الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف:108].

يقول تعالى لرسوله ﷺ إلى الثقلين الإنس، والجن، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته، ومسلكه، وسنته وهي: الدعوة إلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين، وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ على بصيرة، ويقين، وبرهان عقلي وشرعي.

وقوله: وَسُبْحَانَ اللّهِ أي: وأُنزّه الله، وأجلّه، وأعظمه، وأقدسه عن أن يكون له شريك، أو نظير، أو عديل، أو نديد، أو ولد، أو والد، أو صاحبة، أو وزير، أو مشير - تبارك، وتقدس، وتنزه، وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً - تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [سورة الإسراء:44]".

قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أي: هذه طريقي، والطريق والسبيل تذكّر وتؤنث، هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ أي: أن سبيله الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى -، عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي هذه الآية تحتمل معنيين:

المعنى الأول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ أي: أن سبيله ﷺ، وسبيل أتباعه هو الدعوة إلى الله - تبارك وتعالى -، فأتباعه هم الدعاة إلى الله من بعده، وهذا معنىً صحيح، والله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب قال: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187]، وقال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، وقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا [سورة فصلت:33)] أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى، ومن ذلك: الآيات التي تدل على لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من الدعوة إلى الله - -.

المعنى الثاني: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ يعني:

