الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ الٓمٓر ۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱلْكِتَٰبِ ۗ وَٱلَّذِىٓ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى -: تفسير سورة الرعد وهي مكية.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الرعد:1].

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقدمنا أن كل سورة ابتدأت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب؛ ولهذا قال: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [سورة يونس:1] أي: هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي: يا محمد مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ خبر تقدم مبتدؤه، وهو قوله: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.

قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن سورة الرعد: "وهي مكية"، هو قول جمهور أهل العلم، وهذا هو الأقرب، ومن أهل العلم من قال: بأنها نزلت بالمدينة، وبعضهم قال: إنها نازلة في مكة سوى آيتين، والسورة التي نزلت قبل الهجرة هي مكية، ولو نزل شيء في مكة بعد الهجرة فإنه يكون من قبيل المدني وليس من قبيل المكي، ومن القواعد في هذا الباب: أن السورة النازلة في مكة الأصل أن جميع الآيات فيها نازلة في مكة إلا لدليل، وأن السورة النازلة في المدينة الأصل أن جميع الآيات التي فيها نازلة في المدينة إلا لدليل، والاستثناءات التي يذكرها المفسرون عادة، يقولون: إلا آية كذا، في كثير من الأحيان يكون مرجع ذلك النظر إلى المعنى، وهذا فيه نظر، فإذا كانت الآية مثلاً تتحدث عن اليهود، قالوا: هذه السورة مكية إلا الآية الفلانية فإنها مدنية، مع أنه لا إشكال أن تأتي السورة المكية متحدثاً عن اليهود، كما أنهم يذكرون هذا أحياناً بناء على معنى لاح لهم في الآية من حكم فهموه منها، مع أن الآية تحتمل هذا كما تحتمل غيره، فقول الله - تبارك وتعالى -: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ۝ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:14-15]، هذه السورة مكية، ففهم بعضهم منها أن  تَزَكَّى يعني: أخرج زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ  يعني: التكبير للعيد، فَصَلَّى يعني: صلاة العيد، قالوا: وزكاة الفطر والجهر، رفع الصوت بالتكبير، وصلاة العيد كل ذلك ما شرع إلا في المدينة، فقالوا: هذه الآية مدنية، من سورة مكية، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن معنى الآية غير هذا، ولأن الآية قد تنزل متحدثة عن أمر أو عن حكم قبل وقوعه، فلو فرضنا أن هذا هو المعنى، مع أنه ليس كذلك، فإنه يطبق عليه ما سبق، الآية تنزل متحدثة عن أمر عن حكم قبل وقوعه، وهذا موجود في القرآن، وما ذكروه في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر:2]، مع أن هذه السور مدنية، لكن قالوا: في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ المقصود صلاة العيد – عيد الأضحى - والنحر يعني الهدي والأضاحي، وهذا المعنى قد لا يكون هو المراد بالآية، وإنما الآية تأمر بالإخلاص في كل الأعمال في الصلاة، كقوله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:162]، والنسيكة: هي الذبيحة، فأنحر أي اذبح لله ولا تذبح لغير الله من الأصنام والمعبودات ونحو هذا.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة"، وأقرب هذه الأقوال والعلم عند الله هو القول بأن هذه الحروف هي من حروف المعجم، ولا معنى لها في نفسها، ولا يقال يوجد في القرآن شيء لا معنى له، فالقرآن ليس به حشو، والمقصود: أن هذه حروف مباني وليست بحروف معاني، فحروف المعاني مثل: "في" حروف الجر مثلاً، "إلى،عن، على"، فالنحاة يقولون: لا معنى لها في نفسها، وإنما تربط بين أجزاء الكلام، لكن الأمر ليس كذلك، فلها معنى في نفسها، فعلى تدل على العلو أو الاستعلاء، وفي تدل على الظرفية، وهكذا، والقسم الثاني هو حروف المباني التي تكون منها الكلمات، فالزاي من زيد، الزاي والياء والدال، هذه إذا أفردت ليس لها معنى في نفسها، فهذه الحروف المقطعة ليس لها معنى في نفسها، وإنما تدل على معنى، والابتداء بها يدل على الإعجاز، وأن هذا القرآن قد ركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام، فهو يتحداهم أن يأتوا بمثله، وأنزله على سبعة أحرف، سبعة أوجه من وجوه التغاير، وكل ذلك بالغ في الإعجاز غايته، وهم يعجزون عن محاكاته والإتيان بمثله، ولذلك تجد إذا ذكرت هذه الحروف المقطعة ذكر بعدها القرآن، الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2]، يذكر الكتاب، يذكر الوحي والتنزيل وما شابه ذلك، إشارة إلى هذا المعنى، الم ۝ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [سورة آل عمران:1-3] وهكذا.

وقال في هذه السورة: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ أي: هذه آيات الكتاب وهو القرآن، ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يرى أن قوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ يعني: القرآن وأن ما ذكر بعده من صفته، نفس القرآن، وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ، ومن أهل العلم من السلف من يقول: بأن الجملة الأولى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ليس المقصود بها القرآن، بناء على أن العطف يقتضي المغايرة، فيكون معنى قوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ أي: الكتب التي نزلت على الأنبياء قبلكم، ثم عطف عليه القرآن، فقال: وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ، فهذا هو القرآن، فلا يكون بهذا الاعتبار من قبيل عطف الصفات، وإنما هذا العطف عطف تغاير، فالأول غير الثاني، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، والذين قالوا كالحافظ ابن كثير: بأن هذا من قبيل عطف الصفات قالوا: إن الصفات تأتي متتابعة تارة بالعطف بذكر حرف العطف وتارة بحذفه، كما قال الله : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4]، فهذا كله يعود إلى موصوف واحد، فهذا من باب عطف الصفات.

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

فقول ابن كثير تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ يعني: القرآن، وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ يعني: هو القرآن، فكل ذلك من صفته، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -، فذلك يرجع إلى القرآن، والله سمى هذا القرآن كتاباً، ولا يستشكل هذا بأنه في ذلك الحين لم يكن القرآن مكتوباً، ولم ينزل في كتاب، فالمراد بقوله - تبارك وتعالى - في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ أنه القرآن قطعاً، ومن تتبع موارد هذه اللفظة في القرآن فإن الذي يترجح والله تعالى أعلم أن المراد بالكتاب هو القرآن، إلا لقرينة أو دليل يدل على ذلك، والعطف هنا ليس دليل.

وقوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ أي: مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.