"وقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا [سورة هود:19] أي: يردون الناس عن اتباع الحق، وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله ، ويجنبونهم الجنة، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أي: ويريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة، وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [سورة هود:19] أي: جاحدون بها، مكذبون بوقوعها، وكونها.
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء [سورة هود:20]، أي: بل كانوا تحت قهره، وغلبته، وفي قبضته، وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [سورة إبراهيم:42]، وفي الصحيحين: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته[1]".
قوله - تبارك وتعالى -: وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أي: يريدون أن يكون طريقهم عوجاً غير معتدلة، والضمير في يَبْغُونَهَا يرجع إلى السبيل، وهذه الآية بعموم لفظها تصدق على كل من صد عن سبيل الله ، ومن ضلل الناس بكتاباته، وضاق ذرعاً بشرائع الإسلام فلبّس على الناس، وشككهم في دينهم، وضللهم، وأغراهم بالفساد، والشر، والمنكر، ودعا المرأة إلى التمرد، والاختلاط، ومزاحمة الرجال، ونزع الحجاب، واستهزأ بالآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وجمعيات التحفيظ، والحفظة لكتاب الله، والدعاة إلى الله - تبارك وتعالى -.
قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه، وعلى كل نهي ارتكبوه"، هذا باعتبار قول الله : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المدثر:42-46]، ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة مسألة خلافية بين علماء الأصول.
ولا شك أن أهل النار يتفاوتون في العذاب، وقد قال الله : وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:8].
قوله - تبارك وتعالى -: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] أي: لا يستطيعون السمع؛ لأنهم عُمي عن رؤية الحق، وصم عن سماعه، فلهم سمع لم ينتفعوا به، ولهم بصر لم ينتفعوا به.
ويحتمل أن يكون معنى قوله: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أنهم من شدة عداوتهم للنبي ﷺ لم يكونوا يستطيعون السمع، فلا يتحملون أن يسمعوا كلامه، ولا يطيقون النظر إليه.
قال العلامة الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه، بعضها يشهد له القرآن:
الأول: وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره، ونقله عن ابن عباس - ا - وقتادة أن معنى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع، ولا أن يبصروه إبصار مهتدٍ، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله - تعالى -، وقد كانت لهم أسماع، وأبصار، ويدل لهذا قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [سورة الأحقاف:26] الآية.
الثاني: وهو أظهرها عندي أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم، وأسماعهم، والغشاوة التي جعل على أبصارهم، ويشهد لهذا القول قوله - تعالى -: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [سورة الإسراء:46]، ونحو ذلك من الآيات.
وذلك الختم والأكنّة على القلوب جزاء من الله - تعالى - لهم على مبادرتهم إلى الكفر، وتكذيب الرسل باختيارهم، ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله: بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [سورة النساء:155]، وقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5]، وقوله: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10] الآية، وقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [سورة التوبة:125]، وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
الثالث: أن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي: لشدة كراهيتهم لكلام الرسل، على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له، ويشهد لهذا القول قوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [سورة الحج:72]، وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ [سورة فصلت:26] الآية، وقوله: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [سورة نوح:7] الآية.
الرابع: أن "مَا" مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا، ويبصروا، أي: يضاعف لهم العذاب دائماً.
الخامس: أن "ما" مصدرية في محل نصب بنزع الخافض؛ أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع، والإبصار في دار الدنيا، وتركوا الحق؛ مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم، وأبصارهم.
السادس: أن قوله: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [سورة هود:20] من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله، فيكون متصلاً بقوله: وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء [سورة هود:20]، وتكون جملة: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ اعتراضية.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة هود (4 / 1726)، برقم (4409)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (4 / 1997)، برقم (2583).