الجمعة 18 / ذو القعدة / 1446 - 16 / مايو 2025
فَٱسْتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله، وكماله، وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: فامتنع، قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال".

يعني الإنسان إذا أعطي جمالاً باهراً ولم يكن معه عفاف فإن ذلك يكون نقصاً فيه، وقد تكون امرأة في غاية الجمال لكن إذا علم أنها بائعة هوى فإن ذلك يكون سفولاً، وانحطاطاً في مرتبتها، فلا تمتد إليها أنظار من أكرم نفسه، ورفعها، وعرف قدرها؛ بل يحتقرها، فهي تقول: ليست هذه الصورة الظاهرة التي ترون فقط، لا بل فيه من صفات الكمالات الباطنة التي لا تعرفن وهي العفاف، فَاسْتَعْصَمَ، عفيف، وكثير من الناس لا يحسن له هذا لا من الرجال، ولا من النساء؛ إلا من لطف الله به، وابن القيم له كلام شديد عندما تكلم عن الجمال، وأولئك الذين يبحثون عن الجمال في المرأة، كلام شديد في المرأة التي تعطَى جمالاً كبيراً وماذا يؤثر هذا الجمال فيها من المفاسد، وكذلك كثير من الرجال إذا أعطي جمالاً فإنه قد يغتر، ويستغل هذا الجمال في اصطياد النساء، ومواقعة الفواحش، فإذا وُجد الجمال مع العفاف فهذا هو الكمال.

"ثم قالت تتوعده: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغٍِرِينَ فعند ذلك استعاذ يوسف من شرهن، وكيدهن، وقَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي: من الفاحشة، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة، ولا أملك لها ضراً، ولا نفعاً؛ إلا بحولك، وقوتك، أنت المستعان، وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي".

قال يوسف ﷺ: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بصيغة جمع، وأصل القضية والتي طالبته بهذا هي امرأة العزيز، ما قال: وإلا تصرف عني كيدها، وهي التي قالت: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ، بعض أهل العلم يقول: هذا قصد به امرأة العزيز، وأن صيغة الجمع للتعظيم، وهذا فيه بعد، التعظيم ما يقال بهذه الصيغة، بضمير الغائب، وإنما ذلك يقال للمخاطب، أنتم قلتم كذا، ذكرتم كذا، أو المتكلم، ذكرنا كذا، لكن الغائب لا يقال له هذا عادة، ولهذا وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، ما يقال: هذا للتعظيم، وقيل: إن هؤلاء النسوة قلن ليوسف - عليه الصلاة والسلام -: طاوعها، وخوّفنه من مخالفتها، فكنّ أعواناً لها على هذا المطلب الذي طلبته، وهذا كيد هؤلاء النسوة، وقيل: إن كل واحدة منهن حاولت أن تخلو به؛ لتدعوه إلى نفسها، وتقول له: أنا أفضل من امرأة العزيز؛ لما رأينه - فالله تعالى أعلم -، وكنّ يلمنها في هذا، فلما رأينه عذرنها على ما وقع؛ ولهذا اجترأت بحضرتهن، وقالت مكاشفة، ومصارحة: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، تقول لهن: أنا مصرة أيضاً على هذا، لا صبر لي عنه، فما اجترأت وقالت هذا الكلام إلا بعد ما عرفت أنها معذورة أمام هؤلاء النسوة، كأنهن قلن: والله ما تلامين، فيكون هذا هو الكيد وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ - والله المستعان -.

"أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ الآية، وذلك أن يوسف عصمه الله عصمة عظيمة، وحماه، فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه، وجماله، وكماله؛ تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال، والمال، والرياسة، ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله، ورجاء ثوابه".

ومن الدواعي كونه مملوكاً، إذ المملوك عادة يترخص بأمور كثيرة؛ ولهذا فهذا أحد التعليلات في كون حد الزنا نصف الحد بالنسبة للمملوك، وليس له تلك المرتبة في الشرف، فيضرب نصف الحد، وكذلك أيضاً الله يقول: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ [سورة النور:32] يعني: من الأحرار، والأيْم: هو من لم يتزوج ذكراً كان أو أنثى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ أي: الصالحين منهم، ولم يقل: كل العباد والإماء، وإنما قال: وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى، وفي المماليك قال: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ، فهؤلاء هم الذين يطلبون العفاف، وإلا فكثير من المماليك يترخصون في أمور كثيرة، ولهذا فإن الأمَة لا تطالب بالحجاب كما تطالب الحرة، وعمر كان يعاقب الأمة إذا رآها تحتجب وتلبس لباس الحرة إذا خرجت، لأن الأمة الشرف بالنسبة إليها أدنى من شرف الحرة، فهذا مملوك عندها في بلد ليست بلده كما سبق، وفي قصرها، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة السابقة.

وقوله: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: أميل إليهن.
"ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب، وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه[1]
  1. رواه البخاري برقم (629)، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، ومسلم برقم (1031)، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة.