"وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [سورة يوسف:36].
قال قتادة: كان أحدهما ساقي الملك، والآخر خبازه، ثم إنهما رأيا مناماً، وطلبا تعبيره".
قوله: وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ الفتى يقال للشاب في مكتمل العمر، ويقال للخادم أيضاً، ويقال للمملوك، وبعضهم يقول: هؤلاء كانوا من المماليك للعزيز، وهذا لا دليل عليه، وكثير من الروايات المنقولة عن السلف مرجعها إلى بني إسرائيل كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: كان أحدهما هو ساقي الملك، والثاني هو الخباز، ويذكرون من خبرهم أشياء - الله تعالى أعلم بها -، يقال: إنهم أغراهم أهل مصر بوضع السم في طعامه، فلما أراد أن يأكل قال له الساقي: لا تأكل من هذا الطعام فإن فيه السم؛ إما لأنه ندم، أو خاف، فقال الخباز: فلا تشرب من هذا فإن فيه السم، يعني كأنه أراد أن يتهمه أيضاً في تخصصه، وفي صنعته؛ وهي السقاية، سقاية الملك، فأمر بهما إلى السجن، وفي بعض هذه الروايات أنه أمر الساقي أن يشرب من هذا الشراب الذي أعده فشرب منه، وما أصابه شيء، وأمر الخباز أن يأكل من هذا الخبز أو الطعام فأبى، فجيء ببهيمة فأعطي لها فماتت، فأمر بهما إلى السجن، ربما لو صح هذا باعتبار أن هذا الساقي كان يعلم، فبينهما مواطأة، لكنه لم يطل مكثه، بل جاء في بعض الروايات أنه لما ذكر الرؤيا ليوسف - عليه الصلاة والسلام - ذكر له أنه سيخرج بعد ثلاثة أيام، وهذه الروايات لا يعول عليها لأنها من الإسرائيليات، أما يوسف - عليه الصلاة والسلام - فإنه بقي بعده مدة طويلة كما يدل عليه ظاهر الآيات، وظاهر القرآن أن هؤلاء دخلوا في وقت متزامن مع دخوله وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ، وهؤلاء سألوه عن تعبير الرؤيا؛ قال أحدهما كذا، وقال الآخر كذا، يذكرون أنهم سألوه حينما دخل السجن عن عمله فأخبرهم أنه يعبر الرؤى، وهذا أمر يحصل أن هؤلاء الذين في السجن كلما دخل عليهم واحد جلسوا معه، وسألوه: من أين جاء؟ وماذا عمل؟ وأين يعمل؟ ليتعرفوا على أحواله؛ لأنه ليس لهم عمل، ولا شغل، فالشاهد أنهم سألوه فأخبرهم أنه يعبر الرؤى، وذكر بعض المفسرين أنه لم يكن ذلك الذي أخبروه به رؤيا حقيقة، وإنما هو شيء مختلق، أرادوا أن يختبروه به، وهذا ظاهر كلام ابن جرير، وهذا لا دليل عليه، وإن قال به بعض السلف ويقولون: هذا يشير إليه قوله: قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [سورة يوسف:41] يعني أنهم لما سمعوا هذا التفسير أو التعبير، وفيه أن أحدهما يصلب كأنه أراد أن يتراجع، قال: لا، ما رأيت شيئاً، فقال: الموضوع انتهى، باعتبار أن الرؤيا على رِجل طائر، وأنها تقع كما عُبرت، على هذا التفسير: أنه حتى لو أرى الإنسانُ عينَه ما لا ترى، وفُسر له هذا؛ أنه يقع كما فسر، هذا على قول بعض أهل العلم، وهو ظاهر كلام ابن جرير - رحمه الله -، ولا دليل على أن هؤلاء اختلقوا ذلك، وافتروه من أجل اختبار يوسف - عليه الصلاة والسلام -، على كل حال فهذا يقول: إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً أي: أعصر عنباً؛ لأن الخمر لا تعصر كما هو معلوم، وإنما تتخذ من عصير العنب، والعرب تعبر بهذا كثيراً، قد ذكر الأصمعي عن بعض الأئمة أنه لقي رجلاً من الأعراب في البادية وقال له: ما معك؟ فقال: خمر، وهو يحمل عنب، وبعضهم يقول: هذا في لغة أهل عمان، يسمون العنب بالخمر، ولا إشكال أيّاً كان، فالشيء يمكن أن يعبر عنه باسم يئول إليه فسماه بالاسم الذي يئول إليه، إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً قالوا: هذا هو الساقي، الذي يسقي الملك، أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ قالوا: وهذا هو الذي كان خباز الملك، نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بعضهم يقول: نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: يعني من المحسنين في تعبير الرؤى، وبعضهم يقول: مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعني لأهل السجن كان يحسن إليهم، ويواسيهم، ويرفق بهم، ويتفقد حاجتهم، ويخفف عمن كان محزوناً، أو يواسي المريض أو نحو هذا، إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، ويحتمل هذا وهذا، فهم رأوا فيه من أمارات الإحسان، وأعمال المحسنين؛ ما حملهم على هذا، ولا يقال: لماذا لم يقولوا: إنا لنراك عالماً بتعبير الرؤى مثلاً؟، وإنما قالوا: إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فإنه بتعبير رؤاهم يكون قد أحسن إليهم، فهذا شيء يقدمه لهم، وهم بحاجة إليه، ولربما كانت حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم أحياناً لطعام يطعموه، أو شراب يشربوه، فإن الكثيرين يتطلبون تعبير الرؤى، ولربما أقلقتهم، وشغلتهم عما هم بصدده - والله المستعان -.