الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ أي: يومَ يأتي يومُ القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله، كقوله: لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [سورة النبأ:38)، وقال: وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ [سورة طه:108] الآية.

وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم[1]".

هذه الآيات يذكر الله فيها أنهم لا يتكلمون أو لا يتكلم أحد إلا بإذنه، وما شابه ذلك، ومنها ما ذكر الله فيه كلامهم كما قال الله : فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، وكذلك أنهم يقولون: يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [سورة يس:52]، وأشباه ذلك من الكلام الذي يقولونه حينما يتساءلون عن مدة مكثهم، وبقائهم في الحياة الدنيا، والجمع بين هذه الآيات أن يقال بأن يوم القيامة يوم طويل، ففي وقت منه لا يتكلم أحد، وفي بعض الأوقات يتكلمون كما ذكر الله عن الكفار: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ[سورة الرحمن:39]، وفي موضع آخر يقول: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [سورة الصافات:24]، فكذلك أيضاً لا يُسألون في وقت ويُسألون في وقت آخر، أو أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب وإنما يُسألون سؤال تبكيت، وتقريع، كقوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [سورة المدثر:42]، حينما يدخلون النار - والله أعلم -.

"وقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي: فمن أهل الجمع شقي، ومنهم سعيد كما قال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [سورة الشورى:7].

وروى الحافظ أبو يعلى في مسنده عن ابن عمر عن عمر - ا - قال: لما نزلت: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ سألت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله علام نعمل؟ على شيء قد فُرغ منه، أم على شيء لم يُفرغ منه؟ فقال: على شيء قد فُرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسر لما خُلق له[2]".

قوله - تبارك وتعالى -: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ: يعني في الآخرة، وحديث عمر وحديث سراقة بن مالك في الدنيا، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2]، فالفاء تدل على التعقيب المباشر، ولهذا فإن الآية تحتمل كما قال طائفة من السلف: أنه خلقهم بهذه الصفة، طبع قوماً على الكفر، وقوماً على الإيمان كما في حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، قال: فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر[3]، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث ابن مسعود حديث الصادق المصدوق وفيه: ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد...[4]، والمعنى الآخر الذي تحتمله الآية: خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ: أن الفاء للتعقيب المباشر، لكن المباشرة في كل شيء بحسبه، خلقهم فدرجوا في هذه الحياة، ثم بعد ذلك منهم من اختار طريق الإيمان، ومنهم من اختار طريق الكفر، وهذان المعنيان لا منافاة بينهما، فالله - تبارك وتعالى - قد علم منذ الأزل أصحاب النار، وأصحاب الجنة، وكتب ذلك في كتاب، ونحن لم نطلع على هذا الكتاب، والله أعطى الإنسان قدرة، واختياراً، ومشيئة، ولا يخرج شيء من ذلك عن إرادته، ومشيئته، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الإنسان:30]، والإنسان مأمور بأن يعمل ويتقرب إلى الله ، وأن يطيع ربه، ولا يطيع الشيطان، والناس ليس لهم أن يحتجوا بشيء من هذا، فهم في دنياهم لا يتركون العمل، وأقل ذلك الأكل، والشرب، فإذا كان الإنسان يقول: إن الله كتب كل شيء، ومن ذلك الأجل، والرزق؛ فلماذا نأكل إذاً؟ فهو في هذه الأمور لا يترك فعل الأسباب في الكسب، والتجارة وما شابه هذا، وبعض الناس - لغلبة هواه في عمل الآخرة - ربما يحتج بمثل هذه النصوص - والله المستعان -.

  1. جزء من حديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة برقم (7000)، كتاب التفسير، باب قول الله - تعالى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23]، ومسلم برقم (182)، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.
  2. رواه الترمذي برقم (3111) واللفظ له، كتاب تفسير القرآن، باب ومن تفسير سورة هود، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن عمرو، والبخاري بمعناه برقم (4666)، كتاب التفسير، باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى  [سورة الليل:10]، من حديث علي ، ومسلم برقم (2649)، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته، من حديث عمران بن حصين ، أما رواية الحافظ أبي يعلي فلفظها من حديث جابر قال: يا رسول الله نعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نأتنفه؟ قال: لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة بن مالك: ففيم العمل إذاً؟ قال رسول الله ﷺ: كل ميسر لعمله (4/45)، برقم (2054)، وقال محققه حسين سليم أسد: رجاله رجال الصحيح.
  3. رواه أحمد في المسند (29/206)، برقم (17660)، وقال محققوه: صحيح لغيره.
  4. رواه البخاري برقم (1226)، كتاب القدر، باب في القدر، ومسلم برقم (2643)، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته، وسعادته.