قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف: 23].
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها زوجها به، وبإكرامه؛ فراودته عن نفسه أي حاولته على نفسه، ودعته إليها؛ وذلك أنها أحبته حباً شديداً؛ لجماله، وحسنه، وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له، وغلّقت عليه الأبواب، ودعته إلى نفسها وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.
فقوله - تبارك وتعالى -: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ المراودة: هي الإرادة، والمحاولة برفق، ولين، فقد حاولت امرأة العزيز من أجل أن يتحقق مطلوبها، ومن أهل العلم من يقول: إنه مأخوذ من الرود وهو الرفق، واللين، وبعضهم يقول: من راد يرود إذا ذهب، وجاء، ففعلت هذا الفعل كالذي يذهب، ويجيء، ويتردد من أجل أن يحقق مأربه، يعني كأنها فعلت فعل المخادع، وقد قال الله : وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ولم يقل امرأة العزيز، فالآية فيها زيادة تقرير، وفيها محافظة على الستر.
قوله: وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ غلّق: على وزن فعّل تدل على التكثير بخلاف أغلق فإنه يدل على القلة، أو على المرة الواحدة، لو قال: وأغلقت الأبواب.
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وقال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، وكانوا يطلقون الرب على السيد، والكبير، أي: إن بعلك ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: منزلي، وأحسن إليّ؛ فلا أقابله بالفاحشة في أهله، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ قال ذلك مجاهد والسدي، ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
قوله: إِنَّهُ رَبِّي أي: العزيز، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وهذا القول لا إشكال فيه؛ لأن كلمة الرب تأتي لمعانٍ متعددة، وقد ذكر منها بعض أهل العلم سبعة، فمن معاني كلمة الرب السيد، ومن معانيها المتصرف، ومن معانيها المربي، ومن معانيها المالك، فيوسف بيع للعزيز كما هو معلوم؛ فهو مملوك، وما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لا يقل أحدكم: أَطْعِم ربَّك، وضّئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي[1] هو من باب الأدب، وإلا فإن ذلك ليس بمحرم.
وقيل في معنى قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: الله، لكن الأشهر والأقرب - والله أعلم - أنه قصد العزيز، ويدل على ذلك قول العزيز لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [سورة يوسف:21].
وقد اختلف القراء في قوله: هَيْتَ لَكَ فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، قال ابن عباس - ا - ومجاهد وغير واحد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها، وقال البخاري: وقال عكرمة: هَيْتَ لَكَ أي: هلم لك بالحورانية، وهكذا ذكره معلقاً، وقرأ آخرون: هِئْتُ لَكَ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء بمعنى تهيأت لك، من قول القائل: هئت بالأمر أهيئ هئة، وممن روي عنه هذه القراءة ابن عباس - ا -، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو وائل، وعكرمة وقتادة، وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك.
هذه القراءة مروية عن بعض الصحابة كعليّ، وهي رواية عن ابن عباس - ا -، وبها قرأ هشام وآخرون، مع أنه أنكرها بعض أئمة القراءة، وبعض أئمة اللغة كأبي عمرو بن العلاء، وقال: "هذا لا يعرف في كلام العرب"، وقال: "لو ذهبتَ من هاهنا إلى اليمن لا تجد من يقول: هِئْتُ لَكَ"، وأنكرها أيضاً الكسائي، وأقرها آخرون من أهل اللغة، وقالوا: "هي لغة عربية، ومعروفة، هئت لك".
وقرأ عبد الله بن إسحاق: هَيتِ بفتح الهاء وكسر التاء وهي غريبة، وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هَيتُ بفتح الهاء وضم التاء.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هيتَ لا تثنى، ولا تجمع، ولا تؤنث، بل يخاطب الجميع بلفظ واحد، فيقال: هيتَ لك، وهيتَ لكم، وهيتَ لكما، وهيتَ لكن، وهيتَ لهن.
- رواه البخاري، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي (2 / 901)، برقم (2414)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (4 / 1764)، برقم (2249).