السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا۟ فِيهَا وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15-16].

قال العوفي عن ابن عباس - ا - في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً، يقول: من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً، أو صلاة، أو تهجداً بالليل؛ لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله - تعالى -: أوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله للتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين، وهكذا روي عن مجاهد، والضحاك وغير واحد، وقال أنس بن مالك، والحسن: "نزلت في اليهود، والنصارى"، وقال مجاهد وغيره: "نزلت في أهل الرياء"، وقال قتادة: "من كانت الدنيا همه، ونيته، وطليبته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاءً، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة"، وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ۝ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ۝ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:18-21]، وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20]".

قوله - تبارك وتعالى -: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15-16].

اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية، فحملها بعضهم على الكفار؛ لأن الإنسان لا يخلو من إرادة للحياة الدنيا، وزينتها، وقد قال عن أهل بدر وهم خيار أهل الأرض: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [سورة الأنفال:67]

ومن أهل العلم من حملها على أهل الرياء؛ ولهذا لما حُدِّث معاوية بن أبي سفيان بحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة فبكى معاوية  بكاءً شديداً حتى ظنوا أنه هلك من شدة البكاء، ثم أفاق، ومسح عن وجهه، وقال: "صدق الله، ورسوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15]"[1].

فحملها معاوية على أهل الرياء، ولا يعنى هذا أن أعمال أهل الرياء تحبط جميعاً، بل يعذبون على قدر معصيتهم، أو تكون لهم حسنات ماحية، ولا يخلدون في النار إلا إذا وقع الرياء في أصل الإيمان.

ومن أهل العلم من قال: معنى هذه الآية من كانت الدنيا غايته، وطلبته، ومنتهى مناه، فإنه لا يعمل إلا من أجلها، فمن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يعطي، ومن أجلها يمنع، فهذا ليس له في الآخرة إلا النار، ولهذا جاء في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وذكر الآية.

وقوله - تبارك وتعالى -: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [سورة هود:15] يعني: من كان يريد الحياة الدنيا تُوفّ كاملة إليه، ولا يبخس منها شيئاً، وهذه الآية كقوله: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20]، ومثل قوله: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [سورة آل عمران:145]، وهذه الآيات مطلقة ورد تقييدها في سورة الإسراء: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [سورة الإسراء:18]، ولذلك أكثر الخلق ليس لهم همٌ إلا الدنيا وهم فقراء.

  1. رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (4 / 591)، برقم (2382)، وصححه الألباني.