الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا۟ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّيَ مَن نّشَآءُ وَلاَ يُرَدّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف:110].

يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - عند ضيق الحال، وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه كقوله تعالى: وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [سورة البقرة:214] الآية، وفي قوله: كُذِبُوا قراءتان: إحداهما بالتشديد قد كُذِّبوا".

القراءة بالتشديد هي قراءة الجمهور، وقراءة التخفيف هي التي قرأ بها الكوفيون الثلاثة من القراء السبعة عاصم، وحمزة، والكسائي، بالتخفيف كُذِبُوا، وقراءة كُذَّبُوا بالتشديد لا إشكال فيها، حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ يعني: تأخر النصر، وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ بعضهم قال: الظن بمعنى العلم، واليقين، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] يعني يتيقنون، وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ أي: تيقنوا أن قومهم قد كذبوهم، إما بأنهم وعدوهم بالنصر فلم يحصل بمعنى أنه تأخر، فيكون هذا في أتباع الرسل، فظنوا أن الرسل قد كذبوا عليهم، وإما أن يكونوا وعدوا أعداءهم بالعذاب، وأن الله يديلهم على عدوهم، فلم يحصل هذا، وتأخر، وأبطأ عنهم، فقالوا لهم: أين ما تعدوننا به، وتخوفوننا به؟، وهذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول فيه إشكال؛ إذ كيف يحصل من أتباع الرسل وهم أهل الإيمان، يقال: هذا مما يرد من الخواطر التي تقع في ذهن الإنسان وتهجم عليه من غير تطلُّب، ثم ما يلبث أن يدفعها فلا تضره، وهذا أحسن ما يقال فيه - والله تعالى أعلم -، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فترد الواردات أحياناً على الإنسان في أوقات الشدة فيدفعها، وقد يحصل له بعض المخالفة في حال الفرح الشديد من غير قصد مثل الذي قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك[1]، وحديث الرجل الذي قال: إذا مت فأحرقوني، ثم أذروني[2] إلى آخره، حمله شيخ الإسلام ابن تيمية على أن هذا في حال الخوف الشديد، وكثير من أهل العلم على أنه أوصى بهذا بسبب الخوف الشديد، ولذلك غفر الله له، وهذا المعنى لا إشكال فيه.

"وفي قوله: كُذِبُوا قراءتان: إحداهما بالتشديد قد كُذِّبوا، وكذلك كانت عائشة - ا - تقرأها، روى البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله - تعالى -: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ قالت عائشة: كُذِّبوا، قلت: فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم، وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ممن كَذّبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كَذّبوهم؛ جاء نصر الله عند ذلك، قال عروة فقلت لها: لعلها قد كُذِبوا مخففة؟ قالت: معاذ الله"[3] انتهى ما ذكره".

والقراءة بالتخفيف كُذِبُوا قراءة متواترة، وثابتة، ولا تنكر إطلاقاً، والمعنى في هذه القراءة عند أهل العلم: أي ظن القوم أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب يعني هؤلاء الكفار ظنوا أنهم قد كذبوا، فحمل الضمير كُذِبُوا يعني: أن أقوامهم كذبوهم، وهذا فيه بعد، وبعضهم يقول: ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، فيكون هذا في الأتباع الذين آمنوا بالرسل، أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا يعني أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد كذبوا عليهم، حيث لم يأت النصر الذي وعدوهم به، وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: إن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم الذين ظنوا أنه قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينتصرون على الكافرين، وهذا أيضاً فيه بُعد، والأقرب هو أن الأمر قد بلغ من الشدة غايته بحيث إن هؤلاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وردت عليهم هذه الواردات، لكنهم ما لبثوا أن دفعوها، وبهذا لا يضر الإنسان ما يرد عليه في أوقات الشدائد العصيبة - والله تعالى أعلم -.

"وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس - ا - قرأها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفة، قال عبد الله - هو ابن أبي مليكة -: ثم قال لي ابن عباس: كانوا بشراً، ثم تلا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[سورة البقرة:214]".   

ابن عباس -ا- يحمل قوله: كُذِبُوا على أن الظن وقع من الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وليس المقصود به أنهم وقع لهم شك، فضلاً عن أن يكون وقع لهم يقين بأن الله قد أخلف وعده، وإنما هي الخواطر، والواردات التي ترد.

"قال ابن جريج: وقال لي ابن أبي مليكة: وأخبرني عروة عن عائشة - ا - أنها خالفت ذلك، وأبتْه، وقالت: "ما وعد الله محمداً ﷺ من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذّبوهم"، قال ابن أبي مليكة في حديث عروة: "كانت عائشة تقرؤها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مثقلة من التكذيب"، والقراءة الثانية بالتخفيف، واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس - ا - ما تقدم، وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن عبد الله أنه قرأ: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخففة، قال عبد الله: هو الذي تكره، وعن ابن عباس - ا -: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم؛ جاءهم النصر على ذلك فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ.

وروى ابن جرير عن إبراهيم بن أبي حرّة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له: يا أبا عبد الله كيف هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا؟ قال: "نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا"، فقال الضحاك بن مزاحم: م"ا رأيت كاليوم قط رجلاً يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً"، ثم روى ابن جرير أيضاً من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: "فرج الله عنك كما فرجت عني"، وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد من السلف، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم أي وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر، وأما ابن مسعود فروى جرير عن تميم بن حَذْلم قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ: من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا بالتخفيف".

ذكر الله خبر يوسف - عليه الصلاة والسلام - وذكر أخبار الرسل في القرآن، فقال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ففي خبرهم عبرة، فمن أهل العلم من يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ يعني: في خبر يوسف - عليه الصلاة والسلام - وإخوته، ولا حاجة لتخصيص ذلك بيوسف - عليه الصلاة والسلام - وإخوته.

  1. رواه مسلم من حديث أنس برقم (2747)، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها.
  2. رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري برقم (7069)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15].
  3. رواه البخاري برقم (4418)، كتاب التفسير، باب قوله: حَتّىَ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ [سورة يوسف:110].