"وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هََذَا بَشَراً إِنْ هََذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُونًا مّن الصّاغِرِينَ قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِيَ إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة يوسف:30-34].
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر، حتى تحدث به الناس، وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ مثل نساء الكبراء، والأمراء، ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير، ويعبْنَ ذلك عليها".
العزيز في لغة العرب هو الملِك كما يقول ابن جرير - رحمه الله - ويقول الحافظ: "مثل نساء الكبراء، والأمراء"، وبعض السلف يقول: إن هؤلاء النسوة يعني امرأة الحاجب، وامرأة الذي يخبز له، وامرأة القائم على بعض أعماله أو على الدواب، ناس يشتغلون عند العزيز؛ وهذا لا دليل عليه، فقد يكون نساء الكبراء، أو نساء هؤلاء الذين هم تحت يده من أعوانه، وقد يكون غير ذلك - والله أعلم -.
قوله: قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً أي: تغلغل في قلبها، وبعضهم يقول: وسط القلب، والمشهور هو الذي اختاره ابن جرير، وقال به كثير من السلف: إن هذا غلاف القلب يعبر بمثل هذا عن تغلغل الحب، وأنه قد خالط القلب، ومازَجه، ودخل فيه، وقيل: مثل هذه العبارة تدل على معنىً كبير في الحب، إذا قتلها الحب يقال: شغفها، وإذا قتله يقال: شغفه.
كلمة الشعف تطلق على أعلى الشيء؛ أعالي الأشياء، فقالوا: هذا أعلى الحب، الحب القاتل؛ فهو أعلى من الشغف، وقرأ الحسن وابن محيصن "قد شعَفها حباً".
قوله: إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ، كما قال إخوة يوسف - عليه الصلاة والسلام - عن أبيهم ﷺ: إِنّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ يعني: ذهابٍ عن الحق، فهؤلاء ينتقدْنها بأنها قد فتنت بمملوك عندها، وأخذ بلبها، وشغفها حباً، قد تكون هؤلاء النسوة قلن ذلك ليتوصلن إلى النظر إليه، ورؤيته، ويكون هذا هو المكر الذي صدر منهن، والكيد، وقد لا يخلو هذا من بُعد، ويحتمل أن يكون المقصود بهذا المكر سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أنها غيبة، ولما كانت الغيبة في الخفاء فأشبهت المكر الذي يكون في الخفاء، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ فيحتمل هذا، ويحتمل هذا، والعلم عند الله .
هذا جواب لتساؤل: ما هو المكر الذي مكرنه هؤلاء النسوة؟
وقوله: وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئاً المتكأ: المجلس الذي فيه ما يُتكأ عليه، ويرتفق به، وفيه طعام، باعتبار قوله: وَآتَتْ لم يقل الله - تبارك وتعالى -: وفيه طعام، وإنما عرف هذا، من قوله: وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مّنْهُنّ سِكّيناً، ولهذا فسر بعضهم المتكأ بأنه يصدق على كل ما يُتكأ عليه من الأثاث، والطعام، ولا يقصد أنه يُتكأ على الطعام، وإنما ما يشتغل به الناس، فالمجالس عادة يوضع فيها ما يتلهى به الجالسون من مطعوم، ومشروب؛ ونحو ذلك، فيكون يشمل هذا وهذا، وقيل غير هذا.
جاء في قراءة لسعيد بن جبير قرأ بها بعض السلف، بإسكان التاء ومن غير همز "مُتْكاً"، قالوا: والمُتْك هو الأُتْرُنْج، بعضهم قال: هذا في لغة القبط، وبعضهم يقول: في لغة أزد شنوءة، أنها أعدت لهن متْكاً يعني أُتْرُنْجًا، ومعنى الإعداد: تهيئة الشيء بعناية ونحو ذلك، يعني جهزتْه من أجل أن يقع ما وقع، لكن هذه القراءة ليست متواترة، وهذا أوردته من أجل أن تدرِك - سواء مما ذكره الحافظ في الرواية السابقة أو غير ذلك مما يوجد في كتب التفسير من الروايات - أنهم يذكرون الأُتْرُنْج، وإنما قرأ بهذه القراءة بعض السلف كسعيد بن جبير وغيره مثل مجاهد "متْكاً": أي أُتْرُنْجًا، والقراءة الأحادية هذه يستأنس بها، وتفسر بها القراءة المتواترة، إذا صح سندها - والله أعلم -.
