الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء؛ فاتبعوه، وصدقوه، ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد، والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً: إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي[1] رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة".

قوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً يفسر الآية، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: على الإيمان، ولكن اقتضت مشيئته أن يوجد بينهم الاختلاف في الأديان، والمذاهب، والأهواء، الاختلاف المذموم طبعاً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فهؤلاء أمم الكفر على أهواء ومذاهب شتى، منهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد البشر، وبعضهم يضلل بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، فهذا اختلاف أهل الأهواء سواء كانوا من الأمم الأخرى، أو كان ذلك من المذاهب المنتسبة للإسلام، المذاهب الباطلة المنحرفة الذين اختلفوا في الدين، فالله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الحق، وقوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ قال: "أي: لا يزال الخُلف بين الناس في أديانهم، واعتقاداتهم" أي الاختلاف.

قال الحافظ في قوله: إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ: "أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين"، فهؤلاء يكون الله قد استثناهم من هؤلاء المختلفين يعني: الناس أهواء شتى إلا من رحم الله فليسوا كذلك، فهم على الإيمان، والحق، وهذا المعنى هو أقرب المعاني، وقيل: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ يعني: من هؤلاء المختلفين، إلا من رحمه الله فهداه، فانتشله وهداه من هؤلاء المختلفين، والأقرب هو الأول - والله أعلم - لا يزال هؤلاء على هذا الاختلاف، والشر، والتفرق الذي ذمه الله - تبارك وتعالى - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران:105].

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة البقرة:213] يعني يكون التقدير: كان الناس أمة واحدة على الإيمان فاختلفوا، وإن الذين استثناهم الله هم الذين بقوا على الأصل على الإيمان، وهم المرحومون، ومن عداهم فهؤلاء هم أهل الذم، والتفرق، والاختلاف إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [سورة الأنعام:159].

وهذا الحديث الذي ذكره الحافظ هو في معنى الآية وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فهذه الفرقة الواحدة التي ذكرها النبي ﷺ ليست من المختلفين، هم الذين بقوا على الأصل منذ أن أنزل الله آدم على التوحيد قال: لا تزال طائفة من أمتي على الحق[2]، وأولئك تفرقوا، واختلفوا، وخرجوا عن الصراط المستقيم، وهذه الفرق التي ذكرها النبي ﷺ أي: الثنتان والسبعون فرقة قال عنها: كلها في النار[3]، وليس المقصود أن هؤلاء خرجوا عن الإسلام بسبب تفرقهم، واختلافهم، وتشعب آرائهم، ومذاهبهم، ولهذا فإن الثنتين والسبعين فرقة لا يحكم عليها أنها خالدة في النار؛ وإنما متوعدة بالنار، تُعذَّب ما شاء الله أن تعذب، وفيهم من يخرج من الإسلام، وفيهم من لا يخرج من الإسلام، لكن الحديث لا يدل على التخليد في النار، وأن هؤلاء قد خرجوا عن الإسلام قطعاً، ولهذا شيخ الإسلام، والشاطبي، وأهل العلم لما تكلموا على معناه قالوا: هؤلاء ليس المقصود بأنهم في النار يعني يخلدون فيها، يعني الفرق التي ذكرها العلماء مثلاً مثل: الجهمية، أو المعتزلة، أو الطوائف: الخوارج، والشيعة وأمثال هؤلاء، فهم يتفاوتون غاية التفاوت، فمنهم من يخرج من الإسلام، ومنهم من لا يخرج، يعذب، وقد يغفر الله له لسبب أو لآخر، قد يكون قلد غيره، ولم يجد غير هذا، وهذا كان غاية ما أمكنه، فمات عليه، وقد يكون هذا الإنسان اجتهد، وبذل وسعه في طلب الحق، وهذا غاية ما توصل إليه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالله - تبارك وتعالى - أرحم بعباده من أنفسهم، لكنهم مُتوعَّدون بالنار في الجملة، لكن هذا ما ينطبق على كل الأفراد الذين ينتسبون إليهم؛ لأنه لا بد من تحقق الشروط، وانتفاء الموانع، فالوعيد العام قد يتخلف لسبب.

وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في الأصل على قوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ - لأن المختصر لم يتطرق لها -: "وقوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن البصري - في رواية عنه -: "وللاختلاف خلقهم"، وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "خلقهم فريقين" كقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وقيل: "للرحمة خلقهم"، قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثرا، فقال طاوس: اختلفتما، وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خُلِقنا، فقال طاوس: كذبت، فقال: أليس الله يقول: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة، والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: "للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب"، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة، ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات:56]، وقيل: بل المراد: "وللرحمة، والاختلاف خلقهم" كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: "الناس مختلفون على أديان شتى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له: لذلك خلقهم، قال: "خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق لعذابه"، وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش، وقال ابن وهب: "سألت مالكاً عن قوله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد"[4].

هذا الكلام مهم جداً، وحذفه من هذا المختصر غفلة، وسهو من المُختصِر.

اسم الإشارة في قوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ على ماذا يعود؟ الله قال: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، ثم قال: إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ واسم الإشارة "ذلك" للبعيد، فمن نظر إلى هذا المعنى قال: وَلِذَلِكَ البعيد هو الاختلاف وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ؛ لأن الله قال: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فاقتضت مشيئته وإرادته الكونية وقوع الخلاف بينهم، فلا بد أن يقع قال: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ فهو يبلوهم بهذا، ثم يجازيهم عليه، وتظهر معاني أسمائه، وصفاته، فيعذب أقواماً، ويرحم آخرين، فالشاهد أن هذا المعنى معنىً له وجه، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، ومن نظر إلى أن المذكور آخِراً هو الرحمة وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۝ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ قال: للرحمة خلقهم، وهذا - والله أعلم - دون الأول، وبعضهم قال: لمجموع الأمرين: للرحمة، وللاختلاف، وهذا ليس بمستبعد باعتبار أن الله قد اقتضت حكمته، ومشيئته؛ أن يوجد هذا وهذا، فرحمته لأهل الإيمان، وأتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وغضبه لغيرهم، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ للاختلاف، وللرحمة - والله أعلم -.

"وقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه، وقدره - لعلمه التام، وحكمته النافذة - أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن، والإنس، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة".

"قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: ثبتت كلمة ربك، والمقصود بكلمة الله التي ثبتت مفسرَّة بما بعدها لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قضى الله ذلك، وقدّره فلا بد من وقوعه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟، وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع عليها رب العزة قدمه، فتقول: قطْ قطْ، وعزتك[5]".

هذا الحديث باعتبار الغالب، أغلب أهل النار من الكبراء، والمجرمين الكبار، وأهل الجنة من الضعفاء، وإلا فيوجد في الجنة من أئمة العدل وليسوا من الضعفاء، ويوجد فيهم من قادة أهل الإيمان، ومن المجاهدين في سبيل الله، والنار يوجد فيها من سقط الناس، ومن ضعفائهم كما ذكر الله حال الأتباع، والمتبوعين، ومحاجتهم في النار، فالكلام باعتبار الأغلب.

  1. رواه أبو داود برقم (4596)، كتاب السنة، باب شرح السنة، عن أبي هريرة ولفظه: افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، وصحح هذا اللفظ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (203)، وابن ماجه برقم (3992)، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، والترمذي برقم (2641)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - ا - بلفظ: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق الأمة، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1348)، والحاكم في المستدرك (1/218)، برقم (444).
  2. رواه أبو داود برقم (4252)، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، والترمذي برقم (2229)، وقال: وهذا حديث حسن صحيح، كتاب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الأئمة المضلين، وأحمد في المسند (28/94)، برقم (16881)، وقال محققوه: حديث صحيح، وبرقم (19851)، (33/83)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم في المستدرك (4/593)، برقم (8653)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (270)، وفي صحيح الجامع برقم (1773).
  3. رواه ابن ماجه برقم (3993)، من حديث أنس بن مالك ، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، وأحمد في المسند (19/241)، برقم (12208)، وقال محققوه: حديث صحيح بشواهده، والحاكم في المستدرك (1/218)، برقم (443)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2042).
  4. انظر: تفسير القرآن العظيم (2/565)، للحافظ ابن كثير، تحقق: محمود حسن، دار الفكر للنشر والتوزيع.
  5. رواه البخاري برقم (7011)، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله - تعالى -: إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف:56]، بدون زيادة: وعزتك، ولفظه: اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة: يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس، وسقطهم؟ وقالت النار - يعني أوثرت بالمتكبرين -، فقال الله - تعالى - للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد ثلاثاً، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ، ويرد بعضها إلى بعض، وتقول: قطْ قطْ قطْ، ورواه برقم (4569)، ولفظه: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسقطهم؟، قال الله - تبارك وتعالى للجنة - أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قطْ قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً، كتاب التفسير، باب قوله: وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [سورة ق:30]، ومسلم برقم (2846)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.