"قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة يوسف:5].
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له، وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً، بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً، واحتراماً، وإكراماً، فخشي يعقوب أن يحدّث بهذا المنام أحداً من إخوته فيحسدوه على ذلك؛ فيبغوا له الغوائل حسداً منهم له، ولهذا قال له: لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا أي: يحتالوا لك حيلة يُرْدُونك فيها، ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ قال: إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره[1]، وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد، وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر، فإذا عُبرت وقعت[2]".
هذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وقال البعض: إنه من قبيل الحسن لغيره، ثم قالوا: إن أبا بكر طلب من النبي ﷺ أن يعبر الرؤيا، والنبي ﷺ أذن له بهذا، فعبرها، ثم سأل النبي ﷺ هل أصاب أو أخطأ؟، فأخبره أنه أصاب بعضاً، وأخطأ في بعض، فلو كانت تقع بحسب ما حصل من تعبيرها فإن ذلك خلاف ظاهر الحديث، يعني لو كان كذلك فإن النبي ﷺ لا يقره على هذا التعبير، ولا يأذن له فيه؛ لئلا تقع على غير الوجه، ويحتمل أنها تقع على ما هي عليه ولو أخطأ المعبر في تفسيرها، ويحتمل أن تكون تقع بحسب ما فسرت، هذه بعض الروايات، وكلام بعض أهل العلم عليها في هذا الحديث.
"قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله ﷺ: الرؤيا على رجل طير ما لم تُعبر فإذا عُبرت وقعت، قال: والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، قال: وأحسبه قال لا يقصها إلا على وادٍّ، أو ذي رأي[3]، له شاهد من حديث أنس عند الحاكم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك مثل رجُل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً[4] وصحح إسناده ووافقه الذهبي.
وآخر من حديث عائشة - ا - عند الدارمي بسند حسنه الحافظ في الفتح قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف - يعني في التجارة -، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: إن زوجي غائب، وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاماً أعور، فقال: خيرٌ يرجع زوجك إن شاء الله صالحاً، وتلدين غلاماً برّاً، فذكرت ذلك ثلاثاً، فجاءت ورسول الله ﷺ غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاماً فاجراً، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله ﷺ فقال: مه يا عائشة! إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها[5].
وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن عطاء كان يقال: "الرؤيا على ما أولت"، قال السندي: قوله على رجل طير بكسر الراء أي: كأنها معلقة برجل الطير، قيل هذا مثل، والمراد أنها لا تستقر قرارها ما لم تعبر، فإن الطير في غالب أحواله لا يستقر، فكيف ما يكون على رجله؟
قوله: ما لم تُعْبَر، على بناء المفعول من عبَر كنصر، ويجوز التشديد، وقوله: جزء إلى آخره".
هذا المعنى الذي ذكر من كون الطائر لا يستقر، وأنها لا تستقر إلى آخره؛ يعني أنها لا تقع بحسب التعبير، فلو أخطأ المخطئ في تعبيرها كما أخطأ أبو بكر في بعض ما عبر فيه تلك الرؤيا، فهؤلاء يقولون: إنها تقع بحسب معناها وليس بحسب ما عُبرت به.
"وقوله: جزء إلى آخره: حقيقة التجزؤ لا تدرى، والروايات أيضاً مختلفة، والقدر الذي أريد إفهامه هو أن الرؤيا لها مناسبة بالنبوة من حيث إنها اطلاع على الغيب بواسطة الملَك إذا كانت صالحة، فعن النبي ﷺ قال: الرؤيا معلقةٌ برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها، فإذا حدث بها وقعت، ولا تحدثوا بها إلا عالماً، أو ناصحاً، أو لبيباً، والرؤيا الصالحة جزءٌ من أربعين جزءاً من النبوة[6].
قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى - في التمهيد: اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضاد وتدافع - والله أعلم -؛ لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين جزءاً، أو خمسة وأربعين جزءاً، أو أربعة وأربعين جزءاً، أو خمسين جزءاً، أو سبعين جزءاً على حسب ما يكون الذي يراها من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد - والله أعلم -، فمن خلصت له نيته في عبادة ربه، ويقينه، وصدق حديثه؛ كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك - والله أعلم -".
- رواه البخاري برقم (6637)، كتاب التعبير، باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، ومسلم برقم (2261) عن أبي سلمة بلفظ قال: " إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله ﷺ يقول: الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ من شر الشيطان، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره، كتاب الرؤيا.
- رواه أبو داود برقم (5020)، كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا، من حديث أبي رزين ، وابن ماجه برقم (3914)، كتاب تعبير الرؤيا، باب الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا يقصها إلا على وادّ، وأحمد في المسند (26/100)، برقم (16182)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره، من حديث أبي رزين ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3535).
- رواه أحمد في المسند (26/100)، برقم (16182)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
- رواه الحاكم في المستدرك (4/433)، برقم (8177)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (120)، وصححه في صحيح الجامع (1612).
- رواه الدارمي في سننه (2/174)، برقم (2163)، وقال محققه حسين سليم أسد: إسناده رجاله ثقات غير أن ابن إسحاق قد عنعن، ومع ذلك فقد قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، قلت: وكذا قال الشيخان الأرنؤوط في تحقيق زاد المعاد: إسناده حسن.
- رواه أحمد في المسند من حديث أبي رزين (26/103)، برقم (16183)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.