الأحد 04 / ذو الحجة / 1446 - 01 / يونيو 2025
إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى -: تفسير سورة هود ، وهي مكية.

روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس - ا - قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت[1]، وفي رواية: هود وأخواتها[2].

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۝ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ۝ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ۝ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة هود:1-4].

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.

وأما قوله: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ أي: هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل سورة ومعنى، هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير.

ومعنى قوله: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي: من عند الله الحكيم في أقواله، وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور".

أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36].

وقوله: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي: إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ صعد الصفا فدعا بطون قريش، الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال: يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبحكم ألستم مصدقيّ؟، فقالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد[3].

وقوله: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي: وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة، والتوبة منها إلى الله فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك، يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً أي: في الدنيا، إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي: في الدار الآخرة؛ قاله قتادة، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97] الآية.

وقوله: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله - تعالى -، وكذّب رسله، فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة".

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي: معادكم يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أي هو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعداءه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام الترهيب، كما أن الأول مقام ترغيب".

فأقرب الأقوال في الحروف المقطعة أنها حروف تهجٍّ لا معنى لها في نفسها، وإنما تشير إلى الإعجاز، وأن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام، وأنتم عاجزون عن الإتيان بمثله، وعلى هذا جماعة من المحققين، ويستدل لهذا بما ورد من ذكر القرآن بعد ذكر هذه الحروف في عامة المواضع؛ إلا في نحو موضعين، ويمكن أن يحمل في هذين الموضعين على الوحي أو القرآن، فهذا القرآن مركب من هذه الحروف الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:1-2]، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [سورة آل عمران:1-3]، وهكذا في سائر المواضع، ومن أوضحها كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، وحينما يقال بأن هذه الحروف حروف تهجٍّ لا معنى لها لا يرد على الذهن أن في القرآن شيئاً ليس له معنى، يعني أنه حشو، فالقرآن منزه عن الحشو، لكن هذه حروف تهجٍّ، وحروف التهجي في لغة العرب ليس لها معنى، لكن ليس في القرآن كلام مركب لا معنى له، والحروف منها حروف معانٍ مثل حروف الجر كـ" من، وإلى، وعن، وعلى"، ومنها ما هي حروف مبانٍ مثل: "الفاء، والسين، والراء"، فبالنظر إلى هذه الحروف ليس لها معنى في نفسها، وإنما يركب منها الكلام، أما حروف المعاني فكما يقول النحاة: الكلام مكون من اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، ثم يعرفون الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، ولم يقترن بزمن، وهذا فيه نظر، وإن كان مشهوراً عند النحاة فهو له معنى في نفسه، ففي تدل على الظرفية، وعلى تدل على العلو، ونحو هذا، فحروف التهجي لا معنى لها في نفسها قطعاً، فليس في القرآن شيء مما يرد في كلام العرب لمعنى وليس له معنى، لا يوجد فيه حروف معانٍ ليس لها معنى، ولا يوجد فيه أسماء، ولا أفعال، ولا تراكيب ليس له لها معنى، قال صاحب مراقي السعود:

"ولم يكن في الوحي حشو يقع.."

