الملأ هنا من الكافرين، وإلا فالملأ لا يلزم أن يكونوا كفاراً، فالملأ هم الأشراف والكبراء، وغالباً ما يكون هؤلاء هم أعداء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
هذه الآية كقوله: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [سورة المؤمنون:47] في موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، وقوله: أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، وقوله: قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً [سورة فصلت:14]، والآيات في هذا كثيرة، فهم يتعجبون، ويستنكفون أن يكون الله - تبارك وتعالى - قد بعث بشراً، فرد الله عليهم في مواضع من كتابه فقال: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20]، وأخبر عن الذين بعثهم أنهم رجال يوحي إليهم، وكذلك أخبر أن الناس لا يطيقون مشاهدة الملَك فقال: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ [سورة الإسراء:95]؛ لأن الناس إن رأوا الملَك لم يستطيعوا الأخذ عنه، لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً، وقال الله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً [سورة الأنعام:9]؛ أي: لأجل أن يستطيعوا التلقي عنه، فالله أعلم وأحكم، وليس لأحد أن يقترح على الله - تبارك وتعالى -.
هذا كقوله - تبارك وتعالى - في قصة نوح - عليه الصلاة والسلام -: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء:111]، فهم يستنكفون، ويقولون: هؤلاء الأراذل هم الذين اتبعوك، وهؤلاء في مؤخرة الناس، وفي حاشيتهم، ليس لهم شأن، ولا قيمة، فكيف سبقوا إلى هذا الذي جئت به لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، فنحن أهل العقول، والنظر البعيد، والتقدم في كل خير، وفضيلة، فكيف يسبق إليك هؤلاء الأعبُد، والبسطاء، والأراذل الحقراء، ويكون الذي جئت به هو الحق؟ يظنون أن المقاييس في اتباع الحق ومعرفته هي بما يملكه الإنسان من أموال، وما يتنعم به في هذه الحياة الدنيا، لكن الأمر عند الله يختلف عن هذا، وهذا الاستنكاف وقع في قوم نوح، ووقع أيضاً للذين بُعث فيهم النبي ﷺ، وقالوا له: أبْعِد عنا، واطرد عنا؛ هؤلاء النتْنى.
ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في اتبعك هؤلاء الأراذل بَادِي الرَّأْيِ أي: من غير تعمق، ولا نظر، ولا روية، ولا فكر، وإنما دعوتهم إلى شيء فهرولوا خلفك، ليس عندهم عمق في النظر، والتقصي، والتفكير، والتمييز بين معدن الحق، ومعدن الباطل؛ ولذلك اتهموهم، ولمزوهم في بعض الآيات، ويدل عليه أنهم إنما اتبعوه لأشياء يريدونها فقط ليأكلوا عنده طعاماً، أو يجدوا عنده شيئاً من متاع الدنيا، ولم يكونوا مخلصين، صادقين في اتباعهم لهذا النبي - عليه الصلاة والسلام -، هكذا في زعمهم؛ ولهذا يأتي الرد عليهم بأنه لا يعلم ما في نفوسهم، وأن حسابهم إلى الله - تبارك وتعالى -، طبعاً ويحتمل أن يكون المراد بقول: بَادِي الرَّأْيِ أي: فيما يبدو لنا من النظر والرأي وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا أي: فيما يبدو لنا، فهم ليسوا بهذا المستوى من الأدب، والتواضع؛ حتى يتكلموا بهذه الطريقة.
قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلْق، ولا خُلُق، ولا رزق، ولا حال؛ لمّا دخلتم في دينكم هذا" أي: ما رأيناكم تميزتم حينما دخلتم في هذا الدين، ويمكن أن يكون المعنى: أنه ما المؤهل لكم أن تتقدموا بهذا الفضل فتحصل لك النبوة، والرسالة، وأنت بشر؛ لا نراك تتميز علينا، ولا نرى لهؤلاء الذين تزعم أنهم صاروا إلى الحق، لا نرى لهم أي فضل علينا، فهم يخاطبون النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن معه من أهل الإيمان، فيقولون: ليس لكم منقبة ومزية حتى يحصل لكم مثل هذا الأمر الكبير الذي تقولون إنكم عليه من أنك يوحى إليك، وأن الله اختارك من بين سائر الخلق، وأن هؤلاء الذين اتبعوك لهم المنازل العالية عند الله ، ما نرى شيئاً فضلكم علينا لمّا دخلتم في الإيمان ما رأينا شيئاً حصل، بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ أنتم تقولون على الله هذا، ولكن لا حقيقة له.
"ثم الواقع غالباً أن ما يتبع الحقَّ ضعفاءُ الناس، والغالب على الأشراف، والكبراء مخالفته كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي ﷺ قال في ما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم: بَادِي الرَّأْيِ ليس بمذمة،ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي، ولا للفكر؛ مجال، بل لا بد من اتباع الحق، والحالة هذه لكل ذي زكاء، وذكاء، بل لا يفكر هاهنا إلا غبي، أو عيِيٌّ، والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعون - إنما جاءوا بأمر جلي واضح.
وقوله: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عميٌ عن الحق لا يسمعون، ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، وفي ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون، الأقلون الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون".