قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة يوسف:67-68].
يقول تعالى إخباراً عن يعقوب إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس - ا - ومحمد بن كعب، ومجاهد والضحاك، وقتادة والسدي وغير واحد: "إنه خشي عليهم العين؛ وذلك أنهم كانوا ذوي جمال، وهيئة حسنة، ومنظر، وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه".
فقوله - تبارك وتعالى - عن قِيل يعقوب - عليه الصلاة والسلام -: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ الآية، ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - خشية العين هو الذي عليه عامة المفسرين من السلف والخلف، وبعضهم يقول: إنه قال لهم ذلك؛ لأنه خاف عليهم من الملِك إذا رآهم وقد دخلوا مجتمعين، مع ما لهم من الهيئة والكمال، والصورة والحسن؛ أن يوصل إليهم أذى، أو أن يتخوفهم على ملكه، أو نحو ذلك، لكن الله - تبارك وتعالى - لم يبيّن العلة التي من أجلها قال يعقوب - عليه الصلاة والسلام - ما قال، والمقصود أنه قال ذلك خوفاً عليهم من أمر تخوفه، والأكثر أنه خشية العين، ولا شك أن في الاجتماع قوة، لكن أحياناً يكون على خلاف ذلك، فالأصل أن الاجتماع قوة؛ لكن مقتضيات الأحوال في بعض الأحيان قد تجعل القوة في التفرق وليس في الاجتماع، فقد يكون اجتماعهم إذا دخلوا مجتمعين سبباً لحصول الأذى لهم، والتفرق المقصود به التفرق بالأبدان وليس التفرق بالقلوب، فاجتماع الناس المقاتِلة في الحروب في مكان واحد يكون سبباً لإبادتهم، وإذا تفرقوا كان ذلك أدعى لبقائهم، ونكايتهم بالعدو، وليس المقصود التفرق بالقلوب وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، وهذا لا إشكال فيه.
فغاية ما هنالك أن هذا من باب بذل السبب، والإنسان مطالب ببذل السبب، ويتخذ ما يمكن أن يحصل به الخلاص، فإذا جاء القدر خلي بين العبد وبين ما قدّره الله عليه، وقضاه، فلا بد من وقوعه به، فهذا يعقوب - عليه الصلاة والسلام - يتخذ الأسباب، وليس ذلك من باب أنه من الحذر الزائد، أو سوء الظن بالناس، أو الوسوسة أو نحو هذا، فإن هذه الأمور تقع، ووقوعها كثير، وقد أخبر النبي ﷺ أن أكثر من يموت من أمته بسبب العين، لكن الإنسان قد لا يشعر بهذا، فقد تظهر هذه العين بصورة مرض معروف عند الأطباء يموت الإنسان منه عادة، وقد يصاب به بسبب العين وهكذا.
يحتمل أن تكون الحاجة هي دفع إصابة العين، إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، فيكون الاستثناء متصلاً "ما كان"، ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى "لكن" أي ولكن لحاجة في نفس يعقوب قضاها، ويحتمل أن تكون هذه الحاجة هي أنه أظهر لهم شفقته عليهم، ومحبته لسلامتهم، فقال لهم ما قال، ثم بيّن أن هذا لا يرد عنهم من قضاء الله شيئاً، لا ينجي حذر من قدر، ولما سئل ابن عباس - ا - عن الهدهد وما قيل من إنه يرى الماء وهو في الهواء؛ يراه تحت الأرض، فقالوا: فكيف يضع له الصبي الفخ، ويصطاده؟ فقال: "إذا جاء القدر عمي البصر"، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: قَضَاهَا يرجع إلى الدخول إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا أي: دخولهم متفرقين، وذلك أنه اطمأن أنهم لن يؤتوا من هذه الناحية التي تخوفها، فلو وقع لهم شيء وقد دخلوا مجتمعين لربما يقول: هذه عين أصابتهم، لكن طالما أنه حصل مقصوده من تفرقهم، وما أوصاهم به؛ فزال ما كان يتخوفه عليهم، واستراح من أن يؤتوا من هذه الناحية، لكن يمكن أن يؤتوا من أمر آخر كما حصل مما قصه الله بعد ذلك مما وقع لأخيهم، فاطمأنت نفسه بهذا الدخول الموصوف بهذه الصفة أنهم لم يؤتوا من قِبل دخولهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -.
قوله: لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ يحتمل ما ذكر من أنه لَذُو عِلْمٍ أي: عمل بعلمه، وإن كان هذا خلاف الظاهر، لكن هذا من باب أن العلم الحقيقي الذي ينفع هو الذي يعمل به صاحبه، ويمكن أن يكون من قبيل التفسير باللازم، وليس من التفسير بالمطابق، يقول: "وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه"، هذا هو الظاهر المتبادر، وبعض أهل العلم يقول: وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ أي: بأن الحذر لا ينجي من القدر، قال لهم هذا وهو يعلم أن الحذر لا ينجي من القدر، وبعضهم يقول: لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلّمْنَاهُ أي: بأن الحذر، وبذل الأسباب؛ مطلوب، ولكن هذا أبعد هذه المعاني.
وقوله: وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أي: لا يعلمون ما يعلمه يعقوب - عليه الصلاة والسلام - كما يقول ابن جرير - رحمه الله -.