يقول - رحمه الله - في معنى: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ: اختلف المفسرون في معنى الإحكام؛ وبناءً على ذلك وقع الاختلاف في معنى ثُمَّ هل هي للترتيب، يعني الترتيب من حيث الوقوع، حصل كذا ثم بعد ذلك حصل كذا، من أهل العلم من يقول: أُحْكِمَتْ أي إن أولها محكم، ذكر فيه هذه القضايا الكلّية، أمرهم بالاستغفار، والتوبة؛ وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك فصّل بما حصل بين النبي ﷺ وأعدائه، وما حصل لأعداء الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فقالوا: هذا التفصيل، فعلى هذا التفسير تكون ثُمَّ للتعقيب، يعني أن أولها أحكم، ثم بعد ذلك جاء التفصيل فيما وقع بين النبي ﷺ وبين هؤلاء الكفار، ومن أهل العلم من فسر الإحكام بمعنى أنها لم تنسخ، ومن أهل العلم من ذكر لها معنى آخر في الاستعمال كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، لكن المشهور أنها ترجع إلى معنى المنع، فإذا قلت: الحكمة فهي صفة تمنع صاحبها ومن تحقق بها من الشطط في القول، والخطل في الرأي؛ ولذلك يقولون: الحكمة هي الصواب في القول، والعمل، وإذا قلت: هذا الكلام محكم؛ بمعنى أنه منع منه النقص، والعيب، والخلل في ألفاظه، وفي معانيه، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ فالله وصف القرآن بأنه محكم، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [سورة الزمر:23]، ووصفه بالتشابه يعني يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والبلاغة، والفصاحة، ووصفه أيضاً بأنه محكم باعتبار أنه في غاية الفصاحة، والبلاغة، والإحكام، لا يتطرق إليه عيب، ولا نقص، ولا خلل؛ لا في ألفاظه، ولا معانيه، وقال في آل عمران مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [سورة آل عمران:7]، فالمحكمات هي التي تقابل الآيات المنسوخة، ومن أهل العلم من نظر إلى هذا وقال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ أي: لم تنسخ، ومنهم من نظر إلى أصل المعنى اللغوي من الإحكام كما ذهب إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -؛ لأن الإحكام الذي يقابل النسخ هو معنىً خاص، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ أي: هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، محكمة في لفظها يعني أن لفظها في غاية الإحكام، بالغٌ في الفصاحة، والبلاغة غايته، لا يتطرق إليه خلل في تراكيبه، ولا في ألفاظه، ليس فيه لفظ ينبو عنه السمع، ولا يعاب، ولا يتطرق إليه لحن، أوخلل، ومن جهة المعنى أيضاً ليس فيه تناقض، وتعارض؛ ولهذا نفى الله عنه الريب بقوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، ولا يدعو للريب، وإنما يدعو إلى كمال اليقين، وفيه كمال اليقين.

وثُمَّ  في قوله: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ليست للترتيب، والتعقيب، فمن جهة الوقوع حصل الإحكام، ثم بعد ذلك حصل التفصيل، وتكون للترتيب في مثل اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، أي: استغفروا ربكم، ومع ذلك توبوا إليه، كما قال تعالى أيضاً: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17] يعني: فوق ذلك؛ لأن الإيمان أصلاً يكون سابقاً، وقوله: فُصِّلَتْ أي: معانيها، وأُحْكِمَتْ ألفاظها، يقول: "هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة، واختاره ابن جرير"، وإن كانت عبارة مجاهد وقتادة تختلف بعض الشيء عما ذكره الحافظ ابن كثير لكن عند التأمل هي ترجع إلى هذا المعنى، وقول ابن جرير - رحمه الله -: إنها أحكمت ألفاظها يعني من الباطل منعت، ثم فصلت بالأمر، والنهي؛ تشبه عبارات بعض السلف، وابن كثير - رحمه الله - يقول: "محكمة في لفظها، مفصلة في معناها"، وكلام ابن كثير لا يعارض هذا، ولا يعارض الأقوال التي أشار إليها عن السلف، وكلامه مجمل، إذا كانت محكمة في لفظها فمعنى ذلك أنها منعت من الباطل، في عبارات قوية فصيحة، رصينة محكمة، والمعاني مفصلة، المعاني فيها الأمر والنهي؛ كما قال ابن جرير، فيها القصص، والأمثال، فيها الأخبار، والتفاصيل التي تتعلق بالعقائد، صفات الله دلائل القدرة والوحدانية، وما أشبه ذلك من الأمور، كل هذا من التفاصيل التي جاءت في هذا القرآن، واختاره ابن جرير - رحمه الله -.

يقول: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ۝ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ بعض أهل العلم يقول: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ مفعول له؛ حذفت منه اللام يعني كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ لئلا تعبدوا إلا الله، وهذا القول له وجه من النظر، وبعضهم يقول: إن "أنْ" هذه في أَلاَّ تَعْبُدُوا مفسرة، و "أن" المفسرة هي التي تأتي بعد القول الذي لم تذكر حروفه أي إذا ذكر بمعناه تكون همزة "أن" مفتوحة كقوله: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [سورة مريم:11]، فكلمة أوحى فيها معنى القول، وإذا ذكر القول بحروفه تأتي همزة "إن" مكسورة كقول الله: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [سورة مريم:30]، وقوله: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء [سورة البقرة:69] فالتفصيل فيه معنى القول، فمن نظر إلى هذا قال: إن "أنْ" هذه هي المفسرة، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، ثم جاء تفسير هذا التفصيل أو الإحكام أو هما معاً أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ، وبعضهم يقول: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بألا تعبدوا إلا الله، وهذا قول الكسائي، وابن جرير يقول قريباً من هذا القول، لكنه يجعل ذلك مرتبطاً بالتفصيل، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ  بألّا تعبدوا إلا الله، وقيل غير هذا.

