قال المفسر - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة يوسف:83-86].
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدمٍ كذب: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال محمد بن إسحاق: "لما جاءوا يعقوب ، وأخبروه بما جرى؛ اتهمهم، فظن أنها كفعلتهم بيوسف قال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وقال بعض الناس: لما كان صنيعهم هذا مرتباً على فعلهم الأول؛ سحب حكم الأول عليه، وصح قوله: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف، وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه؛ إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، ولهذا قال: عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ أي: العليم بحالي الْحَكِيمُ في أفعاله، وقضائه، وقدره.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ أي: أعرض عن بنيه، وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ جدد له حزن الابنيْن الحزن الدفين، قال عبد الرزاق: "أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري عن سعيد بن جبير أنه قال: لم يُعط أحدٌ غير هذه الأمة الاسترجاعَ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب : يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ أي: ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق"، قاله قتادة وغيره، وقال الضحاك: "فهو كظيم كئيب حزين".
فقوله - تبارك وتعالى - عن قول يعقوب ﷺ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: زينت لكم أنفسكم أمراً، وذكر بعض المفسرين أنه لم يقصد تكذيبهم فيما قالوا من أن بنيامين قد أخذه العزيز، وإنما قصد أمراً آخر وهو شهادتهم، وقولهم: جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [سورة يوسف:75]، فهذه الشهادة كانت سبباً في أخذ العزيز له، وقال بعضهم: "إن إخوة يوسف كانوا سبباً فيما حصل؛ لأنهم طالبوا أباهم أن يأخذوا أخاهم بنيامين معهم".
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يمكن أن يكون قد حذف منه المبتدأ فهو خبر، يعني: صبري صبرٌ جميل، ويمكن أن يكون مبتدأ حذف منه الخبر، أي: صبرٌ جميل صبري.
قوله: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ الأسف هو شدة التوجع، والحزن على الشيء، والياء في قوله: يَا أَسَفَى للنداء كأنه يقول: يا أسفي احضر.
قوله: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [سورة يوسف:84] الكظيم هو الممتلئ حزناً، وهو الذي كتم حزنه ولم يظهره، وكظيم صيغة مبالغة على وزن فعيل لكثرة ما وقع ليعقوب من الحزن، وقد ذكر بعض أهل العلم أن الصبر على المصائب لم يكن في شريعتهم كما هو في هذه الشريعة، وهذا فيه نظر، وقد أثنى الله على الصبر وأهله، ومن ذلك ثناؤه على أيوب بقوله: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص:44] والواقع أن ما حصل من يعقوب ﷺ لا ينافي الصبر؛ لأن حزن القلب، ودمع العين؛ لا ينافي الصبر، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والصبر الجميل هو الذي لا جزع معه، ولا تسخط، ولهذا أعرض عنهم، وقد أخبر الله عن ذلك فقال: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ، ومعنى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ أي: أنه أصيب في بصره.