يعني من شدة الذهول من شدة جمال يوسف ﷺ حصل لهن هذا، فكانت الواحدة لا تشعر ماذا تصنع مع أن الحز يؤلم، فصارت الواحدة تقطع يدها، والمقصود بتقطيع اليد: الحز وأنها تخدش أو تجرح يدها، لا أنها تبين اليد، وتنقطع تماماً، وإن قال بعض المفسرين: إنهن قطعن أيديهن تماماً، وابن جرير - رحمه الله - يقول: "لا يوجد عندنا ما يمنع من هذا ولا هذا"، يحتمل أن تكون الأيدي انقطعت تماماً وهن لم يشعرن من شدة الذهول، وبعضهم فسر الأيدي بالأنامل يعني جرّحن أناملهن بالسكين بدلاً من أن يقطعن الأُتْرُجَّ، وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ بدل من تقطيع هذا الأُتْرُجّ أو غيره يعني من الفاكهة، أو ما وضع لهن مما يحتاج إلى قطع، فتصور أنهن جالسات يشتغلن بقطع أيدهن وهن لا يشعرن من شدة الذهول لما رأينه، أَكْبَرْنَهُ أي: أعظمنه، وهذا هو الأقرب، وهو المتبادر، وقيل: أَكْبَرْنَهُ أي: أمذين، والهاء للسكت، واحتجوا بقول الشاعر:
إذا ما رأينَ الفحلَ من فوق قُلَّةٍ | صَهلنَ وأكبرنَ المنيَّ المُقَطِّرا |
وبعضهم قال: أمْنين، يعني أنهن استفرغن شهوتهن، وأنزلن لمّا رأينه من شدة الرغبة، والشهوة الجامحة، واحتجوا بنفس البيت لكنه برواية مقاربة:
ولمّا رأته الخيلُ من رأس شاهقٍ | صهلنَ وأمنينَ المنيَّ المُدفَّقَا |
وبعضهم فسر هذه اللفظة أَكْبَرْنَهُ بالحيض أي: حضْنَ، وهذا قال به أئمة من أهل اللغة وأنكره آخرون، قالوا: لأن الهاء موجودة، فأجابوا بأن الهاء للسكت، يقال: أكبرت المرأة: أي حاضت، ومنه قول الشاعر:
نأتي النساء على أطهارهن ولا | نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً |
فمن شدة الدهشة، والذهول، والصدمة التي أصابتهن من شدة جمال يوسف عندما رأينه نزل الدم في غير حينه.
قوله: "لأنهن لم يرين في البشر شبيهه، ولا قريباً منه" هذا جواب على سؤال مقدر، لماذا قلن: مَا هََذَا بَشَراً إِنْ هََذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ هل رأين الملائكة أصلاً؟
والجواب: لا، لكنهن ما رأين بشراً بهذه الصفة والجمال الباهر، فمباشرة حكمن بأن هذا ملَك؛ لمَا استقر في أذهان الناس أن الملك فيه ألوان الكمالات، وكما يقولون في صفة الشيء البشع: كأنه شيطان، أو المتناهي في القبح: كأنه شيطان، والله قال عن شجرة الزقوم: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [سورة الصافات:65]، فشبهه برءوس الشياطين؛ لأنه قد استقر عند الناس أن رءوس الشياطين، وصورة الشياطين؛ في غاية القبح، وهذه الآية من الآيات التي احتج بها من قال: إن الملائكة أفضل من البشر، وأكمل من البشر، وهذا لا دليل فيه، وهؤلاء النسوة قالوا: إِنْ هََذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ، ومسألة المفاضلة بين البشر أو بين صالحي البشر والملائكة لا طائل تحتها - فالله تعالى أعلم -.
"فإنه كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء: أن رسول الله ﷺ مر بيوسف في السماء الثالثة قال: فإذا هو قد أعطي شطر الحسن[1].
قال مجاهد وغير واحد: معاذ الله مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ".
- رواه مسلم برقم (162)، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات.