهذا يحتك بالحجارة فيخرج منه شرر.
فهنا قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا تقدح منه النار، الموريات يعنى: هذه الخيل توري يعني: يخرج الشرر من اصطكاك حوافرها بالحصى والصخر.
والقدح: أصله الصك، فجُعل ذلك منها كالقدح في الزناد، تقدح في الزناد يعني: يوقد المَرْخ والعِفار - نوعان من الشجر يوقد بهما -، وكذلك حينما تضرب الحصى من صفوان ونحوه ببعضه، فإنه ينقدح منه الشرر.
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا القدح: الصك، فصار ذلك منها بمنزلة القدح في الزناد، هنا قوله: "قدحًا" كما سبق في قوله: "ضبحًا" يعني: أنه على قول بعضهم مصدر مؤكد لاسم الفاعل، قادحةً قدحًا للصخر فتُقدح منه النار.
قوله: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ذكرت أن هذا قول الجمهور، لكن هناك من فسروا بمعانٍ دون هذا، بل لا يخلو بعضها من بُعد، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا قالوا: هذه الخيل أوقدت الحرب، أشعلت الحرب، أثارت الحرب؛ لأنها لما نزلت في مجتمع القوم ثارت ثائرة الحرب فأشعلتها فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، أشعلت الحرب وأورتها بهذه الإغارة، وهذا بعيد - والله أعلم - وإن قال به بعض السلف كقتادة وسعيد.
وبعضهم لا يحمل ذلك على الخيل أصلا، سواء قيل: إنها الإبل أو الخيل، يعني: لا يحمل ذلك على ما يكون مِن ضرْب قوائمها بالأرض سواء كانت إبلا أو خيلا.
وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى أصحابها فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، أنهم بعدما يرجعون من هذا، بعد انصرافهم من الحرب يوقدون النار ليصطلوا بها وليصنعوا طعامهم، وهنا كما تلاحظون هذا يقتضي تفريق الضمائر، يعني: هذه في الخيل وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا هؤلاء أصحابها حينما يوقدون النار، وهل هذا شيء عظيم بحيث يستحق أن يقسم به حينما يوقدون نارهم؟.
الجواب: لا، ليس كذلك، بل إن بعضهم قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا يعني: الرجال بدهائهم وفكرهم في الحرب، وتدبيرهم فيها، وهذا منقول عن مجاهد، وهو مروي عن ابن عباس - ا.
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا أنها أفكار الرجال والدهاء الذي يكون به قوام الحرب، والنبي ﷺ قال: الحرب خدعة[2]، وبعضهم يحمل ذلك على الألسنة، كما جاء عن عكرمة، بمعنى: أن هذه الألسن هي مشاعل حرب، يعني: ممكن أن يكون بسببها فتنة وحروب لكلمة تقال؛ لشدة خطرها، وهذا بعيد.
ابن جرير - رحمه الله - حمل هذا على جميع هذه المعاني، بأي اعتبار؟، قال: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، كل ما يحصل به ذلك فهو داخل فيه، وأن الله لم يخص معنى دون معنى، فهذه الخيل يحصل في قوائمها هذا، وكذلك هؤلاء يوقدون نيرانهم، وكذلك أيضاً هذه الألسن تثير الفتنة، وكذلك آراء الرجال والدهاء في الحرب، إلى آخره.
في الواقع أن ذلك ليس بسبب اشتراك في اللفظ - يعني: أن اللفظ يأتي لعدة معانٍ -، وإنما هو باعتبار ما ذكرت سابقًا مِن المراد بالعاديات ابتداءً، فكثير من هذا الاختلاف يرجع إليه، وإن لم يكن جميع الاختلاف فيه يرجع إلى هذا المعنى.
فهل هنا القسم أو الإقسام بهذه النار التي يوقدونها أو بهؤلاء الذين يوقدون النار له شأن؟
الجواب: لا.
هل الإقسام بهذه الألسن التي تثير فتنة، وتقوم بسببها الحرب له شأن؟.
الجواب: لا، فالسياق هو الذي يبين المراد، فهذه الفاءات الأربع فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا هذه الفاءات الأربع بهذه المواضع الأربع كلها تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فهي مترابطة، السياق يبين هذا ويوضحه، ومن ثَمّ فإن ذلك جميعًا - والله تعالى أعلم - في موصوف واحد له أوصاف متعددة.
فالعاديات: هي الخيل، تضبح ضبحاً، حينما تسرع في الإغارة والغزو، وتُخرج هذا الصوت منها، هذه صفتها فيما يُسمع من الصوت، وفيما يحصل من قوائمها وحوافرها ينقدح الشرر، وفي مهامها التي أُنيطت بها، وتُنتظر من مثلها الإغارة فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، وأثر خارجي وهو: الغبار المنبعث من هذه القوائم، وهذه السرعة، والنزول والجولان بأرض أو بساحة المعركة فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا.
قال هنا: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا يعني: الإغارة وقت الصباح، والذين قالوا: الإبل قالوا: تنطلق إلى منى من مزدلفة، فَالْمُغِيرَاتِ، لكن هل هذا يقال له: إغارة؟
الإغارة تستعمل في الهجوم على العدو، فانطلاقها إلى منى هل هو إغارة على منى؟، يعني هذا لا يخلو من بُعد، والله أعلم.
فَالْمُغِيرَاتِ سبق في بعض المناسبات أن ذكرت كلام بعض المبالغين في التفسير العلمي أو ما يسمى "بالإعجاز العلمي" أنه حمل هذه جميعاً على السيارات، وأن الضبح هو: صوت "البساتم"، وعملية حركة "البساتم" والاحتراق.
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، تقدح هذه البساتم في عملها حينما تتحرك، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا هنا فسر "المغيرات" بالمُغيِّرات، يقول: بدأ الصبح وظهر كسيفاً؛ لأن أنوار السيارات أغنت عنه، فصار الناس يستوي الليل والنهار في تنقلهم عليها، وانتقالهم، لا يحتاجون إلى انتظار للصباح، فصار الصبح كسيف البال؛ لأنه وُجد ما أغنى عنه فتغير، فَالْمُغِيرَاتِ فسرها بالمُغيِّرات صبحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، فهذا من التلاعب بكتاب الله - تبارك وتعالى.
ابن جرير حمله على المعنيين، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا باعتبار أن ذلك في الخيل حال الإغارة، وفي الإبل حينما تنطلق من مزدلفة إلى منى، كما روي عن عليٍّ، وابن مسعود - ا -، فالله لم يقيد ذلك، فهذا وهذا كله يصدق عليه قوله: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا.
- رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، برقم (382).
- رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة، برقم (3029)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الخداع في الحرب، برقم (1739).