الجمعة 02 / ذو الحجة / 1446 - 30 / مايو 2025
أَلَآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا۟ مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة هود:5].

قال ابن عباس - ا -: كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم، وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية، روى البخاري من طريق ابن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس - ا - قرأ: "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم"، فقلت: يا أبا العباس ما "تَثْنوني صُدُورُهُم"؟ قال: الرجل كان يجامع امرأته فيستحي، أو يتخلى فيستحي، فنزلت: "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم"[1]، وفي لفظ آخر له قال ابن عباس - ا -: "أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء؛ فنزل ذلك فيهم[2].

وروى البخاري عن ابن عباس - ا -: يَسْتَغْشُونَ يغطون رؤوسهم[3]".

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس في سبب النزول له حكم الرفع؛ لأنه بلفظ صريح، والمعنى أن هؤلاء الناس يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ: يعني حياءً من الله ليكون ظهره حائلاً بين عورته وبين السماء، يستحي من الله فينزل ظهره حينما يقضي حاجته، أو حينما يريد أن يجامع؛ فهو يستحي من الله أن ينظر إلى عورته؛ وهذا لجهلهم، فالله لا يخفى عليه من أمرهم خافية، فرد الله عليهم لفعلهم هذا: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ يعني: حينما يلتحف في فراشه الله يعلم ماذا يحصل تحت هذا اللحاف، وما يتلجلج في نفسه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة النحل:23] لا يخفى عليه خافية، فهذا معنى، وذكر هذه القراءة: "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم" تثنونِي يعني تنثني صدورهم، وهي قراءة غير متواترة، وفيها قراءات أخرى غير متواترة، وبعض أهل العلم حملها على المنافقين، لكن هذه السورة مكية، ولم يكن في أهل مكة نفاق، وقال بعضهم: هذه في المنافقين إذا رأوا النبي ﷺ استغشوا ثيابهم، فيغطون وجوههم؛ لئلا يراهم النبي ﷺ فيدعوهم إلى الإيمان، كما قال نوح - عليه الصلاة والسلام - عن قومه: وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ[سورة نوح:7]، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ إصراراً ألا يسمعوا، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ يعني: غطوا وجوههم ورؤوسهم بهذه الثياب من أجل أن لا يروه ﷺ، وبعضهم يقول: إنهم يفعلون ذلك لشدة بغضهم له، لا يحبون رؤيته؛ لأن البغض إذا كان قوياً مستحكماً فإن الإنسان لا يطيق معه النظر إلى من يبغضه، وبعض أهل العلم يقول: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ العرب تعبر بمثل هذا ويقصد به الإعراض، فإذا رأوه حادوا، ومالوا عنه؛ لئلا يسمعوا كلامه، حمله بعض أهل العلم على هذا المعنى معنى الانحراف، وبعضهم قال: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كناية عما يطوونه في صدورهم ويكنونه في قلوبهم، وتنطوي عليه ضمائرهم من الكفر، والتكذيب، والضمير في قوله: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يحتمل أنه يرجع إلى النبي ﷺ، يستغشون ثيابهم إذا رأوه من شدة البغض ليستخفوا منه، أو يستغشونها من أجل ألا يوجِّه خطاباً لهم؛ لئلا يأمرهم بالإيمان، ويدعوهم، ويحتمل أن يكون الضمير يرجع إلى الله على المعنى الذي ذكره ابن عباس - ا - مثلاً، أنه لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي: من الله حينما يميل بظهره فيظن أنه يستر عورته عن الله ، وكذلك قول من قال: إن ما تنطوي عليه ضمائرهم من الكفر يظنون أنه يخفى على الله ، ويحتمل أنه يقصد به استخفاء ذلك عن النبي ﷺ؛ ولهذا حمله بعضهم على المنافقين، قال: الكفار ما كانوا يكنّون هذا، ويخفونه؛ بل يجاهرون بالعداوة، والكفر، ويعلنون ذلك صراحة، إنما كان الذي يخفيه هم أهم النفاق، فإذا حملنا الآية على المعنى الذي ورد فيه سبب النزول فيمكن أن يكتفى به، وإن كان ورد بعض الروايات لكنها لم تصح في مثل ما ذكر بأنهم كانوا إذا رأوا النبي ﷺ غطوا، لكن لا يصح شيء في هذا، وابن جرير - رحمه الله - حمل ذلك على أن يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ إشارة إلى ما ينطوي فيها من الكفر، والتكذيب، وإذا صحت هذه الرواية - الرواية التي أوردها في سبب النزول وهي صحيحة - فيكفي هذا - والله أعلم - في تفسير الآية.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما يجول في القلوب، وما يوجد فيها من الخوف، والكفر، أو الإيمان أو نحو هذا.

  1. رواه البخاري برقم (4405)، كتاب التفسير، باب أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
  2. رواه البخاري برقم (4404)، كتاب التفسير، باب أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
  3. رواه البخاري برقم (4406)، كتاب التفسير، باب أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.