"وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [سورة يوسف:42].
ولما ظن يوسف أن الساقي ناج؛ قال له يوسف خفية عن الآخر - والله أعلم - لئلا يشعره أنه المصلوب قال له: اذْكُرْنِي عِندَ رَبّكَ".
لا يلزم أن يكون قاله خفية؛ لأن التعبير واضح جداً أن الذي يعصر خمراً هو الذي يسقِي، والثاني يصلب فتأكل الطير من رأسه؛ لأنه قال: أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وهو سيفهم مباشرة أنه هو المراد، ومثل هذا لا يخفى إطلاقاً، وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا الظن يأتي بمعنى العلم، وعلى هذا: كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن يوسف - عليه الصلاة والسلام - علم أنه سينجو، وعبّر بالظن عن العلم كما قال الله : الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة البقرة:46] أي: يتيقنون، ويعلمون، فأحياناً يطلق الظن على الطرف الراجح، فيقال مثلاً: أظن كذا، يعني بحسب الغلبة؛ لأن القسمة كما هو معلوم رباعية، فطرفان: الظن، والوهم، والشك في الوسط - وهو استواء الطرفين -، واليقين - وهو ثبوت العلم وتحققه -، فهذا الطرف المرجوح يقال له: وهم، والطرف الراجح يقال له: ظن، والمستوي يقال له: شك.
الظن والوهم وشك محتمل | لراجح وضده وما اعتدل |
هذه ثلاثة أشياء، أعلاها اليقين، فلا يمكن أن يكون تعبير يوسف من باب الظنون التي تصيب، وتخطئ، وبعضهم حمله على ظاهره، فقال: المقصود به الظن أي ما يترجح عنده وإن لم يقطع به، والأول أقرب - والله أعلم -، ولما ظن يوسف أن الساقي ناجٍ قال كما قال الله: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.
يقول: ذكِّر الملك يعني الملِك الأكبر وليس هو العزيز وإنما ملك مصر، اذكر له شأني، قل له: يوسف في السجن مظلوم، الرجل رأينا منه كذا وكذا وكذا، يعني مما رأوا من إحسانه، اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ، تركوه في السجن، ونسوه فيه، اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ باعتبار أن هذا قريب من الملك هو ساقي الملك، فهذا من اتخاذ الأسباب، والرب في قوله: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ أي: عند سيدك، فالرب يتأتي بمعنى السيد.
"وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن.
هذا هو الصواب أن الضمير في قوله: فَأَنْسَاهُ الشّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ عائد على الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد".
قوله: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ يعني: أنسى الشيطان هذا الرجل الذي نجا، أنساه أن يذكر يوسف - عليه الصلاة والسلام - عند الملك، وهذا قال به كثير من أهل العلم، والمعنى الثاني الذي تحتمله الآية: "أنساه" أي أنسى يوسفَ ﷺ الشيطانُ أن يذكر ربه، فعاقبه الله بالبقاء هذه المدة الطويلة في السجن، بمعنى أنه توجه إلى هذا الملِك، وأراد الخلاص منه، ولم يتوجه إلى الله - تبارك وتعالى -، وكان ينبغي أن يعتمد عليه؛ دون أن يلتفت إلى أحد سواه؛ هكذا قال بعض المفسرين، فلما حصل هذا أي الالتفات إلى هذا المخلوق كان نتيجة ذلك أن بقي يوسف ﷺ مدة طويلة في السجن، والآية تحتمل المعنيين يقول: وَقَالَ يعني يوسف فالضمير يرجع إليه، لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فالضمير في قوله: لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا يرجع إلى هذين السجينين، والقائل هو يوسف ، اذْكُرْنِي والياء هنا ياء المتكلم - كما هو ظاهر - ليوسف - عليه الصلاة والسلام -، عِندَ رَبِّكَ وكاف الخطاب لهذا الساقي، فَأَنسَاهُ الضمير يحتمل أن يرجع إلى هذا الساقي، أو يرجع ليوسف - عليه الصلاة والسلام -، فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فإذا جعلناه يرجع إلى يوسف - عليه الصلاة والسلام - فالمعني: فأنسى الشيطانُ يوسفَ ﷺ ذكر ربه يعني أن يتوجه إلى الله، فتوجه إلى هذا المخلوق بأمر يجوز أن يطلبه بلا إشكال، وهذا من اتخاذ الأسباب المباحة فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
البضع: بعضهم يقول: من واحد إلى أربعة، وقيل: من ثلاثة إلى سبعة، وقال ابن جرير - رحمه الله -: إنه من الثلاثة إلى التسعة إلى العشرة، ولا يزيد على العشرة، ولا يقل عن الثلاثة بحال من الأحوال، وقيل: من الثلاثة إلى الخمسة، فهذا الذي يدور عليه عامة أقوال أهل العلم في تفسير البضع، وبهذا نعرف أن قول من قال: إن يوسف - عليه الصلاة والسلام - بقي أربع عشرة سنة في السجن، وقول من قال: إنه جلس اثنتي عشرة سنة فيه إشكال؛ لأنه بقي بضع سنين؛ لأن هذا التعبير للرؤى كان عند دخوله للسجن، في أول الأمر، فلا يقال بأن هؤلاء العلماء ذكروا معنى البضع باعتبار أنه مثلاً من الثلاثة إلى التسعة أو إلى العشرة، وأنه جلس قبل أن يقول له: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ مثلاً لمدة سنتين فيكون المجموع اثنتي عشرة سنة - والله أعلم -؛ لأن تعبير الرؤيا وقوله: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ كان في وقت دخول أو عند دخول السجن، - والعلم عند الله -.