معنى حَصْحَصَ هو القطع أي: انقطع الحق من الباطل، وظهر، وبان، واتضح، ويحتمل أن يكون من الحصة أي ظهرت، وبانت؛ حصة الحق من الباطل، والمقصود بهذا ظهور الحق بعد خفائه.
"أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي: في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي تقول المرأة: ولست أبرىء نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته؛ لأن النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي أي: إلا من عصمه الله - تعالى -: إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا القول هو الأشهر، والأليق، والأنسب؛ بسياق القصة، ومعاني الكلام.
وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف يقول: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ الآيتين، أي: إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي، وليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ الآية.
وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير، ولا ابن أبي حاتم سواه، والقول الأول أقوى، وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك".
قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [سورة يوسف:52] يحتمل أن يكون هذا القول من كلام امرأة العزيز كما رجحه الحافظ ابن كثير، وعزاه لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وقال به طائفة من السلف والخلف، وهو اللائق بسياق الكلام باعتبار أن الأصل في الكلام الاتصال لا الانفصال، وإذا كان من كلام امرأة العزيز فإنه يحتمل معنيين في عود الضمير الهاء في قوله: لَمْ أَخُنْهُ يحتمل أنها تعني زوجها وهذا اختيار ابن كثير - رحمه الله - ويكون المعنى ليعلم العزيز أني لم أخنه في غيبته، ويحتمل أنها قصدت يوسف ﷺ أي أنها لم تفترِ عليه، ولم تقل عليه غير الحقيقة وهو غائب في السجن، والمعنى الأول هو الأقرب - والله تعالى أعلم - لأن التعبير بالخيانة في قضية كهذه الأقرب فيها أن المقصود بها الخيانة في العرض.
ويحتمل أن يكون قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ من كلام يوسف ﷺ، فيكون هذا من الموصول لفظاً المفصول في المعنى، ويكون المعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في حال غيبته في أهله، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة يوسف:53]، إذا قلنا: إن الكلام الأول من كلام امرأة العزيز فهذه الآية من كلامها، وإذا قلنا إن الكلام الأول من كلام يوسف فهذه الآية من كلامه، وهناك قول ثالث وهو أن قوله: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي من كلام العزيز، وهذا قول بعيد.
قوله: إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً ويكون المعنى: لكن من رحم ربي فكف نفسه عن أن تكون كذلك.