قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوَاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف: 105-107].
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله، ودلائل توحيده؛ بما خلقه الله في السموات، والأرض؛ من كواكب زاهرات، ثوابت، وسيارات، وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة، ومختلفات؛ في الطعوم، والروائح، والألوان، والصفات، فسبحان الواحد الأحد، خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام، والبقاء، والصمدية للأسماء، والصفات، وغير ذلك.
وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ قال ابن عباس - ا -: "من إِيمانهم أنهم إِذا قيل لهم: مَن خلق السموات، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون به"، وكذا قال مجاهد، وعطاء وعكرمة، والشعبي وقتادة، والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وفي الصحيح: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"[1]، وقال الله - تعالى -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] وهذا هو الشرك الأعظم، يعبد مع الله غيره كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي: الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك[2].
وقال الحسن البصري في قوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ قال: "ذلك المنافق يعمل - إِذا عمل - رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك، يعني قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:142]، وثَمّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالباً فاعله كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً، فقطعه - أو انتزعه - ثم قال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَهُمْ مّشْرِكُونَ، وفي الحديث: من حلف بغير الله فقد أشرك[3] رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر - ا -، وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرقى، والتمائم، والتولة؛ شرك[4]، وفي لفظ لهما: الطيرة شرك، وما منَّا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل[5].
وقوله: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الآية أي: أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة النحل:45-47]، وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:97-99]".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كأيٍّ هذه الكلمة مركبة من كاف التشبيه، و"أي"، وصارت بعد ذلك تستعمل استعمال اللفظة الواحدة بمعنى "كم" التي للتكثير، وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ أي: وكم من آية فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ بمعنى: أنها لا تلفت أنظارهم، ولا يتفكرون فيها، ولا يقفون عندها، وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن ابن عباس - ا - قال: "من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات، من خلق الأرض، من خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون به"، ونسب هذا إلى كثير من السلف، وذكر قولهم في التلبية "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فهذا هو معنى الآية - والله تعالى أعلم -.
وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ لا إشكال فيه؛ لأن الله - تبارك وتعالى - عندما ذكر هذا الإيمان ذكره بهذه الصفة وهي الإشراك، ومعلوم أن الإشراك ينافي الإيمان، فلا يقال: كيف أثبت لهم الإيمان مع الشرك؛ لأن الإيمان المثبت هو الإيمان اللغوي، الإيمان المنخرم، الإيمان الذي لا ينجي، ولا ينفع صاحبه في الآخرة، فلا شك أن المشركين عندهم شيء من الإيمان، ولكنه ليس بإيمان تحصل به النجاة، ويتحقق به التوحيد الخالص لله - تبارك وتعالى -، ولذلك هؤلاء يثبتون مثلاً توحيد الربوبية، وكثيراً من أسماء الله قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25]، فهذا من الإيمان، ولكنه إيمان لا يكفي، لا تحصل به النجاة؛ ولهذا جاءت الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لأقوامهم: اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:65]، فلما سمعوا هذا استنكفوا، وأبوا، وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص:5]، فكانوا يشركون بالله - تبارك وتعالى - في إلهيته، وإن كانوا يقرون في الجملة بربوبيته، فالإيمان المثبت هنا يمكن أن يقال: هو الإيمان بالمعنى اللغوي، وليس الإيمان الشرعي الذي تحصل به النجاة؛ لذا أثبت لهم الإيمان مع الإشراك، والمعنى الآخر الذي ذكره بعد ذلك هو كلام الحسن البصري - رحمه الله -، أن هذه في أهل النفاق وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ يعني: يؤمنون إيماناً ظاهراً مع انطواء قلوبهم على الكفر، وليس هذا هو المراد، - والله تعالى أعلم -؛ لأن هذه السورة مكية، والنفاق وجد في المدينة، ولا يمكن أن يقال: إن المقصود بهم المنافقون أو المؤمنون الذين قد يقع منهم الإشراك: بالحلف بغير الله، أو برياء، فهذه الآية في الكفار، فالرياء أو الحلف بغير الله يقع من أهل الإيمان، ولكنه لا يفسد إيمانهم إلا إذا كان الرياء في أصل الإيمان، فالشاهد أن معنى الآية هو ما ذكره أولاً، وهو الذي يدل عليه القرآن في مواضع كثيرة - والله تعالى أعلم -، ثم قال: أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ فسر الغاشية بقوله: "أي: بأمر يغشاهم من حيث لا يشعرون" بأمر يغشاهم، وهذا جيد، حملها على معنىً عام يدخل فيه ما يذكره السلف ، فالغاشية بعضهم يقول: ما يغشاهم من العذاب الذي ينزل بهم، ويغمرهم، وبعضهم يقول: هي الساعة، وبعضهم يقول: هي القوارع التي تصيبهم، فهذه المعاني على كل حال ترجع إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أي: تنزل بهم نقمة من الله - تبارك وتعالى - تغشاهم، وتغمرهم.
- رواه مسلم من حديث ابن عباس - ا - برقم (1185)، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها.
- رواه البخاري برقم (4207)، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:22]، ومسلم برقم (86)، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده.
- رواه أبو داود برقم (3251)، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، وأحمد في المسند (9/276)، برقم (5375)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة محمد الكندي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6204).
- رواه أبو داود برقم (3885)، كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، وابن ماجه برقم (3530)، كتاب الطب، باب تعليق التمائم، وأحمد في المسند (6/110)، برقم (3615)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2972).
- - رواه أبو داود برقم (3910)، كتاب الطب، باب في الطيرة، والترمذي برقم (1614)، كتاب السير عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الطيرة، وأحمد في المسند (6/213)، برقم (3687)، وقال: إسناده صحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (429).