السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِۦ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِۦ مِنَ ٱلْأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُۥ ۚ فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ ۚ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة هود:17].

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله - تعالى - التي فطر عليها عباده من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [سورة الروم:30] الآية.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟[1] الحديث.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله ﷺ قال: يقول الله - تعالى -: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، فالمؤمن باق على هذه الفطرة[2].

قوله: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] أي: وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة، المكملة المعظمة، المختتمة بشريعة محمد - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين -، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها، وتؤمن بها، ولهذا قال تعالى: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي ﷺ، وبلغه النبي ﷺ إلى أمته".

فقوله - تبارك وتعالى -: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] الذي هو على بينة من ربه هو من كان على الفطرة، والشاهد هو الوحي وهو القرآن، والمراد بقوله: عَلَى بَيِّنَةٍ أي: أن الله أودع في هذا الإنسان الفطرة، فاجتمع نور الفطرة مع نور القرآن، فأبصر الحق، ولم يلتبس عليه.

وقوله: وَيَتْلُوهُ أي: يعقبه نور الوحي.

وقال بعض أهل العلم في قوله - تبارك وتعالى -: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ هو طالب الآخرة، وبعضهم فسر هذه الآية بمعنى أخص فقال: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ هو النبي ﷺ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ هو جبريل ﷺ.

وقال بعض أهل العلم: الضمير في يَتْلُوهُ راجع إلى البينة، والضمير في مِّنْهُ راجع إلى القرآن، وقال بعضهم: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ أي: شاهد من الله، وقال بعضهم: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ أي: من الإنجيل، وذلك أن عيسى بشر بالنبي ﷺ، وقد قال النبي ﷺ: أنا دعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وبشارة عيسى[3]، والآية تحتمل جميع هذه الأقوال.

"ثم قال تعالى: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى [سورة هود:17]، أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة".

وبعض أهل العلم قال في معنى قوله: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى: يعني: ومن قبله شاهد آخر وهو كتاب موسى يشهد بصحة نبوته - عليه الصلاة والسلام -.

وفي قول الله - تبارك وتعالى -: أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ [سورة هود:17] مقدر وهو: خيرٌ أم ذلك الذي على ضلالة، وكفر، وإعراض، وتخرص، وجهل، وقول على الله بلا علم؟

"قوله: إَمَامًا وَرَحْمَةً [سورة هود:17] أي: أنزله الله - تعالى - إلى تلك الأمة إماماً لهم، وقدوة يقتدون بها، ورحمة من الله بهم، فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن؛ ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة هود:17]، ثم قال متوعداً لمن كذب بالقرآن، أو بشيء منه: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17] أي: ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم، وكافرهم، وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم، وأشكالهم، وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [سورة الأنعام:19]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [سورة الأعراف:158]، وقال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار[4].

وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن النبي ﷺ على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال: تصديقه - في القرآن، فبلغني أن النبي ﷺ قال: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني؛ ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار، فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ قال: وقلما سمعت عن رسول الله ﷺ إلا وجدت له تصديقاً في القرآن، حتى وجدت هذه الآية: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، قال: من الملل كلها[5].

وقوله: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة هود:17] الآية، أي القرآن حق من الله لا مرية، ولا شك فيه كما قال تعالى: الم ۝ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة:1-2]، وقال تعالى: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:1-2]، وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة هود:17]، كقوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116]، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة سبأ:20]".

قوله: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ [سورة هود:17] سبق الكلام على هذه المسألة، وقال بعض أهل العلم: هذا الخطاب لأمته ﷺ.

  1. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين (1 / 465)، برقم (1319)، ورواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (4 / 2047)، برقم (2658).
  2. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4 / 2197)، برقم (2865).
  3. رواه الحاكم في المستدرك (2 / 453)، برقم (3566).
  4. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس (1 / 134)، برقم (153).
  5. رواه الحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة هود (2 / 372)، برقم (3309).