"وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة يوسف:109].
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء كما دلّ عليه سياق هذه الآية الكريمة أن الله - تعالى - لم يوحِ إِلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع. وعليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات كما قال تعالى مخبراً عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ [سورة المائدة:75]، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف، والإعظام، فهي صدّيقة بنص القرآن".
هذا الآية تضمنت معنيين فيما يتعلق بالرسل، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، أخرج بقوله: إِلاّ رِجَالاً الملائكة، والنساء، والمقصود الذين يرسلون إلى الناس، وإلا فالملائكة فيهم رسل كما قال الله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75]، فما يذكره بعض المفسرين في كتبهم أن الله لم يرسل ملائكة يقصدون بهذا إلى أهل الأرض، وكونهم رجالاً بمعنى أنه ليس فيهم نساء، وليس لأحد أن يتكلف، ويحمل القرآن على معانٍ شاذة أو نادرة كقول بعضهم: إن المرأة قد يقال لها: رجلة، نِعْم الفتى، وبئست الرجلة، فهذا لا يحمل عليه القرآن إطلاقاً، والألفاظ في كلام العرب منها ما يختص بالرجال كلفظة "رجل"، ومنها ما يختص بالنساء كلفظة "امرأة"، فهذا لا يحصل فيه الاشتراك، وإذا جاءت صيغ المذكر المختصة به في القرآن في الأمر والنهي؛ فإن النساء يدخلن على سبيل التبع، ومنه ما يكون مشتركاً بين الرجال والنساء مثل لفظة "من" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى [سورة النحل:97]، فلفظة "من" من ألفاظ العموم فتشمل الرجال والنساء، وهناك ألفاظ اختلفوا فيها هل تشمل الرجال والنساء أو أنها تختص بالرجال، والنساء يدخلن فيها على سبيل التبع كلفظة "القوم"، لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء [سورة الحجرات:11]، فهذه الآية احتج بها مِن الأصوليين مَن قال: إن لفظة القوم تختص بالرجال؛ لأنه قال: وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء هذا هو الغالب في الاستعمال، وإن النساء يدخلن فيها على سبيل التبع، وإن كان ورد في بعض كلام العرب ما قد يدل على أن النساء يدخلن في ذلك كقول الشاعر:
ولست أدري وسوف يقال أدري | أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ |
هذه تدل على ما دلت عليه الآية، ولكن قول الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59]، يدخل فيه الرجال، والنساء.
قوله: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ معنى الآية لا يشكل، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا بهذا القيد جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ فهي مرتبطة ومقيدة بهذا القيد، ما جعلهم جسداً ليس من شأنه الأكل، وإنما هم جسد يأكلون الطعام.
القُرى جمع قرية، والقرية تدل على معنى الاجتماع، فهي مجمع البنيان سواء كان كبيراً، أو صغيراً، والآيات التي وردت في القرآن في ذكر القرى تحمل على هذا المعنى، وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [سورة الأعراف:4]، تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا [سورة الأعراف:101] وما أشبه ذلك، فالمدن والبلاد التي قد تكون حواضر واسعة كبيرة يقال لها: قرى، ولا يحمل هذا على اصطلاح الناس اليوم بالتعبير بالقرية عن مجمع البنيان الصغير، والمدينة مجمع البنيان الكبير، ليس هذا هو المعنى الذي نزل عليه القرآن، وبه يتعارف الناس الذين خوطبوا آنذاك بالقرآن، فقوله: مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ قال: "المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي"، وذلك أن أهل القرى ألطف وأرق طبعاً، وليس فيهم جفاء أهل البادية في الجملة، وحينما يقال: أهل البادية يقصد به من يسكن في الصحراء، هذا هو المراد، وليس المقصود بهذا من كان ينتسب إلى قبيلة كما يظنه بعض الناس، فالناس إما أن يكونوا من سكان القرى، والأمصار، والمدن، وهو مؤذن برقة الطبع، والفهم، ومجانبة الأوصاف المذمومة مما يتصل بالشدة، والغلظة، والجفاء، تأثراً بالبيئة التي يعيشون فيها؛ ولذلك ورد النهي عن التشبه بالأعراب لهذا المعنى، وإلا فإن الله قال: وَمِنَ الأَعْرَابِ والأعراب: هم سكان البادية الذين يعيشون في الصحراء، فالله - تبارك وتعالى - قال: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ [سورة التوبة:99].
قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ وكل ما جاء فيه الأمر صراحة بالنظر والسير في الأرض، كقول الله - تبارك وتعالى -: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سورة الأنعام:11]، الأمر فيها بالسير في الأرض لمن كان عنده شيء من التردد، والشك؛ فإنه يؤمر بالسير في الأرض من أجل أن يعرف، ويستيقن الحقيقة، وصدقَ ما جاء به النبي ﷺ، وما آل إليه أمر المكذبين للرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وليس المراد بذلك أن الجميع يخاطبون بهذا، فهذا لا يحتاج إليه إلا من كان متردداً؛ ولهذا: الناس على مراتب، من الناس من يحتج على الأشياء التي تقع بما عرف من أسماء الله وصفاته، فهؤلاء أصحاب المراتب الكاملة، ولم يرد الخطاب في القرآن في عامة المواضع مطالباً للناس بالارتقاء إلى هذه المرتبة، فمن الناس من لا يحتاج أن ينظر - حتى يعرف صدق النبي ﷺ إلى مثل هذا كأبي بكر الصديق ، وخديجة - ا -، فسُمي أبو بكر بالصديق؛ لتصديقه لرسول الله ﷺ في كل ما أخبر به، وأول نزول الوحي على النبي ﷺ أقبل على خديجة وهو يرتعد فقالت محتجة بما عرفت من أوصاف الله على ما يقع في الخليقة: "كلا، والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل...[1] إلى آخر ما ذكرت، فهذه مرتبة عالية، لكن أكثر الخلق لا يصلون إلى هذا، أكثر الخلق يحتاجون إلى الاستدلال بالمخلوق على الخالق؛ لهذا نزلت آيات كثيرة تلفت النظر إلى السماوات، والأرض، وما فيهما كالإبل، والجبال، والشجر، والدواب، والنجوم، والكواكب، ينظرون فيها ليتوصلوا إلى أن الله - تبارك وتعالى - إله واحد، وأنه هو الرب وحده، المعبود وحده، خالق كل شيء، والنظر والاستدلال على الله - تبارك وتعالى - بمخلوقاته يكون للذين يحصل لهم تردد وشك، وبهذا يعرف بطلان استدلال المتكلمين بمثل هذه الآية على أن أول واجب على الإنسان هو النظر؛ لأن الله قال: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ، فالله ما أمر كل الناس بهذا، وإنما أمر به من يحتاج إليه، فالمؤمن المصدق الذي ليس عنده شك أن الله مثلاً أهلك المكذبين من الأمم الماضية؛ لا نقول له: اذهب وانظر في مدائن صالح، وكيف أهلكهم رب العالمين، لكن من كان في شك، أو كان مكذباً؛ يقال له مثل هذا.
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ برقم (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (160).