المعنى الأول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ، ثم قال: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، يعني ذكر له صفتين: الأولى: الدعوة إلى الله، والثانية: أنه على بصيرة هو وأتباعه، يعني من أهل البصائر أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني: أنا ومن اتبعني على بصيرة على طريق واضح، وجادة مستقيمة، ليس فيها غبش، ولا لبس، ولا شك، إذا وصلتَ قلت: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي، فقوله: عَلَى بَصِيرَةٍ متعلق بـ أَدْعُو أدعو على بصيرة، ولا يحتاج إلى الترجيح بين هذين المعنيين، فكل واحد من هذين المعنيين حق، والقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالنبي ﷺ سبيله الدعوة إلى الله وهي سبيل أتباعه من بعده، والنبي ﷺ خاتم الأنبياء، فأتباعه هم الذين يحملون الدعوة من بعده، كما أن النبي ﷺ أيضاً على بصيرة هو وأتباعه بخلاف غيرهم ممن اتبعوا السبل، أو بقوا على كتب محرفة، فهؤلاء ليسوا على بصيرة كما قال الله : وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [سورة الشورى:14] يعني: الشك الذي يبعث على القلق، والتحير، والتردد، والانزعاج في النفس، فهم ليسوا على ثقة، والله يخبرنا عن مكنوناتهم، وما في نفوسهم، مع أنهم يبذلون الشيء الكثير أعني أولئك المنحرفين من دعاة النصارى، أو من كبرائهم، وقساوستهم، وكذلك اليهود مهما أظهروا من محاولة إبداء التماسك والثقة بما عندهم إلا أن الله يخبرنا عما في نفوسهم لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ، فالشاهد: أن النبي ﷺ وأصحابه على بصيرة هو وأتباعه، والمعنى الآخر: أن الدعوة على بصيرة على محجة واضحة بيّنة لا غبش فيها، ولا لبس، وهذه الشريعة جاءت - ولله الحمد - بالحق الواضح، البيّن الجلي؛ الذي لا لبس فيه، فالأصول الكبار، وكليات الشريعة، ومحكماتها، وما تتحقق به النجاة عند الله - تبارك وتعالى - هذا كله بيّنه الله بياناً واضحاً جلياً كقضايا التوحيد، والإيمان، وما يتعلق بالشرك، وما يتعلق بالأصول الكبار، وأصول الدين التي قال الله - تبارك وتعالى - فيها ممتناً على المؤمنين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [سورة المائدة:3]، فما تتحقق به النجاة بيّنه الله بياناً شافياً، وأما ما يتعلق بالجزئيات، والتفاصيل فإن الله - تبارك وتعالى - ذكر فيها مجالاً لاجتهاد العلماء، فيجتهدون، وكل من بذل وسعه في طلب الحق، واتقى الله ما استطاع فإن الله - تبارك وتعالى - يغفر له ما يقع منه من خطأ، ويأجره على اجتهاده، وإذا أصاب أعطاه أجرين، ولا يكون بذلك آثماً، ولا مؤاخَذاً، يعني إذا وقع منه الخطأ، وعلى العامة سؤال من يثقون بدينه، وعلمه؛ براءة لذمتهم، وهذا هو الواجب عليهم، وبهذا لا يلحقهم الحرج، فهذه الآية عظيمة، تضمنت هذا المعنى الكبير: أن سبيله ﷺ، وسبيل أتباعه؛ هو الدعوة إلى الله، وأن المؤمن المتبع للنبي ﷺ على محجة واضحة كما أن الدعوة إلى - تبارك وتعالى - تكون على بصيرة، وإنما يكون للإنسان من هذا بقدر ما يكون له من اتباع سبيل النبي ﷺ وهو الصراط المستقيم، وهو اتباع طريقة السلف الصالح ، وبقدر ما يحصل للإنسان من مخالفة هذه الطريقة، فإنه يكون عنده من الغبش، والانحراف، واللبس؛ بقدر ما يكون عنده من المخالفة، فكلما كان الإنسان أكثر اتباعاً كلما كان أكثر سلوكاً للصراط المستقيم، وأسعد بهذه الآية ونظائرها في كتاب الله - تبارك وتعالى -، والذين يظنون أن مناط النجاة هو بتحقيق كل جزئية من الجزئيات، وأن يكون له فيها حكم، ونظر، وقول فاصل، وإن لم يتحققوا في العلم، فهؤلاء يقع عندهم من القلق، واللبس، والتحير؛ لأنهم حملوا أنفسهم أمراً لا يمكنهم أن يحتملوه، فالكثير منهم يظن أنه مهما قلَّ علمه لا بد أن يكون له في كل جزئية، ليس في أحكام الشريعة فحسب؛ بل حتى مما يقع من أفعال الناس، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقول هذا وفعله صواب أو خطأ وما أشبه ذلك، وتبقى بعض القضايا قد تشكل عليه، فإذا تتبع هذه الأمور فإنه يقع له من المشقة، والاستشكال، والتحير، والتردد؛ في كثير من القضايا الشيء الكثير، والله لم يطالبنا بهذا، لم يأمرنا أن نحكم على كل شيء مما يجري حولنا من أفعال الناس، وأقوالهم، وتصرفاتهم، هناك أمور تتضح للإنسان فيحكم فيها، وهناك أمور تبقى، إما أنها لا تعنيه فيعرض عنها، ويشتغل بما يعنيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؛ ولهذا كان السلف يكرهون السؤال عن أمور لم تقع، أو السؤال عن أمور لا تقع إلا نادراً، والتكلف، والتمحل؛ في مثل هذه الأشياء، وما يسمونه بالأغاليط وهو تتبع صعاب المسائل، فإذا كان الرجل يتتبع هذه القضايا، ويتشاغل بها، وغلب ذلك عليه؛ فإن هذا مؤذن بمزيد من التحير، والقلق، واستشكال كثير من الأمور، وكان للإنسان أن يعرض عن هذا كله، لأنه سيسأل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟، ولن يسأل: عن فلان، وفعل فلان، وعن رأيه في كتاب كذا، وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله - في نهاية الأرب عن بعض علماء اليمن أنه قال: "إن الناس ثلاث مراتب، يقول: مرتبة: هم العلماء، فهؤلاء يعرفون ما لهم، وما عليهم، ومرتبة: هم العوام، فهؤلاء تبعٌ لعلمائهم، يقول: والمشكلة من الذين في الوسط ارتقوا عن مرتبة العوام، ولم يصلوا إلى مرتبة العلماء؛ فهؤلاء هم الذين يسألون عما لا يعنيهم، وينشغلون ببحث بعض الأغاليط، أو بعض المسائل التي لا تعنيهم، أو لم يصلوا إلى مرتبتها، فيتزبب قبل أن يتحصرم، فيحكم في المسائل الكبار، ويتحدث عن دقيق القضايا، وهو لم يتأهل لها" - والله المستعان -.