وقوله: فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يعلم بعواقب الأشياء، وخباياها، وخفاياها، فلا يتطرق إلى تفصيله، وإحكامه، وأمره، ونهيه؛ شيء من الشك؛ لأن الإنسان عادة يرتاب ويشك من إحدى جهتين حينما يؤمر بشيء، إما أنه يتخوف من جهة نقص العلم، أن الذي أمره معلوماته قد تكون خطأ، لأن هذا الشيء الذي أمر به في نفسه غير صحيح، أو يتخوف من جهة الحكمة، قد يكون هذا الشيء الذي تقوله الآن صحيحاً لكن ليس في هذا الوقت، مع أنه في نفسه حق، لكن الله لا يرِد عليه لا هذا ولا هذا، لا نقص في العلم، ولا في الحكمة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، ولذلك إذا أمر بشيء ينبغي أن يُتلقى مباشرة بكل ثقة، ولا يقال: هذه ما تصلح، هذه تؤدي إلى مفاسد، هذا يمكن أن يرد في كلام الناس، غير الوحي تقول فيه: قد يخطئ فلان فهم القضية، قد يقول كلاماً حقاً لكن لا يصلح لفلان من الناس، لا يصلح للبيئة الفلانية، لا يصلح لكذا.

قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله: أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ "أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، كقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [سورة الأنبياء:25]، وهذا تفسير جيد، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فجاء الأمر بالتوحيد وغيره، لكنه ذكر التوحيد لأن كل ما يذكر من الأمر والنهي عائد إليه، فيذكر القصص، والأمثال وغير ذلك، من أجل أن يتعظوا، ويعتبروا، وينقادوا، ويستجيبوا لله - تبارك وتعالى - إذا دعاهم لعبادته، وما يذكره من أسمائه، وصفاته، ودلائل قدرته كل ذلك راجع إلى التوحيد، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله -: "جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح لأسماء الله، وصفاته"، ولهذا قيل: "إن سورة الفاتحة ترجع إليها جميع معاني القرآن، وأن جميع معاني الفاتحة ترجع إلى قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]"، وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ هو عين التوحيد، فرجع إلى التوحيد، ولهذا قال شارح الطحاوية: "إن التوحيد هو أول الأمر، وآخره".

وقوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى من أهل العلم من يقول: يستغفرون عما مضى، ويتوبون في المستقبل، وقيل غير ذلك، وقوله - تبارك وتعالى -: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا أصل الإمتاع الإطالة؛ ولهذا تقول: متّعنا الله بك يعني أطال الله بقاءك، ونفْعك، فهذا أصل الإمتاع، يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا "متاعاً حسناً" يعني الحياة الطيبة الكريمة، وطيب العيش، وسعة الرزق، يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا قال: "أي في الدنيا"، إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: الموت، وبعضهم يقول: إلى القيامة، والأقرب أنه إلى الموت؛ لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وعندئذ يلقى جزاءه بعد ذلك وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، كقوله تعالى كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل:97] يعني: بعضهم قال: في الدنيا، وبعضهم قال في الآخرة، ولا مانع أن يكون ذلك جميعاً في الدنيا والآخرة، فالحياة الطيبة تحصل له في الدنيا، وتحصل له في الآخرة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"[4]، فهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -، وهذه الآية نظير قول هود ﷺ: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [سورة هود:52]، فزيادة القوة، وإدرار الأرزاق في الدنيا، من قوله: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا، كما قال الله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96]، وكذلك في قول نوح ﷺ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ۝ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ۝ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح:10-12]، هذا كله من المتاع الحسن الذي يكون في الدنيا، وما يعقبه في الآخرة من الجنة، والنعيم.

  1. رواه الترمذي برقم (3297)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الواقعة، والحاكم في المستدرك (2/374)، برقم (3314)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (955)، وفي صحيح الجامع برقم (3723).
  2. رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/123)، برقم (318)، وقال الألباني: "سنده جيد" كما في السلسلة الصحيحة برقم (955).
  3. رواه البخاري برقم (4523)، كتاب التفسير، باب قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سورة سبأ:46]؛ ومسلم برقم (208)، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء:214]، من حديث ابن عباس - ا - ولفظهما قال: صعد النبي ﷺ الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش قالوا: ما لك؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقونني؟، قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
  4. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/180)، والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، للكرمي (34).