"قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [سورة يوسف:37-38].
يخبرهما يوسف أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم فإنه عارف بتفسيره، يخبرهما بتأويله قبل وقوعه؛ ولهذا قال: قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ، قال مجاهد: يقول: لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ في يومكما، إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا وكذا قال السدي".
قوله: قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا يحتمل أن يكون لا تعلق له بتعبير الرؤى، وإنما هو كالمقدمة لما سيذكره بعده من دعوتهم إلى التوحيد، فأراد أن يبيّن لهما علمه وما أعطاه الله إياه؛ من أجل أن يكون ذلك سبباً داعياً للقبول، وأن الله - تبارك وتعالى - علمه وأطلعه على ما شاء أن يطلعه عليه من الأمور الغيبية كما قال عيسى ﷺ: وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:49]، فبعض أهل العلم يقول: هذا كهذا، ذكره مقدمة للدعوة إلى التوحيد، ولا تعلق له بتعبير الرؤى، وقيل: هذا له اتصال بما ذكر من تعبير الرؤى، فهذا رأى نفسه يعصر خمراً، والآخر يحمل فوق رأسه خبزاً، فهذا مطعوم، وهذا مشروب، فقال لهما: لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ يعني في المنام، ما تريانه في المنام، إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ فهذا الذي يعصر خمراً قلنا: يعصر عنباً كما تدل عليه قراءة ابن مسعود: "إني أراني أعصر عنباً"، فهذا مما يشرب، والآخر مما يؤكل، والطعام يطلق على هذا وهذا، والدليل على هذا قول الله - تبارك وتعالى -: وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة:249]، والمقصود به شيء مشروب من النهر، وبعض أهل العلم يقول: هذا فيما يريانه في المنام، وهذا الذي عليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وعلى هذا يكون ذلك مرتبطاً بتعبير الرؤيا، وهذا جواب على سؤال يرد هما سألاه عن رؤيا، فقال لهما: لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا فإن كان ذلك يتعلق بنفس الرؤيا فالأمر واضح، لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ في الرؤيا، إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وإن كان لا تعلق له فالجواب أنه مقدمة للدعوة إلى التوحيد.
قوله : تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ لا يفهم منه أنه كان على هذا ثم تركه، إطلاقاً، فهو ابن نبي ابن نبي ابن نبي كما في قوله - تبارك وتعالى -: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [سورة إبراهيم:13] الأقرب أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يكونوا على دين قومهم، وإبراهيم حينما قال في مناظرته: هَذَا رَبِّي [سورة الأنعام:76] للكوكب؛ قال على سبيل المناظرة، كان مناظراً لا ناظراً، وأنه لم يشك إطلاقاً في أن عبادة الكوكب باطل بكل حال، ولهذا قال الله عنه: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل:120]، ونفْيُ الكون يشمل الزمن الماضي، والحاضر، والمستقبل، وكذلك قال يوسف : مَا كَانَ لَنَآ أَن نّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ، فترك ملة هؤلاء الناس عرف أنها باطلة، وأعرض عنها، ولم يكن عليها في يوم من الأيام، كيف يكون عليها وهو ابن يعقوب ﷺ؟، ولهذا قال:وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ابتدأ بالجد الأبعد؛ لأنه هو الأصل، والتوحيد، والحنيفية تنسب إليه يقال: ملة إبراهيم ﷺ.
هذه الآيات وغيرها من الآيات المتعلقة بهذه السورة مليئة بالفوائد حتى إن ابن القيم - رحمه الله - ذكر أنه يستخرج من هذه السورة أكثر من ألف فائدة، فمن هذه الفوائد العجيبة أن الله - تبارك وتعالى - أعطاه في تعبير الرؤى، فجعل ذلك مفتاحاً لدعوته إلى التوحيد، وأن هذا أول دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في كل أحوالهم، فهو في السجن يدعو إلى التوحيد، ويبيّن ذلك أحسن البيان، بهذه الطرق التي سمعتم أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [سورة يوسف:39]، وأيضاً يوسف قال: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا أن من هداه الله للتوحيد، واتباع الحق، والسنة، فقد أنعم عليه نعمة عظيمة جداً حُرمها كثير من الناس، فينبغي أن يحمد الله عليها، ويتمسك بها، ويثبت على ذلك، فهي منحة ومنة عظيمة لا يقدَّر قدرُها، كثير من الناس يتمرغون في الشرك، وعبادة غير الله ، وألوان الأهواء، والبدع، فإذا منَّ الله على عبد بالتوحيد، والاتباع؛ فهذه نعمة تستوجب مزيداً من الشكر، والإقبال على الله .