الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى ٱلْقُبُورِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال الله - تبارك وتعالى - مزهِّداً في الدنيا ومرغباً في الآخرة، ومنبهاً على ما هو كائن بعد هذه الحال، وما يستقبله الإنسان من الأهوال: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ أي: أُخرج ما فيها من الأموات وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ.

أَفَلَا يَعْلَمُ الهمزة هنا استفهامية للإنكار، أفلا يعلم هذا الإنسان الذي هو بهذه المثابة من الكفران، والحرص الشديد، ومحبة المال؟، أَفَلَا و"الفاء" للعطف على مقدر يقتضيه المقام، يعني: يفعل ما يفعل من القبائح، ويتصف بهذه الأوصاف.

فلا يعلم ما سيكون حينما تبعثر القبور، ويحصل ما في الصدور، فتخرج الدفائن من القبور، ومن النفوس في الصدور، تخرج المخبآت في القبور من الأجساد، والمخبآت في الصدور من العقائد، والأعمال، وما تنطوي عليه النفس، وما قد يخفى على الناس، فيكون بادياً علانية ظاهراً لا يخفي، وإن حاول صاحبه أن يواريه على الناس مدة حياته.

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ فكل ما أسر الإنسان في نفسه وخبأ من الإرادات، والمقاصد والنيات، أو العقائد والأفكار فإن ذلك يخرج جميعاً، والله - تبارك وتعالى - لا يخفى عليه منه، فلا يُكنّ الإنسان في نفسه إلا الخير، والإيمان، والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، وما إلى ذلك من الأعمال القلبية التي يرضاها الله ويحبها، وجنسها أفضل من جنس الأعمال البدنية.

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ كل ما في الصدور من إيمان وكفران، وما يتفرع عنهما، ولهذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: إنه ينبغي على الإنسان أن يقصد الخير، وينويه دائماً، فإن حصل له - فَعَله - فهو على بر وطاعة من جهة العمل، والامتثال، فإن لم يحصل له فإنه يُبلَّغ بهذه النية.

أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ بُعثر بمعني: نُثر، تقول: بعثرت المتاع يعني: جعلت أسفله أعلاه، وتقول: أغراض مبعثرة يعني كما نقول في العامية: "محيوسة"، فالقبور تبعثر، تنبش، فيجعل أسفلها أعلاها، وكما في قوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [سورة الانفطار:4]، وقد مضى الكلام على هذا.

قال: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ قال ابن عباس وغيره: يعني: أُبرز وأُظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم.

يعني قول الأكثرين، لاحظ هنا قال: أبرز وأظهر، الأكثرون يقولون: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ: التحصيل هو التمييز، مُيز ما في الصدور، وما تُكنّ من خير وشر، وفُصل ذلك عنها بمعنى: أُخرج وأُبرز، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سورة يس:59] يعني: من المَيْز وهو الانفصال، فهنا قال ابن جرير - رحمه الله -: أي: مُيز، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، مُيز وبُين فأبرز ما في الصدور، إذا امتاز عن غيره يعني: انفصل عنه وبان، فهنا فسر بأبرز.

فالذين فسروا حُصِّلَ بمُيز هذا لا يخالف قول من قال: أُبرز.